منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها الطوفان البشري يزيد عن حده المعهود في 14 آذار 2005 كان من الواضح أنها كانت ثورة أكبر من صانعيها ورسمت آنذاك الناس لنفسها آمالاً وأحلاماً لا تقف على حدود السياسة المرحلية بل تشترط بقاء هذه اللحظة شاخصة أمام كل الاستحقاقات التي تواجه لبنان في المستقبل. ومذ ذاك تغلّب منطق تلك اللحظة على ما تلاها. كان المشهد تاريخي قدري أكثر منه سياسي على رغم السياق الاستقلالي المتصاعد منذ رفض التمديد لإميل لحود وتراكم الدعوة إلى انتفاضة الاستقلال، إنها ثورة أًُخِذت بالمنطق العاطفي منذ البداية ولعبت السياسة فيها دوراً ثانوياً يرتكز على ضبط الإيقاع الجماهيري والتفاعل مع الاستحقاقات بالقطعة والتصدي للفتن والاغتيالات ورسم الخطوط البيانية الآنية لا أكثر. انتصر اللبنانيون على خوفهم وتوحدوا حول علَمهم، كرسوا المصالحة وتجاوزوا عقدة الطوائف وقالوا بانتصار الحياة على الموت، ما أدى إلى خروج الجيش السوري واستخباراته من لبنان. ثم نجحت 14 آذار في إبراز مشهدية الشعب للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، الشعب الذي يستحق دولة، وبدأت رحلة بناء الدولة متسلحة بإرادة عامة عبرت عنها الأطراف المنخرطة بمشروع 14 آذار هذا المشروع الذي انتشل الطوائف من طور الخصوصية القابعة في النظام الطائفي إلى طور العمومية المتجاوزة لغة الماضي، إنها التجربة الثانية بعد الحركة الوطنية مع فارق الشخوص نحو تسوية ناجزة تمثلت بالطائف والمناصفة والثقافة الطائفية التي أرستها تلك التسوية فيما كانت الحركة الوطنية تخلو من هذا التناقض وتعمل على التغيير الشامل الذي يعطيها قوة الدفع النظري أو التنظيري إلى أن تغلبت عليها التسوية الإقليمية. مشروع الدولة الذي سعت إليه 14 آذار كان من أهم شروطه أن لا يلجأ العالم إلى صيغته المعهودة بإبرام الصفقات على حساب لبنان أو تلزيم أمنه واستقراره إلى القوى الإقليمية المحيطة. الإصرار على إبراز هذا المعطى أكسب لبنان أفضلية لأنه دفع الدول الرئيسية في العالم إلى الإحساس بعقدة الذنب فبدأت مسيرة الغفران والتعويض وأخذ لبنان ما أخذه من قرارات ومواقف دولية وازنت وعادلت تدخل القوى الإقليمية بالمال والسلاح إلى حد ما. تمكنت هذه الحركة من الصمود في وجه الاستحقاقات الداخلية وانتصرت على خصومها بالانتخابات، اعتمدت سياقاً ديموقراطياً في منطقة لا تحترم الديموقراطيات وهذا تناقض آخر يضاف إلى الرهان المفرط على الدولة التي لا تقوم إلا بالتسوية الداخلية، الدولة التي تعجز عن حماية مواطنيها تماماً كما تعجز الديموقراطية عن تجسيد خياراتهم. إن السياق الذي أوجد 14 آذار كان تتمة لمحطات تحولية درج على مشاهدتها العالم منذ البريسترويكا وسقوط جدار برلين، وهي حدث تجاوزت تأثيراته الحدود الكيانية. وعلى رغم زيادة منسوب"اللبنانية"في عملها فهي كانت جزءاً من نظام إقليمي دولي آخذ في التغيّر والتبدل على قاعدة المصالح والاستراتيجيات المتحركة. ويجب الاعتراف بأن محاولة فصل لبنان عن الصراعات الدائرة في المنطقة فشلت وأن حجم القوى ذات الوظيفة الإقليمية في الداخل كبير جداً ولا يجوز موازنتها إلا باستراتيجية إقليمية مناسبة ترتكز على انخراط لبنان كدولة في الصراع العربي الإسرائيلي مستفيدة من التوافق العربي القائم ومتسلحة بالموقف العربي الذي يقيها ما أطلق عليه وزير الخارجية السعودي"التحدي الإيراني". تفرض المستجدات التي طرأت مؤخراً والتي تمثلت بفوز 14 آذار في الانتخابات والبحث عن تسوية داخلية وإقليمية كمدخل لتشكيل حكومة اتحاد وطني والأجواء الإقليمية والدولية الموحية باحتمالات الذهاب باتجاه حرب أو سلام ثم الاستحقاقات التي يواجهها لبنان كالقرار الظني للمحكمة الدولية وما يمكن أن يتركه من انعكاسات، تفرض هذه المستجدات نفسها على أي إطار سياسي يريد تثبيت تحالف القوى المنضوية فيه على قواعد دقيقة كالتي تحكم الواقع اللبناني لأن المتاح هو استنفاذ المعطى الديموقراطي من دون خرق التوازن الطائفي والمذهبي، أو الضغط باتجاه رسم حدود الدولة والمؤسسات من دون الانجرار إلى الشارع وخرق الاستقرار القائم وهذا يتطلب اعتماد أطر مناسبة وخطاب سياسي مناسب يعمل في إطار شامل وهذا يعني أن هناك قوى رئيسية لا تستطيع العمل وفقاً لمنطق"الخاص"إنما تحتاج إلى مشروع وطني"عام"جديد يعالج أزمة النظام الطائفي ويطرح قضايا إصلاحية اقلها الضغط باتجاه تطبيق البنود الإصلاحية بالطائف وبرنامج اقتصادي معيشي ورؤيا واضحة لموضوع الصراع العربي الإسرائيلي ورسم الأولويات في إطار النظام العربي الذي يخضع بدوره إلى توازن دقيق لا بد من البناء على إيجابياته. صحيح أن لبنان حسم أمره بالنسبة لانتمائه العربي وليس هناك صراع هويات داخلي لكن لا يقل النقاش حول العناوين المطروحة مثل ثنائية المقاومة والدولة أو الممانعة والاعتدال أو الأمن والاقتصاد أو غير ذلك أهمية عن صراع الانتماء والهوية وذلك لأنه يخفي من ورائه بعداً أخطر يتعلق بالتوازن المذهبي الذي يحسم موقع لبنان على الخريطة الإقليمية. في الخلاصة لبنان ليس كسائر الأنظمة الديموقراطية التي تحسم أمورها بالانتخابات وعلى رغم تقدم الخيار الاستقلالي على غيره إلا أن المواجهة الداخلية لم تُحسم بعد والحاجة إلى جاهزية على هذا الصعيد تستلزم إطاراً جديداً ومقاربة جديدة تستفيد من التموضعات الإقليمية الجديدة ومن مناخات التهدئة الداخلية ومن المساحة المتاحة لتعزيز مؤسسات الدولة على كافة الصعد والضغط باتجاه انتزاع قرار الحرب بالحوار ووضعه بيد الدولة. وفي هذا السياق ثمة عدد من الأسئلة لا بد من أخذها في الاعتبار. كيف ينأى هذا الإطار الجديد بنفسه عن الصراع المذهبي لا بل كيف يكون وازناً للحياة السياسية وعنصر أمان أمام تفجر الصراع المذهبي؟ كيف يكون التعاطي مع الواقع الشيعي المغلق على خيارات محددة وهل هناك ما يستدعي إيجاد مساحة مشتركة مع أطراف في الوسط الشيعي أو مع الخطاب أو الوعي العام الشيعي؟ وما هي العناوين التي تؤمن هذه المساحة؟ كيف يتم التعامل مع الواقع السوري المغلق على خيارات نظامه وقد تجاوز عزلته وأقام العلاقات الديبلوماسية ووُضعت المحكمة في سياق مستقل. وهل لبنان معني بالانضمام إلى استراتيجية"فصل"أو إبعاد سورية عن إيران؟ كيف يكون الموقف من انضمام لبنان إلى المفاوضات مع إسرائيل؟ ثمة ما يدعو إلى اعتبار أن مرحلة ما قبل الانتخابات لا تشبه ما بعدها بطبيعة أن الفاصل بين المرحلتين هو تحول 14 آذار من نقيض ل 8 آذار إلى سلطة معنية بإدارة شؤون الناس ورعاية أمنهم واستقرارهم وإلى جهة مُلزَمة بحماية أكثريتها النيابية لأربع سنوات مقبلة وبتقديم المبادرات ومد الأيدي والبناء على الالتقاء مع الآخر والمبادرة باتجاه الفريق الشيعي، أما المشترك بين المرحلتين فهو طبيعة المواجهة التي لا تنأى بلبنان عن التدخل الإقليمي مع فارق أن المطروح حالياً هو مزيج من التنسيق حيناً والصراع حيناً آخر وفي كلتا الحالتين ثمة حاجة لحماية ما أنجز من خلال صياغة مشروع وطني ديموقراطي جديد عابر للطوائف ينتقل بنا من مرحلة الاستقلال الثاني إلى ما بعدها. * كاتب لبناني. نشر في العدد: 16953 ت.م: 03-09-2009 ص: 10 ط: الرياض