كانت القضية الفلسطينية ولا زالت وستبقى مركزية، جوهرة القضايا في العالم العربي، إلى أن تُحل وفق قوانين تتوافق والشرائع الدولية والإنسانية. كثيرون خاضوا فيها وتحدثوا عنها، بعلم أم بِغيره، بتروٍّ وحكمة أم بلغط وغلظة وفوضى فكرية، وشذوذ أيديولوجي، دفع كثيرون ثمنه لأنهم جردوا الإنسان من إنسانيته والماضي من سياقه وألبسوا الحاضر أثواباً لا تليق به وبمقاساته. الحركة الصهيونية بكل مكوناتها هي تكوين أيديولوجي غريب، لكنها وَجدت من يغذيها ويذكي شعلتها ممن تلاقت مشاعرهم مع أهدافها، وهذا ما يوضحه كتاب"من التعايش الى الغزو: القانون الدولي وأصول الصراع العربي - الإسرائيلي"ومؤلف الكتاب المحامي الفلسطيني - البريطاني الشاب فيكتور قطان يعتمد منهجية رصينة، قلمَّا يَتبعها العاملون في حقل السياسة والقانون الدولي، بحيث إنه جامع شامل لتلك الفترة التاريخية المضطربة والمفصلية، هادئ في طرح الأحداث والسياسات والقوانين وما نتج عنها وكيف تمَّ التفاعل معها محلياً وإقليمياً ودولياً. ولعل أحد المُثل الرئيسة التي يحتكم إليها الكتاب أن القانون لاعب لا يمكن تجاوزه في الصراع العربي - الإسرائيلي مهما ازداد عدد المشككين فيه، دعك من المزدرين به. فالالتزام بالقانون لا يتعارض والمشاعر التي يحملها الناس تجاه قضية ما. بل إن القانون الذي تصبغه العدالة الإنسانية ملزم للجميع وهو المُخَلِّص الوحيد للنزاعات والصراعات، أما الأيديولوجيات وتجييش العواطف في مسارات تبتعد عن العقلانية لمصلحة نظرات فردية وحزبية ضيقة، فلن تؤتي بثمار لأحد، ولعل حقيقة أن الصهيونية وإسرائيل خالفتا ولا تزالان تخالفان قوانين كثيرة وأعرافاً أكثر يجعل من ديمومتهما شيئاً صعباً، وهذا ما أدى بعدد من المثقفين والأدباء اليهود المبدئيين لأن يروا مشكلة وجودية فيها من عوامل القلق والخوف المستمر ما فيها. الكتاب يأتي لترسيخ وتوثيق الجوانب القانونية التي التفت حولها الصهيونية من أجل طموحاتها الاستعمارية. لذلك فهو يتخذ من القانون أساساً للبحث عن جذور الصراع العربي - الإسرائيلي وما آل إليه. وما دفع قطان للخوض في غمار القوانين وتلابيبها السياسية والاجتماعية هو غياب كادر متخصص ومرجعية قوية للفلسطينيين بهذا الخصوص، ونقص في الدراسات التي تخاطب الغرب وتوضح أن القوانين التي دعمت قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين لم تكن إلا مساراً في ميدان واسع من الأعراف والعهود والقوانين التي تم تجاهلها والالتفاف حولها لمصلحة الصهيونية. يبين الكاتب كيف أن الصهيونية التي قامت على أساسها دولة إسرائيل راوغت القوانين ورقصت حولها وحاورت وناغت أحياناً من ألفها من القوى الكبرى المُسَيطرة آنذاك، لتتوافق ورؤيتها وطموحاتها الاستعمارية في فلسطين. وفي هذا يقول قطان في الفصل الأول من كتابه،"إذا كانت هناك ثلاث كلمات توضح النجاح المتعلق بقيام دولة إسرائيل وغزو فلسطين في عام 1948 فستكون اللاسامية، والكولونيالية والصهيونية. وبما أن القانون هو تحصيل حاصل للسياسة، فقد كان القانون هناك على طول الطريق، يضفي إطاراً محلياً يتم من خلاله التحكم وتقنين الهجرة اليهودية إلى بريطانيا في عام 1905 قبل توجيهها إلى فلسطين بعد إعلان بلفور عام 1917، ثم تنظيمها بعد ذلك من خلال تنفيذ الانتداب الصادر عن عصبة الأمم من عام 1923 إلى عام 1948"ص، 8. وإذا كان هناك تناقض في أن السياسة هي التي سيَّرت مسار القوانين وطوَّّعتها لمصلحتها، فإن هناك قناعة وشرحاً متوازناً وعميقاً مفاده أن كل القوانين سواء تلك المتعلقة بحق تقرير المصير، والسيادة، أو قرارات التقسيم أو التقسيم كمبدأ، والاحتلال، والدول الكبرى ذات الصلة، ما أن تُحلل بِمُجمَلِها وَتُوضع في إطارها الصحيح حتى تصب في إطار تأييد والتشديد على الحقوق الفلسطينية. يبدو هذا كمن يقول إن الطريق إلى العدالة قد يكون مُعبَّداً بالأشواك، ولكن، يصله الإنسان بجهد وبتروٍّ إذا ما كافح ولم يَحِد عن درب العدالة، وهذا ما يظهر من كتاب قطان، فهو يربط التاريخ والسياسة والقوانين السابقة والحالية ويخرج من هذا"الكوكتيل"بآراء وأحكام واضحة فيما يخص القضية الفلسطينية من ألِفها إلى يائها. يبدو هذا الترابط الذي يفكك الكاتب أركانه بجدارة معقداً، فنرى منذ البداية زواج الصهيونية واللاسامية، التي تُفهم على أنها ظاهرة - غربيَّة الأصل - تتمثل بعداء اليهود وجنسهم وصبغهم بصفات عدائية. أحبار النظام الصهيوني بمن فيهم الأب المؤسس للصهيونية ثيودور هرتزل استغلوا ظاهرة اللاساميه المتغلغلة الجذور في أوروبا آنذاك من أجل إقناع الساسة الأوربيين بأهمية قيام وطن قومي لليهود على بقعة من الأرض، هي في عقل الكثيرين من الصهاينة، فلسطين. لأسباب عدة، برغماتية وتاريخية وأخرى طبيعية حالت دون التركيز على أي بقعة من الأرض سوى فلسطين. لكن طريق الصهيونية إلى فلسطين لم يكن سهلاً، فقد تداخلت السياسة مع التاريخ مع الاقتصاد وحدث الكثير من المراوغات قبل وصول اليهود وإنشائهم وطناً قومياً على أنقاض الفلسطينيين الأصليين. فكما نرى في الفصل الأول في الكتاب فقد وجد هرتزل، الأب الروحي للصهيونية، وغيره من الصهاينة، أمثال حاييم وايزمان، آذاناً صاغية عند بلفور الذي كنَّ عداءً لليهود ورأى في استعمارهم فلسطين حلاً لما سمي"بالمسألة اليهودية"، أي اعتبار اليهود شوكة لا بد من إزالتها من حلق القارة الأوروبية، والنظر إليهم على أنهم جزء من مشكلة هجرة، ووضعهم تحت إطار ما سمي آنذاك"بقانون الغرباء"ايليان أكت. وعزف وينستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأشهر على الوتر نفسه، وكذلك اليهودي الصهيوني هيربرت صمويل وغيرهما. جاءت سياسة بريطانيا لتتوافق مع الأهداف الصهيونية، كما يوضح الكتاب، على رغم وجود تفاهمات واتفاقيات مع العرب تتناقض وروح السياسة العملية لبريطانيا تجاه اليهود. وفي هذا الإطار نجد أن تطور الحركة الصهيونية وتلاقي أهدافها مع جوهر السياسة البريطانية الاستعمارية اصطحب أيضاً بمعارضة قوية من أشخاص في الحكومة أو في الإدارة المدنيَّة البريطانية. فقد رأوا في تساوق الأهداف البريطانية - الصهيونية ضرراً كبيراً على بريطانيا واليهود في آن واحد على المستوى البعيد. ومن هنا فإن إحدى الخصال الحميدة لهذا الكتاب أنه يميز بين من رأى الأمور بمنظار الحق والوقائع والشرائع وبين من رآها من منظار استعماري، وهو يرى أن السياسة البريطانية وعلى رغم ما نتج عنها من مآسٍ للآخرين كانت محل تساؤل ومقاومة من أشخاص مُخلصين وقفوا إلى جانب الحق والعدل بدلاً من الغطرسة الاستعمارية، وفي هذا بيان للعرب وغيرهم بأن عليهم أن يميزوا بين الصالح والطالح عندما ينظرون إلى الآخرين بدلاً من زج الأمم في تجميعات وقوالب جاهزة هي أبعد ما تكون من الحقيقة والواقع. الشخص الأكثر معارضة لاستيطان اليهود في فلسطين والذي يبدو قد وصل حد اليأس من سياسة بريطانيا هو أيدوين مونتغيو، ووزير الدولة في الحكومة البريطانية للهند 1917 - 1922. يبدو رجلاً ثاقب النظر، يرى أكثر من بُعد في وقت واحد، ويتنبأ المستقبل في ضوء معطيات الحاضر، على النقيض من ابن عمه هيربرت صمويل من عتاة الصهاينة أيديولوجياً وعملياً، حين كان المفوض السامي الأول لبريطانيا في فلسطين، يهودياً متحمساً للصهيونية، أما مونتغيو فقد رأى فيها خطراً على اليهود واليهودية وتنبأ بأن سكان الأرض الأصليين، أي الفلسطينيين، لن يصمتوا على اقتلاعهم وسلب ممتلكاتهم. ويبدو تناقض بريطانيا في هذا السياق في أكثر من اتجاه. فأحد الأسس القانونية للأيديولوجيا الاستعمارية قام على تقسيم الأراضي إلى"أ"و"ب"و"سِ"بحسب ترتيب الحروف الانكليزية. هذه التقسيمات تقوم على"مدى الحضارة ومستوى الإدارة في الأرض وبالتالي قابليتها لأن تحكم نفسها بنفسها". صُنِفَت فلسطين تحت إطار"أ"، أي أرض قادرة حينما ينتهي الاستعمار والانتداب على حكم نفسها، وفي هذا أفتى سكرتير الدولة للمستعمرات أورمبسي غور في جلسة للبرلمان البريطاني عام 1924 بما يأتي،"لدى الأخذ في الاعتبار التقارير عن فلسطين، نراها أظهرت أن المشكلة كانت مختلفة تماماً عن الانتداب القائم على المستعمرات المصنفة ب و سِ، حيث السكان الأفريقيون كانوا قيد الاعتبار على طريق الاستقلال. وحظيت فلسطين بمكانة فريدة في السياسة الدولية لأنها كانت الأرض المقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين. وكان هدف الحكومة البريطانية معاملة كل الفلسطينيين على أساس المساواة التامة"ص، 53. لم يسمح لفلسطين بالاستقلال، وبهذا تكون فلسطين بين الدول التي تأهلت للاستقلال، بحسب لغة الانتداب وأنظمته، لكنها لم تستقل، ولم تحظ بالسيادة الكاملة حتى الآن، فيما ناميبيا والتي جاءت في تصنيف أقل من هذا من ناحية الإدارة وغيرها وكان عليها نزاع ما بين جنوب وغرب أفريقيا حصلت على استقلالها في عام 1990. إنَّ ما حلَّ بفلسطين والطي المستمر لعنق القوانين كان شيئاً نادراً وغريباً على نحو مفزع. الأوجه القانونية الأخرى التي يتعرض لها الكتاب هي الاتفاق السري بين العرب وبريطانيا في هيئة تفاهمات بين شريف مكة الحسين والمفوض البريطاني الأعلى في مصر آنذاك 1915 - 1916 وهنري مكماهون حيث وُعد العرب مقابل مناصرتهم بريطانيا في حربها ضد العثمانيين بسيادة واستقلال على أراضيهم، بما في ذلك فلسطين. هذا لم يحدث. ويثبت قطان بالوثائق والتحليل القانوني الرصين أن كَون التفاهمات كانت سرية لا ينقص من قانونيتها، فسريَّة اتفاق لا تعني في الأعراف الدولية أنه لا اتفاق، وأنه غير ملزم، كما يزعم البعض. جوانب أخرى يتناولها الكتاب المُهم تتعلق بقرار التقسيم عام 1947، الذي لم يكن قانونياً، فقد أعطى لسكان الأرض الأصليين نسبة أقل من تلك التي أعطاها لخصومهم الأقل عدداً والأقل تأصلاً في البلاد، وفيه ضرب من المغالاة التي تتعارض وكثيراً من القوانين والتشريعات الدولية التي ما إن تحلل، حتى يتضح أن قرار التقسيم وقف على النقيض من قرارات وتشريعات تختلف معه، وقد أقرَّ ساسة بريطانيون وغيرهم بسوء القرار وعدم قانونيته، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وزير الخارجية البريطاني أنطوني أيدن، قال في هذا السياق في مذكرة سرية للغاية لوينستون تشرتشل عام 1945:"لن يكون من السهل إقناع الحكومات العربية بأنه ضرب من المساواة أو توافق مع روح الانتداب أو مع ميثاق الأطلسي أو يتماشى مع دعايتنا خلال فترة الحرب، أن نضمن أحسن الأراضي للدولة اليهودية، وعملياً كل الصناعات والموانئ الجيدة فقط وكذلك ثلث السكان العرب"ص، 146. أما محاولة العرب استرداد فلسطين بعد احتلالها عام 1948، وتسميته من بعض القانونيين الدوليين على أنه عدوان، فذلك افتراء مبين. هناك من القوانين ما يعطي العرب الحق بمقاومة من غزا أرضهم وشردهم منها. ثم إن القانون الدولي يقوم على حقائق ووقائع لا على نتائج لم يكن لها مقدمات قانونية، وفي هذا يقول فيكتور قطان،"التاريخ جزء لا يتجزأ من القانون الدولي، إذا أخذنا بالاعتبار أن التخصص نفسه يعمل في سياق أسبقية الحدث"وذلك من خلال معاهدات وأعراف ومبادئ عامة وحالات قانونية. أضف إلى ذلك أنه عندما يتعامل القانونيون مع حالة أو يثبتون فرضية ما أمام محكمة فإنهم بذلك محكومون بالحقائق"ص، 172، وهكذا دواليك. يتعامل الكتاب مع جوانب عدة تدور في فلك قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين وما نتج عنها، مثل حق تقرير المصير وأحقيَّة الفلسطينيين بذلك بحسب معاهدة لوزان لعام 1915 وغيرها الخاصة بالسيادة، والتي تذهب إلى أن السكان الأصليين أحق بالسيادة من غزاة فرضوا أنفسهم على الأرض بالقوة وادعوا أنهم أصحاب أرض شرعيون، وما هم بذلك، بحسب اتفاقية لوزان الخاصة بالسيادة عام 1923. أراد بلفور، صاحب الوعد المتكبر عام 1917، والذي شكلَّ دوراً مهماً في إيجاد إسرائيل، للصهيونية أن تكون"تجربة... تجربة عظيمة، لأنها لم تجرب أبداً في العالم من ذي قبل، ولأنها بدعة جديدة"، ومن أجل ذلك التفَّ حول القوانين ليبررها ولم يلتفت الى معاناة الآخرين، اللاجئين الفلسطينيين، الذين يناقش قطان وضعهم قانونياً ويخلص إلى أن لهم الحق، كل الحق، في العودة إلى ديارهم أو تعويضهم. وهكذا لم ير بلفور ما رآه ثاقبا النظر ايدوين مونتغيو واللورد كرزون قال إن اليهود سيقعون في ورطة تاريخية سَتُذكي حماسة المعادين للسامية ويقال إن مونتغيو بكى أمام بلفور عندما لم يُصغ الأخير له واستبعده من المناقشات الساخنة حول وعد بلفور. * محاضر وباحث فلسطيني في جامعة لندن.