قدّمت كارثة الفيضانات في باكستان نموذجاً عن كابوس طالما حذّر نشطاء البيئة من حدوثه، بمعنى أن الاحتباس الحراري يؤدي الى زيادة ذوبان الثلوج في القطبين، فتصب كميات كبيرة من المياه في البحار والمحيطات. ومع ارتفاع درجات الحرارة، يزداد تبخر المياه التي تضخمت كمياتها، فترتفع معدلات الأمطار بطريقة غير طبيعية، إضافة الى تصاعد حدّة العواصف والأعاصير. وتهطل الأمطار بكثافة غير مألوفة على مناطق غير مؤهلة تاريخياً لمواجهتها، ما يؤدي الى كارثة السيول والفيضانات وانزلاقات الوحول وغيرها. ومع الكارثة، تنهار المجتمعات الضعيفة أصلاً. ويتشرد السكان. ويظهر لاجئو المناخ. وتنهار نظم الحياة اليومية، ومنها نظم الرعاية الصحية الواهنة أصلاً. وتتفشى الأوبئة. ولا تجد الحوامل من يرعاهن. وتفتقد الولادات الى الأيدي الخبيرة والأماكن الصحية، ما يهدد صحة المرأة والأطفال. وبرهنت باكستان وكذلك كارثة انزلاقات الطين في الصين المجاورة أن الوصف السابق ليس سيناريو لفيلم خيال علمي، ولا تهويلاً من نشطاء متحمسين للبيئة. إنه واقع البيئة. إنه كارثة باكستان. حلّ شهر رمضان هذا العام بعد أيام قليلة على كارثة السيول والفيضانات في جمهورية باكستان، حيث تضرّر ما يصل إلى أربعين مليون إنسان، يعيش خمسة عشر مليوناً منهم تحت وطأة معاناة يومية قاسية للمرض والجوع والتشرد، ما يلزمنا بالعمل على الانخراط في الممارسة الإنسانية الحقَّة، عبر المشاركة عملياً في رفع معاناة المحتاجين. ويترافق الشهر الكريم أيضاً مع مناسبة دولية تتمثل في"اليوم العالمي للمساعدة الإنسانية"الذي يصادف في التاسع عشر من آب أغسطس. الأمراض تؤازر الكوارث استجابةً للظرف الراهن الذي تمرّ به أربع وسبعون مقاطعة في باكستان، تحرّكت"منظمة الصحة العالمية"بالتنسيق مع شركاء التنمية، لتقديم المساعدة مبكراً. وتبيّن الإحصاءات وجود ألف وأربعمئة حال وفاة، وعشرات آلاف حالات الإصابة بالإسهال، والملاريا، والأمراض الجلدية، وأمراض الجهاز التنفسي، والتهابات العين، والتعرض لعضات الحشرات والزواحف، وغيرها. إضافة الى ذلك، يحتاج ما يزيد على مليونين وأربعمئة ألف طفل دون الخامسة من العمر، رعاية طبية وقائية، بالتركيز على إعطائهم اللقاحات الأساسية لتحصينهم ضد أمراض مُعْدية، مثل شلل الأطفال والحصبة. وكذلك تحتاج ثلاثة ملايين امرأة في سن الإنجاب إلى رعاية طبية مخصصة للحوامل، إضافة إلى ما يزيد على مئة ألف ولادة تتطلب ظروفاً صحية ملائمة، وقرابة ألفين وسبعمئة حال ولادة متعسّرة تستلزم تدخلاً جراحياً. وكذلك ينتظر 280 ألفاً من ذوي الحاجات الخاصة رعايتهم في ظل هذه الظروف القاهرة. ولا شك في أن استمرار ظهور الأوبئة في عدد من المناطق ونقص الإمداد بكثير من المواد والكوادر البشرية اللازمة للإغاثة، مَدْعاةٌ للعمل فوراً على تقديم الرعاية الصحية والاجتماعية، خصوصاً توفير المتطلبات الأساسية للمتضرّرين. وتمثَّل الدعم المقدم من"منظمة الصحة"، في المساعدة التقنية لتنظيم أعمال الإغاثة، إضافة إلى إرسال مواد إسعاف تشمل 14 صنفاً أساسياً لمواجهة الأمراض المُعْدية والحروق والصدمات وغيرها، بكميَّة تغطي حاجات 800 ألف شخص لمدة شهر. وكذلك تتواصل المنظمة يومياً مع الحكومة الباكستانية لمتابعة الوضع عن كثب عبر الخبراء وفرق الإغاثة والكوادر الطبية المؤهلة في مجال مكافحة الأوبئة. كما يتواصل العمل مع المانحين على حشد التأييد والدعم لمصلحة منكوبي السيول والفيضانات، مثل تأمين التمويل المطلوب للغذاء والدواء والمأوى، والتعامل مع الحالات المرضية، خصوصاً مع تدمير ستة وتسعين مرفقاً صحياً، ما يتطلب تعزيز أعمال الفرق الميدانية لتعويض النقص في الخدمات الأساسية. وتعمل المنظمة عبر مكتبها الإقليمي في شرق المتوسط، على تنسيق التدخلات الإنسانية لتقديم المزيد من المساندة لمواطني باكستان، ولا سيّما للنازحين الذين يعانون من نقص في الإمداد في الغذاء والدواء، إضافة الى المعاناة الضخمة المترتبة على غياب مصادر مأمونة لمياه الشرب. وتشير إحصاءات ميدانية إلى أن ثمانين في المئة من سكان المناطق المتضرّرة يقاسون نقصاً في مخزون المياه. ولا تزال مياه الأمطار والسيول مصدراً رئيساً لمياه الشرب بالنسبة لكثير من المتضرِّرين، ما يضاعف نسب العدوى المنقولة بالماء، ويسبب حالات من الإسهال، التي تمثل نزفاً يومياً بأثر ما تحدثه من أمراض ووفيات. إن تزامُن"اليوم العالمي للمساعدة الإنسانية"مع كارثة باكستان، حافزٌ لتأييد تدخلات"المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لإقليم شرق المتوسط"، وتعزيز الدعم الإنساني، خصوصاً في شهر رمضان الكريم. ولنتذكر أن شعار اليوم العالمي هو:"كل فرد منا عامل في المساعدة الإنسانية"، ما يحض على تقديم المزيد من العَوْن لمتضرِّري السيول والفيضانات. ويحفز على استنهاض الاستجابة الإنسانية عبر وسائل الإعلام الجماهيري ووسائل الاتصال كافة، ومنها المساجد والكنائس والمؤسسات التعليمية. كما يجب مواكبة هذا اليوم العالمي بجهود تهدف إلى التعريف بحجم الكارثة، وسُبُل التعامل معها، والحض على تقديم الدعم المالي للمنكوبين، لضمان تدفُّق المساعدات عبر منظمة الصحة العالمية، وتأييد جهود الإغاثة التي يتبناها المكتب الإقليمي للمنظمة. حاجة مُلحَّة للتدخل الوقائي وتفيد التجربة مع الكوارث بأن كثيرين من ضحايا الفيضانات لم يقضوا بسبب الغرق أو الأثر المباشر للكارثة، بل نتيجة للوضع الذي يتوّلد عنها. إذ تتفشى الأمراض، مثل الكوليرا وحمى التيفوئيد، وحالات سوء التغذية الحاد والوخيم، إضافة الى الحصبة، وشلل الأطفال. وتمثّل هذه الأمراض أهم أسباب الوفاة بين الأطفال. وينطبق وصف مشابه على حال النساء، خصوصاً الحوامل والمُنجِبات والمُرضِعات، اللواتي تتطلب رعايتهن توفير أماكن ملائمة في ظل ظروف عصيبة. كما أن الضرورة قائمة لتكثيف وتوسيع أعمال الإغاثة في كل المقاطعات المتضررة، للتركيز على دور المواطنين، وكذلك أدوار المجتمعات المُساندة، في ترشيد استخدام الاإمكانات بطريقة سليمة. وتكمن المسؤولية في الإفادة المثلى من الموارد المتاحة بطريقة كفيّة، وتوجيهها في الإطار السليم لخدمة الحاجات الأكثر أولوية، مثل توفير الغذاء والمأوى والماء الصالح للشرب، والحصول على الرعاية الصحية. ومن المستطاع تأمين هذه الأمور عبر قنوات قادرة على إيصالها لمستحقيها، وكذلك الاستعانة بالدعم الفني الذي تقدمه منظمة الصحة العالمية وخبراؤها وكوادرها. في العام 1987، أعلنت المنظمة مبادرة"حركة المدن والبلديات الصحية"، التي تركّز على دور القيادات السياسية وتوسيع دائرة المشاركة في اتخاذ القرار. كانت هذه المبادرة محاولةً لفهم الصحة بحد ذاتها، بعيداً من تشخيصها من زاوية الداء، مع ما يصاحب ذلك من النظر إلى الصحة على أنها حال خلو من المرض، إذ يعطل هذا الفهم السلبي للصحة، المجابهة الوقائية للحاجات الفعلية، ويبقينا في انتظار الكوارث من دون الاستعداد الكافي لها، إن لم يكن من الممكن تجنبها. ثمة اعتقاد خاطئ مفاده أن السيول والفيضانات فعل خارج عن إرادة البشر. فقد بات معلوماً أن ارتفاع حرارة الأرض يؤدي إلى ذوبان الجليد في القطبين، وارتفاع منسوب المياه، ومن ثم التهديد بحدوث الفيضانات، إلى جانب كثافة هطول المطر بسبب الزيادة في درجة حرارة البحار، ما يؤثر على السحب وتشكّل الأمطار. إن ظاهرة الاحتباس الحراري هي ممارسة سلوكية لا بد من استبدالها بأنماط حياتية سليمة. إذ تأتي الغازات المُسبّبة لهذه الظاهرة من ممارسة بشرية لا بد من تغييرها. وربما تتعذر السيطرة على سلوك البشر في الحدِّ من انبعاثات الغازات المسببة لارتفاع درجة الحرارة، ولكن يمكن الاستعداد لمواجهة الأحوال الطارئة، ومنع تداعيات الكوارث، والمساعدة على إعادة تأهيل المجتمعات المصابة بالكوارث. وفي هذا المعنى، يجدر التركيز على النمط الوقائي في التدخل. ويستفاد من حال باكستان في استلهام فكرة المسؤولية المشتركة في العمل الإنساني، والتنسيق البرامجي للنشاطات الصحية، وتعميم منطق الاستثمار الصحي. التخطيط للمستقبل هناك سؤال دائم حول القدرة على التخطيط الجيد. لا بد من تأكيد أهمية تمرير ثقافة صحية تستوعب الدروس، وتقرأ المؤشرات، وتتمعن في النتائج وتحلّلها، قبل اتخاذ القرار. لا بد من استيعاب فكرة المسؤولية الذاتية للفرد والجماعة معاً. وتشير دراسات رصد مستقبل العالم بيئياً، إلى أن استمرار النمط الحالي في الصناعة، مع تفاقم أثر الاحتباس الحراري، يؤدي إلى ارتفاع حرارة الأرض بمقدار درجتين مئويتين مع حلول العام 2050، ما يتسبب في ازدياد أعداد المعرضين للإصابة بالملاريا بمقدار 220 مليون إنسان، والجوع بمقدار 12 مليوناً، ونقص المياه 2,2 مليون، إضافة إلى الكوارث المحتملة بسبب زيادة انبعاث الغازات المؤثرة على البيئة والغلاف الهوائي للأرض. وما يزيد من القلق العام في الوضع الراهن، ضعفُ التدخلات الصحية في مواجهة المشاريع الاستثمارية للقطاع الخاص الذي يركّز، وفق فلسفة الليبرالية الجديدة، على تحرير التجارة تماماً من التدخلات الحكومية، وهو الأمر الذي يتطلب المراجعة الرشيدة للقرارات، وفق منطق الهدي النبوي:"لا ضرر ولا ضرار". وأخيراً، هناك دور أساسي للعمل على تحالفات قوية من أجل الصحة، في مواجهة الاتجاهات التي تروّج لتعزيز الصناعة بعيداً من المعايير السليمة تقنياً ومعرفياً. * المدير الإقليمي ل"منظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط"