Ephraim Nimni ed.. The Challenge of Post-Zionism. تحدي ما بعد الصهيونية. Z books, London-New York. 2003. 202 pages. شارك في تحرير هذا الكتاب تسعة من الكتاب اليهود والعرب، من أبرزهم في الجانب اليهودي داهان كاليف وحنه هيرزوغ وايلان بابيه وافرايم نيمني، ومن الجانب العربي اسعد غانم وادوارد سعيد. يقول المحرر في مقدمته: "ما بعد الصهيونية" عبارة تحمل معنى الأمل، وهي تثير كثيراً من الجدل حول أهداف الدولة الاسرائيلية وطبيعها ومستقبلها. وقد امتد الجدل، الذي يراه بعضهم محطماً للمعتقدات والمؤسسات الصهيونية التقليدية، الى يهود الشتات، والى المنظمات الموالية لليهود خارج اسرائيل، والتي شن بعضها انتقادات حادة ضد المنشقين" أي المؤيدين ل"ما بعد الصهيونية". أما في الداخل ف وصل الأمر، مثلاً، بليمور ليفنات وزيرة التربية في حكومة شارون الى التنديد بخطر النصوص التاريخية التي تُدرس في الصف التاسع بعنوان "تحديات عالمية" لأنها تنتمي الى تيار "ما بعد الصهيونية"، وليس على درجة كافية من "الوطنية"! وأمرت بسحب جميع نسخ الكتاب، وقالت انها ستشن "حرباً صليبية" لإعادة فكرة "ما بعد الصهيونية" الى مكانها الصحيح! بيد ان استمرار الخلاف ما هو إلا دليل واضح على ان الجدل ليس مسألة سياسية تافهة، وليس حول اجراء تغيير مهم في التوجه الايديولوجي، بل هو حول اعادة تقويم شاملة لطبيعة السياسة الاسرائيلية. وعلى رغم عدم وضوح تعبير "ما بعد الصهيونية" في أوساط بعض مستخدميه، أو المستخفين بقدره، إلا ان الجدل يطال ما اذا كان على الدولة ان تكون يهودية، أو ديموقراطية، والتناقض الكامن في محاولة تحقيق هذين الهدفين في وقت واحد. ذلك ان مثل هذه المحاولة تنسف علم الاجتماع وعلم السياسة اللذين يرسمان التأييد الأكاديمي والفكري للخطاب الرسمي للحركة الصهيونية. لا تؤكد "ما بعد الصهيونية" ان الاسرائيليين نمط خاص وفذ من الجماعة اليهودية. فالإدعاء الذي يثير الخلاف حول "ما بعد الصهيونية" ان اسرائيل ينبغي ان تنمّي هوية مدنية وإطاراً مؤسسياً، توجهها القيم الكونية للديموقراطية الليبرالية، كما لا توجد اثنية تمتاز عن غيرها وجودياً. وهذا هو الإدعاء الذي يرفضه الصهاينة التقليديون الذي يقولون ان اسرائيل دولة يهودية عرقية وجدت لحل الوضع القومي غير الطبيعي للشعب اليهودي، وانها ستفقد هدف وجودها اذا تخلت عن هذه المهمة. ويرد أنصار "ما بعد الصهيونية" على هذا الادعاء بتحدي خصومهم ان يثبتوا امكانية ان يتوافق هذا الهدف مع الديموقراطية الليبرالية. ويخلصون الى ان اسرائيل لا بد ان تختار، عاجلاً أم آجلاً، بين ان تكون دولة "ديموقراطية" أو دولة "يهودية"، وهي لا يمكن ان تجمع الاثنتين معاً. ويرد الصهاينة بأن اليهود بنيغي ان تكون لهم مكانة متميزة في الدولة العبرية، ويمكن لهذه الدولة، مع هذا، ان تكون ديموقراطية وعادلة تجاه الاقليات العرقية فيها، وان تقدم تنازلات تتعلق بالحقوق الوطنية للأقليات العربية. في المقابل، يرى أنصار "ما بعد الصهيونية" ان معظم الديموقراطيات الليبرالية توجهت الى حد كبير نحو اشكال أكثر "مدنية" وأكثر "ما بعد القومية" في هوية الدولة، وانه على رغم انهيار يوغوسلافيا السابقة فإن الدول المتعددة الأعراق هي القاعدة لا الاستثناء، ويضيفون: ان اليهود ينبغي ان يتعلموا من تاريخهم ان محاولات خلق الدولة - الأمة من مجتمعات متعددة الأعراق أمر مثير للانشقاق، بل ما هو اسوأ. لهذا فالخيار أمام اسرائيل هو بين عرقية صهيونية جديدة خالصة، وبين ديموقراطية ليبرالية ما بعد صهيونية. ويلفت المحرر أنظارنا الى ان هذا الجدل بين التيارين، داخل اسرائيل وخارجها، قد يبدو غامضاً ومشوشاً للقارئ غير المطلع. اذ من الصعب ايجاد تعريفات واضحة ل"ما بعد الصهيونية"، وهي إن وجدت فغالباً ما تكون توفيقية، وكثيراً ما ينسب اليها مؤيدوها ومعارضوها معاني مختلفة أو متناقضة. كذلك يعزو المحرر سبب ظهور "ما بعد الصهيونية" الى تأثير العولمة في المسرح الاسرائيلي الضيق. ولعل الأفضل ان نعيد أصل الحركة الى انها جزء من مرحلة انتقالية كبرى في الحياة الاجتماعية الاسرائيلية. ففي القرن الأخير كان ثمة تحول مهم في قناعات بعض الشخصيات المؤثرة في الأوساط الأكاديمية، فوفر هذا التحول الخلفية الفكرية لتطوير "ما بعد الصهيونية". وكان من بين أهم نتائج التحول، أو "الانشطار الابيستيمولوجي" أو المعرفي، كما يسميه المؤلف، الابتعاد الملحوظ عن النموذج الفكري التقليدي للمحافظة على المشروع الصهيوني. ويرى المحرر ايضاً ان المجادلات الدائرة اليوم في اسرائيل بين التيارين ليست مناقشات أفراد يعيشون في أبراج عاجية. وهي لم تعد تتناول قضايا داخلية، بل تعدتها الى الصراعات الخارجية الحاسمة، كالنزاع العربي - الاسرائيلي، وغزو أدمغة وعقول يهود الشتات. وهذا ما دعا بعض دعاة المحافظة على الوضع الراهن الى القول ان هذه المجالات ليست حول "تفسير جديد للتاريخ" فقط، بل انها تنحو نحو تدمير اسرائيل كدولة استيطانية، وبالتالي نسف شرعيتها وسبب وجودها. وكان المرحوم ادوارد سعيد قد دعا المثقفين الفلسطينيين الى التحاور المفتوح مع "المؤرخين الجدد" وممثلي "ما بعد الصهيونية"، لا سيما حول لا أخلاقية الأعمال التي نجمت عن الاستيطان في فلسطين. وقد التقى هو نفسه ببعض ممثليهم غير مرة، ووصف بعضهم من أمثال بيني موريس، وايلان بابه، وزيف ستيرنهل، بالمفكرين اللامعين، ودعا الى ترجمة أعمالهم الى العربية، ونوّه بشكل خاص بأعمال كيميرلينغ الذي بيّن ان اسرائيل أضحت مجتمعاً متنوع الثقافات، خلافاً لمجتمع الثقافة الواحدة الذي كان يصوره الحلم الصهيوني. تجد ثقافة "ما بعد الصهيونية" ترحيباً في بعض الأوساط الأوروبية، إلا ان هذه الأوساط ترى ان هذا التيار لا يتمتع بجرأة كافية لمجابهة التيار السائد، أو ان أنصاره يقفون موقفاً وسطاً ما بين الشجاعة والمهادنة، فهم "أسود في التحليل، وحملان في التوجيه والإرشاد". والحق ان مناقشاتهم تكاد تقتصر على الأوساط الاكاديمية، وعلى الأدبيات الرصينة، ولم تأخذ طريقها بجرأة الى النقاش العلني لدى الرأي العام. ومع هذا يرى المحرر ان الجدل حول التعددية الثقافية هو الجدل الواعد. فحتى وقت قريب كان هذا الموضوع يصعب الخوض فيه داخل اسرائيل. لكن رؤية المشكلة باتت تتجاوز مواطني اسرائيل الفلسطينيين لتشمل المهاجرين الروس الذين يطالبون بنوع من الاعتراف بخصوصيتهم ضمن اطار "الصهيونية". ويشرح المحرر الغاية من هذا الكتاب بأنها ليست محاولة لاحتضان الخطاب ما بعد الصهيوني. فالهدف المتوضع "أن أصف للقارئ غير الاسرائيلي التحدي الذي يمثله الجدل "ما بعد الصهيوني" من منظورات مختلفة ومتناقضة احياناً، للنظام الصهيوني القديم. ان أبيّن الخلاف الذي يولّده من منظور سياسة اسرائيلية راديكالية ديموقراطية. فبعض المساهمين في هذا الكتاب هم من أنصار "ما بعد الصهيونية"، وبعضهم من منتقديها وبعضهم الثالث بين بين ... إن "ما بعد الصهيونية" التي نشأت في أوساط الطبقة المتوسطة هي أقل اهتماماً بالأساطير التاريخية، وأكثر التزاماً بالحقوق المدنية من التزامها بالقومية العرقية". ويتفق المحرر مع ايلان بابيه في تقسيمه للصهيونية الى "ثلاث صهيونيات" تتعارض في ما بينها. فهناك الصهيونية التقليدية التي يمثلها حزبا العمل وليكود، وتمثل التيار السائد، وهناك "الصهيونية الجديدة" التي تعتبر تفسيراً متطرفاً للصهيونية، وتمثل التحالف بين الحاخامات الارثوذكس والمستوطنين القوميين المتطرفين. أما "ما بعد الصهيونية"، فظاهرة يهودية تمثل مرحلة انتقالية "للخروج" من الصهيونية، ولكن من غير الواضح الى أين، ومن الضروري لها ان ترسم المستقبل في نقاش مشترك مع الفلسطينيين. انه كتاب غني بالتحليل والمناقشات المفيدة حول حركة "ما بعد الصهيونية" التي لا يكاد يعرف عنها المثقف العربي إلا أقل القليل. ولا يسعني هنا إلا الإشارة الى مجلة "الدراسات الفلسطينية" التي تصدر في بيروت والتي كان لها قصب السبق في هذا المجال حين نشرت، قبل سنوات قليلة، بعض المقالات المترجمة لأبرز ممثلي الحركة المذكورة.