تتباين أحوال الثورات العربية وأسبابها، بحسب أوضاع وخصوصيات البلدان التي تشهدها، لكن قاسماً مشتركاً واحداً يجمع بينها هو موات مرحلة مديدة استمرت أكثر من ستين عاماً وجعلت من المنطقة ما تعارف العالم، وحتى العرب أنفسهم، في الأعوام الأخيرة على وصفه ب"رجل العالم المريض". جاءت الأنظمة التي أسقطت الثورات العربية ثلاثة منها للآن، وتعمل على إسقاط الباقي في الفترة المقبلة، تحت عناوين وشعارات لم تفعل على مدى حكمها سوى ما يتناقض كلياً معها. وفي العقود الأخيرة، لم يعد أحد من العرب، ولا من غيرهم في العالم، يحتاج الى دليل على أن الحال في المنطقة مقبل على انهيار شبه كامل. بل انه عندما كان يقال مثلاً إن إيران أو تركيا، أو غيرهما من القوى الإقليمية والدولية، تتقدم في المنطقة بدعوى المساعدة على حل مشكلاتها أو لملء فراغ بات مقيماً فيها، فلم يكن هذا القول إلا تعبيراً عن ذلك الواقع. من بين الشعارات التي رفعتها هذه الأنظمة، ووضعها البعض في سورية والعراق تحديداً لافتات على سواري الدبابات التي استقلتها الى السلطة، إنهاء ما سمته"الرجعية العربية"من جهة وبدء مسيرة أطلقت عليها أوصافاً لا تقف عند حدود العدالة الاجتماعية وإنصاف العمال والفلاحين وتوزيع الثروة بالعدل، بل تتعداها الى ما كان يقال عن الاشتراكية الديموقراطية، وحتى العلمية كما في اليمن الجنوبي لاحقاً. وعملياً، ما انتهى إليه الحال بعد ذلك كان ما يعرفه الكل من أنظمة"تاريخية"، بمعنى القدم لثلاثين وأربعين عاماً من دون توقف، بل ووراثية من الأب الى الابن وربما الحفيد في ما لو لم يبدأ"الربيع العربي"الذي يجتاح المنطقة منذ شهور. ومن بين اللافتات التي جعلت منها لازمة بلاغاتها العسكرية الرقم 1، تحرير أرض فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي عفواً الصهيوني، بدعوى عدم اعترافها بدولة إسرائيل حينها، ثم لاحقاً تحرير ما تم احتلاله من باقي أرض فلسطين والأراضي العربية الأخرى عام 67، مع أن بعضها كان يعقد اتفاقات سلام سرية، ثم علنية، والآخر يتفاوض على اتفاقات مماثلة، مع دولة الاحتلال هذه. وفي السياق، كانت حكاية الثورة الفلسطينية، وفصائل منظمة التحرير التي تناسلت منها أو أقيمت باسمها، معروفة للجميع خصوصاً لجهة أن كل نظام عربي كان له فصيله"الفلسطيني"الخاص به وأجندته الخاصة أيضاً، لخدمة أهداف هذا النظام وأغراضه المحلية والإقليمية والدولية... ما أدى في النهاية الى ما وصف حقا ب"هروب"رئيس المنظمة ياسر عرفات من أسار هذه الأنظمة و"سرقة"الورقة الفلسطينية من بين براثنها الى"اتفاق أوسلو"مطلع التسعينات. في هذه المرحلة التعيسة بكل المعاني، في المنطقة عامة وفي كل أرض عربية على حدة، كثرت الشعارات التي لم يكن زيفها وتهافتها آخرها مقولة"المقاومة والممانعة" يحتاج الى برهنة، في الوقت الذي كثرت فيه دلائل الإخفاق والانهيار ليس على مستوى الوضع الداخلي لهذه البلدان فحسب، وإنما على مستوى صورة الأنظمة والمنطقة في عيون شعوبها وشعوب العالم كله أيضاً. وهكذا، بدلاً من"تحرير فلسطين"أو العمل الجاد من أجله، كانت القوات الإسرائيلية توسع رقعة هيمنتها وتحتل أول عاصمة عربية في التاريخ، بيروت، ثم كانت القوات الأميركية والبريطانية تحتل ثانية هذه العواصم، بغداد، كما تحتل قوات عراقية عربية هذه المرة عاصمة عربية ثالثة، الكويت، بينما كانت تنشب خمس حروب أهلية دامية ومديدة في لبنان والأردن والسودان والعراق واليمن الخ... والأفدح أن إسرائيل التي قامت هذه الأنظمة باسم الاستعداد لمواجهتها وتحرير الأرض التي تحتلها في فلسطين، باتت أقوى قوة في الإقليم كله، عسكرياً واقتصادياً وعلمياً ومالياً، كما ألحقت هزيمتين كبريين عملياً، نكبتين بعد النكبة الأولى في عام 48 بجيوش هذه الأنظمة في 1967 و1973، فضلاً عن الهزائم الصغيرة الأخرى في حروب صغيرة هنا وهناك على امتداد المنطقة وحدودها مع دول تلك الأنظمة. ماذا تفعل الثورات العربية الآن؟ ما تفعله هذه الثورات هو العمل على إنهاء هذه المرحلة. وفي المقابل، فما تفعله الأنظمة رداً على ثورات شعوبها، هو قتل هذه الشعوب بالأسلحة التي كدستها تحت شعار"لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وفي حروب أقرب ما تكون الى حروب إبادة جماعية وشاملة.. دفاعاً عن نفسها من جهة، وسعياً لإعادة إنتاج المرحلة نفسها، بكل مساوئها وويلاتها ونكباتها من جهة ثانية.أليس من الطبيعي، والحال هذه، أن يحمل الانتقال الى مرحلة أخرى مختلفة ما تشهده مصر وتونس وليبيا وغيرها من ارتباكات مقلقة، وحتى ارتجاجات مخيفة في بعض الأحيان، بعد سقوط أنظمتها الاستبدادية على الطريق الى بناء نظام حكم جديد ومختلف في كل منها؟ ذلك أن أنظمة القائد الواحد، والحزب الواحد، لم تلغ الحياة السياسية في بلدانها فقط، بل إنها عملت على مدى عقود، وبقرار متعمد، على تفكيك المجتمعات نفسها، طائفياً ومذهبياً تارة، وعرقياً وقبلياً تارة أخرى، ومصلحياً زبائنياً بين الفقراء والأغنياء تارة ثالثة، الى الحد الذي جعل من كل مجتمع مشروع حرب أهلية في أية لحظة. وعملياً، فليس كلام الأنظمة الواحد في كل بلد من بلدانها بأن البديل سيكون حرباً أهلية مديدة، إلا دليلاً على وحدة الحال في ما بين هذه الأنظمة على رغم كل ما يقال في الظاهر عن الاختلاف بينها. في المقابل، لا تعني مطالب الشعوب الثائرة على الحكام الواحدة بدورها باستعادة الكرامة المفقودة، معطوفة على الحرية والديموقراطية والعدل الاجتماعي، إلا دليلاً على وحدة الحال في ما بين الشعوب هذه على رغم التباينات في أوضاع الواحد منها عن الآخر والخاصيات التي يتميز بها كل منها. فهي مرحلة شاذة بكل المعاني، في المنطقة على المستوى العام، وفي كل بلد عربي على حدة على المستوى الخاص. وهي ما تستهدف الثورات العربية وضع حد نهائي لها بعد أن نالت الشعوب منها ما نالت، تهميشاً وإفقاراً وتجهيلاً وتحقيراً وتشريداً في بلاد الله الواسعة. ومن هذه الزاوية، فهي ثورة واحدة من أجل هدف سام واحد، وإن تباينت وتائرها وأحوالها وأسبابها الذاتية في كل بلد من بلدانها: إنهاء مرحلة بالغة السواد في تاريخ المنطقة. وليس سوى جاهل، أو مغرض، من يتوهم أن ما بعدها لن يكون إلا أفضل بما لا يقاس مما كانت عليه. * كاتب وصحافي لبناني