بعد أكثر من ستين عاماً على انبثاق ما يسمى بالقضية الفلسطينية التي أخذت تدريجاً تختصر الصراع الدائر في الشرق الأوسط وتحولت إلى عنوان يمنع التقاء الحضارات بين الشرق والغرب، وبعدما استثمرت إسرائيل ثغرات الواقع العربي ومظاهر تخلفه طيلة هذه الفترة واستفادت من الانقسام الدولي بين معسكري الاشتراكية والرأسمالية ثم الغرب والعالم الإسلامي، جاء من يقول إن هذا الصراع بات يثقل على الولاياتالمتحدة ومصالحها، وهي التي تطمح إلى تعبئة الفراغ في العالم الإسلامي لكي لا تشغله الأصوليات وحالات التطرف أو بالحد الأدنى لتأمين شبكة المصالح والإمداد للولايات المتحدة. وإذا كان موضوع الاستيطان هو العنوان الذي ظهّر الخلاف الأميركي الإسرائيلي الى العلن، فإن الهوّة بين الوجهتين الإسرائيلية والأميركية حالياً تتخطى ذلك بكثير، إذ إن إدارة الرئيس أوباما ترفع الخلاف إلى مستوى استراتيجي ولا تحصر أبعاده في قيام مجمعات استيطانية هنا أو هناك، فالذي ينعكس على مصالح الولاياتالمتحدة ليس الاستيطان بحد ذاته، بل فشلها في التوصل الى تسوية شاملة في المنطقة. ولو لم يكن الاستيطان عنواناً للخلاف الذي ظهر إلى العلن لكان غيره، سيما وأن التعايش بين اوباما ونتانياهو لم يكن بأحلى حالاته طيلة السنة الماضية أو ربما حالما تولى الليكود تشكيل الحكومة الإسرائيلية وراحت إسرائيل في اتجاه يعاكس السياق الأميركي، إذ اصطدم الزخم الذي جاء به أوباما بالسياسة التقليدية التي ينتهجها اليمين الإسرائيلي، ويمكن القول إن هذا الزخم الذي غيّر المعطيات والوقائع، وأعادت المنطقة ترتيب تموضعاتها وأولوياتها على أساسه، تزامن مع عجز إسرائيل عن فهم المتحولات وقراءتها، فراهن اليمين على إمكان تغيير التصور الأميركي لشروط استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، ونجح في ذلك في البداية من دون أن يتحوّل نجاحه إلى تراجع الإدارة الأميركية عن استراتيجيتها، وهذا الرهان أوصد الباب أمام تأقلم إسرائيل مع الظروف الناشئة. فالحكومة التي تلت الانتخابات الأكثر يمينيةً بتاريخ إسرائيل تعاصر وتصطدم مع الإدارة الأكثر قدرة على التغيير بتاريخ الولاياتالمتحدة! وهذا بحد ذاته يوحي بأن التراجع سيكون صعباً للغاية لأي من الجهتين. الجديد الذي طرحه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء زيارته فلسطينالمحتلة وبعد الإعلان عن بناء 1600 وحدة سكنية جديدة في القدسالشرقية لم يكن في ربطه بين الاستيطان وسلامة القوات الأميركية في أفغانستان والشرق الأوسط فقط، بل كان أيضاً في اعتباره أن التزام الولاياتالمتحدة بحماية إسرائيل يكون في تأمين الدفاع عنها عسكرياً وضمان توقيعها اتفاقات سلام مع الدول المجاورة لها. لذلك وعلى رغم أن هذه الإدارة ليست الأولى التي تضع عملية السلام في الشرق الأوسط في مقدم أولوياتها، إلا أنها الأولى التي تعتبر أن استمرار إسرائيل في سياساتها تجاه الفلسطينيين وإعاقة التقدم على مسار التسوية يشكل تهديداً فعلياً للمصالح الأميركية على امتداد العالم الإسلامي. تلعب إسرائيل للمرة الأولى في تاريخها في الوقت الذي يعاكس مصالحها ويضعها في مواجهة مع المصلحة الدولية في شكل عام وهي باتت أعجز من أن تروّج أفكارها واستراتيجياتها أو تبرّر أفعالها الأمنية أو الاستيطانية أمام الأوروبيين والأميركيين على حد سواء. لقد تغيّرت معادلة الرأي العام الدولي بالنسبة الى إسرائيل، وحصارها المستمر لغزة أفقدها القدرة على اختلاق الذرائع. وهذا"اللعب"الإسرائيلي السلبي في مقاربته للاستراتيجيات الدولية يتزامن مع تقديم العرب، على اختلافهم، سياسات واستراتيجيات تنم عن اندماج أكثر في شبكة المصالح الدولية التي تفترض التكامل الاقتصادي والاستقرار الأمني في الشرق الأوسط كشرط يساعد في تطوير النظام الدولي القائم. وذلك على رغم أن المواطن العربي لا يلمس مقاربة عربية واحدة لوجهة الصراع. وإسرائيل التي تعوّل على حاجة الغرب لها في معالجة الملف النووي الإيراني إن ذهب باتجاه الخيار العسكري تصطدم بحقيقة أن خياراً كهذا يستوجب التقدم على خط حل الصراع العربي - الإسرائيلي وليس العكس. إن خسارة إسرائيل لتعاطف الرأي العام الأميركي، الذي بدأ يسمع باصطدام مصالحه الاستراتيجية بالسياسات الإسرائيلية اللامبالية، له انعكاسات إستراتيجية على مسار الصراع الدائر في المنطقة. والرأي العام هذا كان له أثر بالغ في ما حققته إسرائيل لحد الآن من"مكاسب"و"إنجازات". لقد اعتاد اليمين الإسرائيلي الضغط على السياسات الدولية مقدماً نفسه حارساً المصالح التاريخية للغرب الذي يتماهى معه في هذه الوظيفة. وهذا التسليم الغربي لإسرائيل في أدوارها التقليدية بات يكشف ضعف الإدارة الأميركية في ترجمة وعودها والتزاماتها ويُفقدها قدرتها الردعية وسط انشداد المصالح الأميركية نحو اهتمامات تتجاوز ضيق الأفق الإسرائيلي، ثم يُفرط بالعربدة وتوريط الغرب بمشاكل مع العرب. فاستعمال الموساد جوازات سفر أوروبية في اغتيال المبحوح ظهّر هذا الجانب البشع لاستغلال إسرائيل للغرب من دون أي مبرّر. لقد تغيرت وظيفة إسرائيل مع تغيّر النظام الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي فتح أمام الولاياتالمتحدة عوالم جديدة. وعلى رغم الحروب التي خاضتها في العراقوأفغانستان، ففي مقدور الإدارة الحالية للولايات المتحدة أن تكسب أصدقاء لها في العالم العربي، إن هي أحسنت إدارة الأمور وتوجيهها باتجاه السلام وإن تصالحت ثقافياً مع العرب والإسلام وإن فرضت تسوية سلمية عادلة على إسرائيل. أوباما مهّد لهذه الاستراتيجية في خطابه في جامعة القاهرة وفي مقاربته المنفتحة على العالم الإسلامي والثقافة الإسلامية، لأنه يعلم أن المدخل الإيجابي الوحيد للولايات المتحدة على المنطقة العربية يتلخص في قدرتها على إنجاز التسوية ودورها في ذلك، غير المنحاز إلى إسرائيل. فحتى أكثر الأنظمة العربية ابتعاداً من المشروع الأميركي في المنطقة يرى في الدور الأميركي ضامناً للتسوية السلمية وفاتحاً الباب أمام علاقاته الدولية ويطمح إلى بناء الثقة مع الولاياتالمتحدة. ليس لليمين الإسرائيلي برنامج سياسي حالي فعلياً إلا ضرب فلسفة حل الدولتين وإعادة الاعتبار إلى السياسة التوسعية والخروج من مفاعيل خطة الانطواء والانسحاب الأحادي الجانب التي تبناها كاديما وجاءت به إلى الحكومة عام 2006. فعقدة ليكود أنها تريد تصحيح"الاعوجاج"في السياسة الاستيطانية التي نشأت من إخلاء شارون المستوطنات من غزة وبعض الضفة الغربية. أوباما الذي اعتبر أن السلام لن يكون سهلاً في ظل حكومة إسرائيلية يترأسها نتانياهو، لا يبدو منكفئاً أمام الصفعات المتتالية التي يتلقاها من الحكومة الإسرائيلية، ولا يبدو أنه يترك ملف التسوية في المنطقة إلى السنة الأخيرة من عهده ليصل إلى النتيجة ذاتها التي توصّل إليها الرؤساء السابقون، ولا يتحدت عن مباحثات من دون سقف زمني يظهر مدى التزامه السلام في المنطقة. فاستمرار تجاهل الإسرائيليين لتحقيق السلام هو استمرار لتعريض الأمن القومي للأميركيين ولوجود قواتهم في المنطقة. يصعب التكهن ما إذا كان الخلاف بين الطرفين مقدمة لانحراف المسار التحالفي بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل. لكن من دون أدنى شك، فالتفاوت في قراءة الأولويات بينهما بالنسبة الى الصراع العربي - الإسرائيلي والملف النووي الإيراني يعلي من شأن الخلاف إلى المستوى الاستراتيجي المتعلق بالشرق الأوسط في شكل عام. ومع أن"عقلانية"أوباما تحتاج إلى"صقورية"نتانياهو لكي تتكامل الأدوار الديبلوماسية مع الخيارات الأخرى في التعامل مع إيران أو غيرها من الدول، إلا أنها تحتاج أيضاً إلى تناسق في الرؤى والمضامين والجاهزية لتقديم الأكلاف وهذا ما هو مفقود حالياً. ففي حال عدم التقدم على مسار التسوية مع العرب ليس لإسرائيل ما تخسره، إنما للولايات المتحدة أثمان تدفعها. وأميركا التي ترتب علاقاتها مع روسيا تسعى لأن تكسب موارد العالم الإسلامي وإمكاناته الاقتصادية في صراعاتها المقبلة مع الصين والاقتصادات الصاعدة، وإسرائيل تقف عقبة أمام ذلك. * كاتب لبناني.