ثمة نقاش ليس جديداً يدور في أروقة الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي حول مركزية الصراع العربي الإسرائيلي أو ما يطلق عليه البعض "القضية الفلسطينية" ولكن الجديد في هذا النقاش هو ارتفاع صوته وحدته مع اشتعال الثورات الشعبية العربية منذ نهاية ديسمبر من العام 2010، حيث أصبح الإنسان العربي أكثر انشغالا بقضية الحريات، وبمستقبل البلاد التي شهدت ولا تزال تشهد حراكا شعبيا ارتكز في مجمله على قضايا مطلبية "قُطرية" في هذا البلد أو ذاك.فهل لا يزال الصراع العربي الإسرائيلي قضية مركزية للأمة العربية؟ وما الذي يمكن أن يدفع المواطن العربي المثقل بهمومه "الوطنية" للالتفات كثيرا لما يحصل في أرض الصراع- فلسطين؟ قبل البداية في نقاش التساؤلات المطروحة في الجدل حول مركزية الصراع العربي الإسرائيلي، لابد من تحديد منطلقات هذا الجدل، وخلفياته، والفئات التي تطرحه، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث فئات تختلف في أيديولوجياتها ومنطلقاتها وزوايا نظرها للمسألة. وأولى هذه الفئات هي تلك "النخب" التي كفرت منذ زمن ليس بالقصير بالقومية وانحازت ونظرت للقطرية، ودعت في أدبياتها إلى أهمية تفرغ كل شعب عربي للبحث عن حلول لمشكلاته الداخلية بدلا من التفكير في الصراع العربي الإسرائيلي. وقد وجدت هذه الفئة ضالتها ببعض المظاهر التي رافقت الثورات الشعبية العربية، والتي قرأها البعض على أنها دليل على تمكن الهموم المحلية من الشعوب العربية، بدليل أن الشعارات التي طرحت في المظاهرات والاحتجاجات كانت في أغلبها مسكونة بالهم الداخلي، متناسية أن الجماهير في خضم صراعها مع أنظمتها الاستبدادية لم تنس فلسطين في بعض الفعاليات والشعارات، كشعار "الشعب يريد تحرير فلسطين " الذي تغنى به التونسيون أو أحداث السفارة الإسرائيلية في القاهرة، أو المظاهرات التي خرجت في أكثر من بلد عربي عند بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر الماضي.أما الفئة الثانية فهي أولئك الشباب أو النشطاء الذين سئموا من استخدام قضية فلسطين كمبرر لكل أنواع الفشل على الصعيد الداخلي، وخصوصاً تلك الأنظمة الأكثر بؤساً وقمعية في سوريا وليبيا. وتبقى الفئة الثالثة وهي تشمل بعض الذين يرفعون شعارات أممية، ويرون أن فلسطين -على أهميتها الدينية المتمثلة بالقدس والمسجد الأقصى- هي بلد مسلم مثل أي بلد، ولذلك فلا يجوز إعطاؤها أهمية أكبر من صراعات وهموم إسلامية أخرى التي يعاني فيها المسلمون من صراعات واضطهاد في مختلف أنحاء المعمورة. وبغض النظر عن الخلفيات لطرح هذا الجدل، إلا أنه يبقى جدل مشروع لابد من نقاشه بشكل علمي، خصوصا ونحن نعيش في مرحلة صناعة "النظرية" أو الأسس الجديدة للبلاد العربية في عصر ما بعد الثورات، ولهذا فإن الشعارات القومية لم تعد كافية لشرح مركزية فلسطين، إذ أن هذه المركزية ترتكز أيضا على أسس عقلانية تتعلق بقيمة "إسرائيل" الإستراتيجية للمشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وبكون هذه الدولة منطلقا لكثير من الصراعات العربية العربية، وبتأثيرها في صنع بعض السياسات الداخلية في دول المنطقة. منذ إنشائها، كانت "إسرائيل" رأس الحربة في المشروع الغربي الساعي إلى تفتيت وإضعاف المنطقة، ولذلك فقد حظيت الدولة الوليدة برعاية الإمبراطورية البريطانية الآخذة في الأفول في ذلك الوقت، كما حصلت على اعتراف سريع جدا من الدولتين العظميتين الصاعدتين آنذاك أميركا والاتحاد السوفياتي. ومع نهاية العصر الإمبراطوري البريطاني وبروز الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، أخذت هذه الدولة أهمية جديدة بالنسبة للولايات المتحدة، التي تعاملت معها كحليف إستراتيجي وأداة استعمارية في المنطقة. وعلى الرغم من الجدل الذي شهدته الساحة السياسية الأميركية حول أهمية "إسرائيل" الإستراتيجية لواشنطن في الأربعينيات والخمسينيات، إلا أن هذا الجدل حسم بشكل شبه تام بعد نكسة حرب حزيران، حيث استطاعت تل أبيب بعد هذه الحرب أن تقنع كافة دوائر صناعة القرار في واشنطن أنها حليف يمكن الاعتماد عليه، بعد أن هزمت دولتين من أهم حلفاء موسكو في المنطقة العربية وهما مصر وسوريا. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، تشهد الولاياتالمتحدة حالة قد تصل إلى الإجماع حول كون إسرائيل دولة إستراتيجية هامة في السياسة الأميركية في المنطقة، وعلى الرغم من وجود بعض الأصوات الرافضة لهذا الإجماع، إلا أنها لا تزال تمثل صوتا خافتا بمقابل الطرف الآخر، الذي لا ينظر فقط إلى أهمية "إسرائيل" في المنطقة، بل يتجاوز ذلك بوصف تل أبيب كحليف واحد ووحيد لواشنطن في الشرق الأوسط. لقد وقفت "إسرائيل" مع الولاياتالمتحدة في كل حروبها، وتعاونت معها استخباريا في مجالات متعددة، وقدمت وتقدم لها تعاونا عسكريا غير محدود، بل إن واشنطن تدير قواعد عسكرية أميركية بشكل مباشر في "إسرائيل"، كما أن الأخيرة تشكل قاعدة لتصنيع بعض الأنواع الدفاعية من الأسلحة . منذ إنشاء دول الاستقلال العربية بعد تفكيك الاستعمار الأوروبي، شهدت هذه الدول صراعات متعددة فيما بينها، ولا تزال بعض هذه الصراعات مستمرة حتى الآن. وعلى الرغم من تعدد أسباب هذه الصراعات، إلا أن "إسرائيل" كانت حاضرة في معظم الخلافات العربية العربية بشكل مباشر أو غير مباشر، دون أن يعني ذلك أنها كانت المسؤولة عن كل العلاقات السيئة بين الدول العربية، إذ أن اختلاف المصالح بين أنظمة هذه الدول كان سببا رئيسيا آخر في الصراعات فيما بينها.إن الصراع العربي الإسرائيلي كما تظهر الأمثلة السابقة كان سببا أساسيا في الصراعات العربية العربية، وهو ما يؤكد مركزية هذا الصراع، وأهمية إنهائه، بدلا من الدعوات "القُطرية" التي تدعو لتراجع الاهتمام به، فهذا الصراع هو أس الصراعات الأخرى، على الرغم من كل مزاعم أصحاب النظريات الشوفينية. إضافة إلى تأثير الوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية على الصراعات بين دول هذه المنطقة، فقد لعب هذا الوجود دورا سلبيا في السياسة الداخلية للأنظمة العربية، مما يؤكد مركزية هذا الصراع، وضرورة تضافر الجهود العربية لحلها بطريقة عادلة تعيد الحقوق العربية.