يعتمد خطاب الكدية في إنفاذ مفعوله وأثره على استراتيجيات وقواعد حجاجية فاعلة وظيفتها الحقيقية المتمثلة في إخفاء الكدية بوصفها إيقاعاً واحتيالاً. وبمعنى آخر فإن وظيفة الحجج والأدلة التي يستند إليها المكدي تتمثل في التورية والإخفاء والتظاهر بالفاقة والحاجة الملحة وصولاً إلى الظفر بالمطلوب وإنفاذ المراد.والمكدون طائفة من الناس تحترف الكدية وهي النظام الذي تتجلى فيه الحيل الساسانية المنسوبة إلى ساسان بن اسفنديار الذي تختلف الروايات في حكايته وصحتها. لكن المهم أن للحيل الساسانية علماً"يعرف به طريق الاحتيال في جلب النافع وتحصيل الأموال. والذي يباشره يتزيا في كل بلدة بزي يناسب تلك البلدة بأن يعتقد أهلها في أصحاب ذلك الزي... ثم إنهم يحتالون في خداع العوام بأمور تعجز العقول عن ضبطها". يقدم أبو زيد السروجي، في المقامة الساسانية لأبي القاسم الحريري 446 - 516 ه ، وصيةً لابنه زيد تمثل خلاصة تجربته في الكدية والاحتيال، وبهذا المعنى فإن لوصيته وزناً كبيراً تملك تأثيراً بالغاً وأهمية كبرى تتمثل في مقارنتها بوصايا الأنبياء والملوك. يقول أبو زيد السروجي:"وإني أوصيك بما لم يوص به شيثٌ الأنباط. ولا يعقوب الأسباط. فاحفظ وصيتي. وجانب معصيتي". وتختزل وصية أبي زيد قناعاته الثابتة في شؤون الحياة وشجونها، وهذه القناعات ثمرة التجربة والحقيقة اللتين عايشهما في تقلبات الدهر، يقول السروجي مخاطباً ابنه:"يا بني إني جربت حقائق الأمور. وبلوت تصاريف الدهور. فرأيت المرء بنشبه. لا بنسبه. والفحص عن مكسبه لا عن حسبه". إن أبا زيد عندما يؤسس خطاب وصيته على ثنائيات ضدية فإنه يوجه مخاطبه زيداً إلى طرف الثنائيات الإيجابي الذي ينحاز إليه المتكلم وهو هنا النشب المال والكسب، ويدعوه إلى التخلي عن طرف الثنائيات السلبي الذي يستبعده الخطاب وهو النسب والحسب. وإذا كان نموذج أبي زيد السروجي يمثل، بحسب عبدالفتاح كيليطو، الشخصية العجيبة المتعددة"فهو مكد، ومستنبح، وشاعرٌ مفلق، وخبير بأدب الأكل، وراو مراوغ، وأبٌ يتملص من الأبوة، أبٌ يطوف في الآفاق، فإن هدف هذه الوصية يكمن في إشاعة الإحساس باللامبالاة وتوريث الابن رصيداً من الخيبة والعجز والإخفاق. إن قيام الأب بتوجيه الابن إلى جملة من المحددات التي تتخذ شكل الوصية يفاقم من وطأة المسؤولية التي تلاحقه"إذ إن عليه أن يلتزم مضمونها التزاماً تاماً. وعندما يوجه أبو زيد هذه الوصية إلى ابنه زيد فإنه يعين مرجع الوصية ومصدرها المتمثلين في"حقائق الأمور وتصاريف الدهور"وذلك ليمنح خطاب وصيته وجاهةً وصدقيةً وقدرة على الهيمنة. إن تحوط أبي زيد بتعيين مصدر وصيته ومرجعها لا يهدف إلى التنصل من انحيازه للمال والكسب وتخليه عن النسب والنشب وإنما يسعى إلى إرجاع الأمر إلى نواميس الحياة ورعب العيش الذي يدفع الإنسان إلى التخلي عن القيم والمبادئ في سبيل النشب والكسب ومعاظمة المال. أما الدلالة الأكثر عمقاً فتتمثل في أن أبا زيد يتكئ على حقائق الأمور وتصاريف الدهور ليجعل من تجاربه أثراً خالداً وصدىً وامتداداً طبيعياً لها، وبمعنى آخر فإن أبا زيد يريد أن يعزو تجربته في الكدية إلى حقائق الأمور وتصاريف الدهور، ويسعى إلى أن يماهي بين تجربته وقسوة المعايش وفظاعة الحياة وذلك من أجل أن يرسخ تجربة"الأبوة"ويخلد أثرها، ويجعل من البنوة امتداداً لها. إنه عندما يرسخ أبوته فإنه يقوم، ضمناً، بإلغاء البنوة ومحوها وإقصائها. هكذا تصبح وصية أبي زيد ما يشبه أن يكون"مانفستو"يحفل بالتعاليم التي تسفه كل ما وقرته الجماعة وتواطأت عليه نواميس المجتمع من تقاليد وقيم نبيلة. إن أبا زيد عندما يدفع ابنه إلى التخلي عن مزاولة المهن والصناعات والحرف، التي تؤمن معايش الإنسان وهي:"الإمارة، والتجارة، والزراعة، والصناعة"فإنه يزج به في متاهة عظيمة. ولا يسوغ هذا التدبير عدم إفلاح أبي زيد في أي منها، ذلك أنه مارسها فلم يحفل منها بما يسر الخاطر ويجلو الكدر. يقول السروجي:"فمارست هذه الأربع. لأنظر أيها أوفق وأنفع. فما أحمدت منها معيشةً. وما استرغدت فيها عيشةً". وسوف تكون السلطة أولى المعايش التي يأخذ أبو زيد بتفكيكها وتقويضها، يقول أبو زيد:"وأما فرص الولايات. وخلس الإمارات. فكأضغاث الأحلام. والفيء المنتسخ بالظلام. وناهيك غصةً بمرارة الفطام". إن المعيشة الناجمة عن الانخراط في السلطة هي شر المعايش"ذلك أنها موقتة سريعة الزوال، فضلاً عن أن مثل المعتمد عليها كمثل راكب الأسد لا يعرف متى يسقط ليصبح فريسة. وليس غريباً أن يشير أبو زيد إلى أضغاث الأحلام التي لا وزن لها في التفسير والتأويل، أي أنها لا تخلف أثراً ولا تتداعى أمام التأويل. ختاماً يوجه الأب ابنه إلى مرارة العزل عن الولاية والإمارة"إذ إن العزل من السلطة يخلف في نفس صاحب الإمارة والولاية مرارة دائمة ويفاقم في نفسه الإهانة والذل ذلك أنه يغدو مجرداً من لذائذها وفاقداً ما كان قد ناله من قوة وعز. وسوف يحرض أبو زيد ابنه على تجنب"التجارات""لأن العامل فيها"عرضة للمخاطرات. وطعمةٌ للغارات". كما يحذره من"اتخاذ الضياع. والتصدي للازدراع"، لأن في ذلك"منهكة للأعراض. وقيوداً عائقة عن الارتكاض. وقلما خلا ربها عن إذلال. أو رزق روح بال"."وأما حرف أولي الصناعات. فغير فاضلة عن الأقوات. ولا نافقة في كل الأوقات. ومعظمها معصوبٌ بشبيبة الحياة. إن المكدي لا يؤمن بما يصادر حريته ويقف عائقاً أمام اندفاعه الهادف إلى تقويض يقين الجماعة وما تؤمن بها من امتثال وخضوع واستبعاد، وهذا التصور ماثلٌ في خطاب وصايا أبي زيد"إذ يدفع بابنه زيد إلى الإقامة خارج الجماعة واتفاقاتها في المعايش وتدبير شؤون الحياة. فالتجارة تعرض الإنسان للمخاطرة وتجعله في مواجهة دائمة مع احتمال نهب بضاعته وتعرضها للتلف والسرقة والإغارة، لذلك فإنها تشبه الطيور الطائرة التي لا تعلق عليها الآمال. وأما الضياع والبساتين والأراضين والزراعة فقيود تمنع المشتغل فيها من الحراك وكسب المعارف الناجمة عن معاشرة الناس والتجوال والأسفار والتعرف إلى الأقاليم والبلدان وارتياد المجالس والأندية. وأما الحرف والصناعات فمردودها المالي لا يشكل حافزاً للعمل فيها"إذ إن محصولها لا يكاد يكفي لسد ربقة العيش من ضرورات الطعام واللباس والشراب والسكن فضلاً عن كونها تقترن بمواسم معينة ما يجعل المشتغل فيها ينتظر أوانها وميقاتها. إن أبا زيد السروجي عندما يدفع بوصاياه إلى ابنه زيد فإنه يشفعها بخبرتها العميقة وتجربته الطويلة في النظر إلى أحوال الناس وتقلب معايشهم وهو أمر يكسب وصاياه مفعولاً ورصانة يسعى الموصي، من خلالهما، إلى التأثير المباشر في الموصى إليه بهدف إقناعه ب"رؤيته للعالم، وليس مجرد ناصح أمين أو واعظ مخلص له"، والدليل على ذلك أن وصايا أبي زيد السروجي اتخذت الكتابة شكلاً تعبيرياً وهو أمر يخالف الوصية التقليدية المعتمدة على الشفاهية. وعندما يوصد أبو زيد السروجي أبواب المعايش التقليدية التي تتفق عليها الجماعة فإنه يفتح أمامه فضاء الكدية بما هي نظامٌ مشرعٌ مفتوح على التجارب المحفوفة بالدهشة والغرائبية والبطولة إنها الكدية التي تمثل استعادة لنظام الصعلكة والإغارة الذي عرف في الجاهلية. يقول أبو زيد السروجي:"ولم أر ما هو بارد المغنم. لذيذ المطعم. وافي المكسب. صافي المشرب. إلا الحرفة التي وضع ساسان أساسها. ونوع أجناسها. وأضرم في الخافقين نارها. وأوضح لبني غبراء منارها. فشهدت وقائعها معلماً. واخترت سيماها لي ميسماً. إذ كانت المتجر الذي لا يبور. والمنهل الذي لا يغور". إن أبا زيد يقدم لابنه عرضاً بالحياة الكريمة الأبدية من خلال تعريفه بفضائل الكدية وما تمنحه لصاحبها من حياة كريمة تتمثل في لذة الطعام، واكتمال الكسب، وصفاء الشرب. وتتضمن هذه الأوصاف طباقاً تأويلياً"إذ إن الحياة الكريمة التي تتضمنها الكدية تستدعي في المحور التقابلي الحياة اللئيمة وما فيها غصة الطعام والعيش، ونقص الكسب، وكدر الشرب، ونار الغرم. ليس هذا فحسب بل إن المكدين أحسن حالاً من بقية الفئات الاجتماعية الأخرى، فالمكدون:"أعز قبيل، وأسعد جيل. لا يرهقهم مس حيف. ولا يقلقهم سل سيف. ولا يخشون حمة لاسع. ولا يدينون لدان ولا شاسع. ولا يرهبون ممن برق ورعد. ولا يحفلون بمن قام وقعد. أنديتهم منزهةٌ. وقلوبهم مرفهةٌ. وطعمهم معجلة. وأوقاتهم محجلة. أينما سقطوا. لقطوا. وحيثما انخرطو. خرطوا. لا يتخذون أوطاناً. ولا يتقون سلطاناً". هكذا يعيش المكدي خارج سطوة السلطة"ذلك أن عدم استقراره في المكان وقبوله بفكرة الأوطان تجعله خارج دائرة السلطان الذي لا يملك قدرة في إخضاعه له وإلحاقه بمن هم في مجال نفوذه. لذلك يؤكد أبو زيد أن الكدية تقوم على الحركة والانتقال من مكان لآخر دون إبقاء أثر يدل عليه. فالمكدي يمحو آثاره بإنجاز كدية خفية لها نفاذ لا يمكن التشكيك فيه. كما أن حركة المكدي وبراعته في الانتقال في الأمكنة يجب أن ترافقها قدرة في الانتقال في الكدى والتنويع فيها وإتقان المخاتلة وإحسان المغالطة والإيهام والخداع. يقول أبو زيد مخاطباً زيداً:"فكن أجول من قطرب. وأسرى من جندب. وأنشط من ظبي مقمر. وأسلط من ذئب متنمر. واقدح جدك بجدك. واقرع باب رعيك بسعيك. وجب كل فج. ولج كل فج. وانتجع كل روض. وألق دلوك إلى كل حوض. ولا تسأم الطلب. ولا تمل الدأب. فقد كان مكتوباً على عصا شيخنا ساسان: من طلب جلب. ومن جال نال". إن إصرار المكدي على البقاء خارج الجماعة والنسب والسلطة والتقاليد ليس إلا ضرباً من التمرد على النظام الذي أنتجته الثقافة، ويمثل هذا التمرد انتهاكاً صارخاً للتعاليم والقيم والمبادئ التي صيغت تاريخياً وشكلت نظاماً ينظم الأفراد والجماعات. وإذا كان قانون الهدم يستدعي البناء فإن المكدي لا يحفل بمشروع بناء"فهو يؤسس لحركة عدمية متواصلة هدفها الوحيد هو هدم ما تواطأت عليه الجماعة. يقول محسن جاسم الموسوي:"ولا تتحقق متعة لذة الكدية من احترافها مهنةً، وإنما من الخلاص من كل ما يقبله المجتمع احترافاً، والانعتاق من كل تبعية اجتماعية. فاللذة في النتيجة حرة، لذة تجوال وترحال وتغير وانقلاب وتحول شخصي. وهي لذلك لا تتحقق في المسخ الذاتي وحده، وإنما تقترن بالترحال والرفض والتجوال، فيأتي السرد متوالياً كالرحلة، وعمودياً في حلقات المسوخ وفي التحولات الشخصية. لكن الحيلة وما تقتضيه من تحولات ومسوخ تيسر للشخوص الالتفاف على مجتمع لم تزل مقاديره وشؤونه ومراتبه عرضةً للأهواء والمصادفات والأحداث...". وتحضر شخصية المكدي حضوراً ساخراً يتضمن استخفافاً وهزءاً بالسلطة والأوطان والأنساب والقيم والتقاليد والنواميس، وتتجلى علائم الاستخفاف والهزء في كل نص من نصوص المقامات التي يستهدف فيها المكدي رمزاً من الرموز أو قيمة من القيم ويسعى إلى النيل منها والتعريض بها عبر الكدية دونما رأفة أو شفقة. ومن أجل ذلك يطالب أبو زيد ابنه بالجد في سعيه، ويحذره من التقاعس والتراخي. يقول أبو زيد مخاطباً ابنه زيداً:"وإياك والكسل فإنه عنوان النحوس. ولبوس ذوي البوس. ومفتاح المتربة. ولقاح المتعبة. وشيمة العجزة الجهلة. وشنشنة الوكلة التكلة. وما اشتار العسل من اختار الكسل". ولا يتورع أبو زيد عن تحريض ابنه على تقويض الرموز والنيل ممن يمثلونها، بل إنه يطالبه بأن يجد في النيل من رموزها، وأن ينشط في ملاحقتها ونخر علاماتها"لأن ذلك يؤمن له حياة مفعمة بالاستقرار والأمن والراحة. وبعبارة أخرى فإن نجاح مشروع الكدية رهين بإسقاط النظام الذي يدعي أنه يحمي القانون ويدافع عن حقوق الجماعة. يقول أبو زيد مخاطباً زيداً:"وعليك بالإقدام ولو على الضرغام. فإن جرأة الجنان تنطق اللسان وتطلق العنان. وبها تدرك الحظوة وتملك الثروة". وبموجب هذا الخطاب فإن للكدية هدفاً يكمن في إدراك الحظوة وامتلاك الثروة والفوز بها، لكن هذا الهدف لا يمكن إحرازه دونما امتلاك جرأة القلب وبصيرة العقل، ما يعني أن الكدية تتطلب تخطيطاً ومهارة ودربة ومراساً، وهذه المطالب لا تتحصل في المكدي إذا كان لسانه عيياً وعنانه مقيداً. وبعبارة أخرى فإن على المكدي أن يكون ذرب اللسان قادراً على إنتاج حجاجات واستدلالات تقود إلى الاحتيال والتمويه. فالمكدي هو متمردٌ فاتكٌ لهجٌ بارعٌ في الاستدارة والروغان والمخاتلة والانقضاض، إنه الوجه الآخر للشاعر الصعلوك الشنفرى الذي آخى الذئاب والسباع. يطالب أبو زيد ابنه أن يكون مقداماً شجاعاً ويستدل على هدفه بالمثل القائل:"من جسر أيسر. ومن هاب خاب". لذلك على المكدي أن يخلص نفسه من معاني الشفقة والجبن والتراخي والحزن وأن يجرد نفسه من الصفات الإنسانية وأن يستبدل بها الصفات الحيوانية. يقول أبو زيد:"ثم ابرز يا بني في بكور أبي زاجر. وجرأة أبي الحارث. وحزامة أبي قرة. وختل أبي جعدة. وحرص أبي عقبة. ونشاط أبي وثاب. ومكر أبي الحصين. وصبر أبي أيوب. وتلطف أبي غزوان. وتلون أبي براقش". ولا يعني ذلك أن يكون المكدي غراً وجاهلاً ومندفعاً بل عليه أن يتمتع بمعاني الحكمة والرزانة والفطنة والكياسة، وذلك بوقوفه على سجلات العرب ومآثرهم وأخبار من برعوا في الكيد والدهاء والاحتيال والاحتمال. لذلك يدعو أبو زيد ابنه أن يتمثل"حيلة قصير. ودهاء عمرو. ولطف الشعبي. واحتمال الأحنف. وفطنة إياس. ومجانة أبي نواس. وطمع أشعب. وعارضة أبي العيناء". ومن الوصايا التي يشدد عليها أبو زيد أن يمتلك المكدي أدوات الحجاج اللازمة لإنجاح الكدية، ولا يتأتى ذلك إلا بإحراز المراتب العلية في حيازة اللغة. يقول أبو زيد:"واخلب بصوغ اللسان، واخدع بسحر البيان". أما السفر فهو الذي يمحو الأثر، لذلك ينبغي على المكدي أن يسارع إلى مغادرة البلد الذي أحدث فيه الفسد، وذلك ليجدد إحساسه بالمغامرة، فالمكدي نهمٌ لا يشبع من الإيقاع بالآخرين والاحتيال عليه، فنجاح كل كدية وقود لكدية جديدة. أما إذا لم يحالفه الحظ فعليه أن يعجل بالرحيل"ذلك أنه لا وجدود لمعنى الوطن والاستقرار في معجم المكدي ونفسه وخاطره. يقول أبو زيد:"ومتى نبا بلدٌ. أو نابك فيه كمدٌ. فبت منه أملك واسرح منه جملك. ولا تستثقلن الرحلة ولا تكرهن النقلة". إن الإقامة والاستقرار تعطلان مشروع الكدية كما تعطل الصناعات والتجارات والزراعات تطلعات الإنسان بالتطور والنماء. لذلك ينبغي على المكدي أن يتجاوز الأمكنة والكائنات البشرية ليجدد إحساسه بالمغامرة ويعاظم نشوته بالإنجاز، ولا يكون التجاوز إلا بالسفر الدائم والرحيل المستمر. هكذا يدفع الحريري خطابه السردي عبر ميكانيزمات الكدية وإمكاناتها الهائلة إلى منطقة عابرة للحدود التقليدية التي كان الهمذاني قد دشنها"فمقامات الحريري تتأسس، سردياً، على الغرائبي والعجائبي وخرق العادة. وبالجملة فإن للحريري مقاصد وغايات في إنشاء مقاماته تتمثل في نقد العالم والمعقول وفحص مباني الأصول. * باحث في السيميائيات وتحليل الخطابات. جامعة فيلادلفيا - الأردن