في اضافة للمكتبة المتخصصة العربية والانسانية، صدر للمندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى اليونسكو الدكتور زياد بن عبدالله الدريس، كتابه"مكانة السلطات الابوية في عصر العولمة"عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، وهو خلاصة لمضامين اطروحة في فلسفة الدراسات الحضارية، حاز بها المؤلف على درجة الدكتوراه من جامعة موسكو الحكومية التربوية. الكتاب في قسمين، يضم الاول ثمانية فصول تعنى بالتأثيرات السوسيوتربوية، والقسم الثاني يعني بمكانة المعلم في عصر العولمة ويقع في اربعة فصول تفرعت وتشعبت وامتدت لتشغل حيزاً متنوعاً يقدم عرضاً ورصداً وتحليلاً لمسائل حيوية يصلح كل منها ان يكون سفراً قائماً بحاله. وليس من باب التقريظ الاشارة الى ان هذا العمل يشكل عصارة ذهنية تميزت بلغة سلسة وفكر ثاقب متخصص، اذ لم يركن المؤلف الى الرصد والمتابعة فحسب بل اتخذ منحى علمياً قويماً اعتمد فيه على البحث المؤصل في رد الامور الى نصابها، والخروج بنتائج وخلاصات محددة، ولم يغفل التعريفات والتصنيفات والاجتهادات المتباينة حيث اوردها في نسق دقيق. يتناول هذا العمل عبر مدخل مفعم بالحيوية والرؤية الثاقبة اراد له المؤلف"أن يطرح أسئلة أكثر مما يُعلّب اجوبة"في ما بدا انه وفق تعبيره،"تحيز ضد العولمة وضد المعلم". ولم يكن هذا توجهاً سالباً اذ لم يقف المؤلف في حافة من عدم الانحياز، وحرص على أن يدلي، بعد ان يعرض لكل التباينات والرؤى، بأسهام يقطع به من دون تكرار. ويُحمد للمؤلف استخلاصه لرؤيته الخاصة التي يقدر لها ان تشكل وتميز روح هذا العمل الجاد، وربما تشحذ المزيد من الهمم وتسقط عنا صفة المتلقي والمراقب. وقفت متأملاً، وبكثير من التمعن، عند طرحه وتناوله"لتأثيرات العولمة السوسيو- تربوية"إذ كشف المؤلف فيها عن صبر ومثابرة وقدرة على المتابعة والرصد والتحليل لمفهوم"العولمة"التي اتفق الناس حولها واختلفوا، وتعمق البعض في امرها وظن الآخر بامكان تجاوزها. بيد ان امرها ظل"الاكثر تداولاً ورواجاً في الكون الآن"وفق رؤية المؤلف. حيث ستبقى الفكرة هذه بين النظرية والتطبيق، تجتاح عالمنا بقوة، وربما، بهدوء عبر تسلل غير مرئي وعبر اقتحام مخطط، يفضي الى قسمة العالم بين مانح ومتلق، فاعل ومتفرج، مشارك ومنتظر. وسنظل في حيرة من امرنا إن لم نسبر في شكل قاطع غور العولمة وتأثيراتها بكل جوانبها على كل جوانب حياتنا وتحديد موقعنا فيها وموقفنا منها، ذلك من دون اغفال من يرى ان الامر قد قصد به ان ينشغل الناس وتُملأ به الدنيا. وآخذاً في الحسبان، ظن البعض ان الامر ايضاً أشبه"بمختبر"يطلقه العالم المتقدم لتحسس مواقع ضعفنا ومصادر قوتنا وقدرتنا على التلقي والاستيعاب والتفاعل على أحسن الظن. وإن عكف المؤلف، بدراية ودقة، على التأمل في مفاهيم وتعريفات العولمة، والرؤية المتباعدة بين من يرونها"ظاهرة ايجابية"ومن يقدر انها"ظاهرة سلبية"فإن للمؤلف رؤيته التي خرج بها والمتمثلة في اختزال العولمة وتعريفها بأنها هيمنة المال والتكنولوجيا على العالم". في معنى نستخلص منه ان العصر الذي سادت فيه مفاهيم تقضي بأن"الهيمنة والزعامة كانت للانسان من خلال النفوذ السياسي او الموقع الاجتماعي او التميز الثقافي"هذا المفهوم قد انقضى. ويستوقفنا التساؤل حول مفهوم العولمة والعالمية، ويستدعي المؤلّف في ذلك رؤية بعض المفكرين في ان العولمة هي إرادة للهيمنة بينما العالمية"طموح الى الارتفاع بالخصوصية الى مستوى عالمي". واستوقفني كثيراً ما اقتطفه المؤلف بحس عال، من مقدمة جان بول سارتر لكتاب فرانز فانون"المعذبون في الارض"والتي تحدث فيها عن اسلوب واستراتيجية التغيير التي اتبعها انسان العالم المتقدم في ترويضه للشعوب الاخرى من خلال نزع جلد انسان هذه الشعوب وادخاله في جلد غير جلده وهوية غير هويته في استدراج اشبه بالاستلاب الفكري والذهني والثقافي والاجتماعي. والمؤلف يتساءل ان كان هذا المنحى نوعاً من اشكال العولمة في ذلك الحين. وهي رؤية لا تخلو من كثير من التطابق مع الحقيقة وان قدر لمثل هذا الطرح ان يستمر بذات القدرة والمنوال، ونظنه لا يزال كذلك في بعض مناحيه، فإن الامر في منتهاه قد يعود الى الاعتقاد بأننا نستخلص صوراً مشوهة من اصل لا يمكن نسخه في كلياته، بل ان النسخ المشوه يفضي الى تشكيل انسان لا ينتمي لأي من العالمين. وكانت وقفة المؤلف عند"اضرار العولمة ومنافعها"ثاقبة عند تناوله أخطار العولمة على الشعوب والكيانات. والارقام التي اوردها تثير الكثير من الحيرة والعديد من المفارقات بين الذي يملك"ما يملكه ستمئة مليون من ابناء الشعوب الفقيرة وما تملكه قلة تقدر بنحو 382 حيث تتجاوز ملكية هذه الفئة ما يملكه 2.5 بليون نسمة من الثروة في العالم". بل ان التنبيه الى اتساع الفجوة المتزايد بين الاثرياء والاكثر فقراً"واختراق قيم افراد الاسرة"واستشراء ثقافة العنف وتفشي البطالة يعضد الرؤية حول تداعيات العولمة وانعكاساتها على الشعوب النامية وتأثيرها على اختلال الموازين، حيث اضحت هذه الشعوب اشبه بالمستودع لاستيعاب التجارب او الاسقاطات التي لا تتلاءم مع واقع وحقيقة وثقافة تلك الشعوب. واقتضت الامانة العلمية المؤلف ان يستدرك ان للعولمة ايجابيات تمثلت في"خلق فرص للتقدم والتطور في عالم الاتصالات للمجتمعات"، وهي رؤية قمينة باثارة الجدل إذا نظرنا الى ان تبادل الاتصال قد يتيسر في معظم احواله لفئات محدودة ومحددة عند الشعوب النامية. بل ان ترتيب الاتصال في قائمة اولويات هذه الشعوب قد يأتي في ذيل اهتمامات تلك الشعوب، ذلك من دون الإقلال من اهمية الاتصالات، بل ان الامر يبدو اكثر خطورة عندما تصبح الشعوب النامية في موضع المتلقي ولا تتمكن من الاسهام، ولو بقدر يسير، في مثل هذه الثورة. ولعل الفصل الذي تناول فيه المؤلف تأثيرات العولمة على الهوية، من الفصول المتميزة في تعريفه لكُنه الهوية وللتباين الثقافي وسعي انسان العولمة للمطالبة"ليس بحريته بل بكرامته"، في ظل الجدل حول"النزعة التقليدية للحفاظ على الهوية التي تفضي الى الانعزال والاحتقار"، ومن الحصافة الخلاصة التي ترى الاستنارة بين الموقف الوسطي"بين الذوبان والانغلاق"، وهو موقف لا يتيح لدول العالم المتلقي كثيراً من الخيارات، ويعيد، في منتهاه، الى التفكير في ان هذا الخيار لا يتيح أي ضوء في نهاية النفق بل يقود الى مزيد من الاظلام، ويحجب عن تلك الشعوب حقها في إثراء الارث الانساني بما تملك من ثروة في التاريخ وقدرات كامنة، باعتبار ان هذه الشعوب ظلت اشبه بالمخزون الاستراتيجي لتلك الدول. وان كان الحديث حول العولمة والعالم العربي موجزاً فإن خلاصته المتمثلة في ان العالم العربي"تتنازعه ازمتان في آن واحد في علاقته مع العوالم المحيطة:"ازمة تخلف وازمة تبعية"تشكل رؤية حادة ومبضعية، وان لم تخل من حقيقة، فالمؤلف يرجع ذلك الى"غياب اسس الاستقرار السياسي والمجتمعي". وهي اسس تبدو متحولة اكثر منها ثابتة ورهينة بمعطيات آنية احياناً وطويلة المدى في كثير من الاوقات. ولا يمكن الجزم بأن الاستقرار السياسي أو عدمه والاستقرار المجتمعي أو غيابه في حالة من الثبات او الكمون. وان كانت للتخلف اسبابه ومسبباته في العالم العربي، وفي انحاء العالم الأخرى قطعاً، فإن ازمة التبعية التي يعرض لها المؤلف تبدو اشبه بالمبضع في يد الجراح تؤلم كثيراً وتدمي اكثر، لكن إغماض العين عنها يبدو اكثر ايلاماً، خصوصاً لأنها حالة معممة وليست مخصصة. وحظيت العولمة والتعليم بحقها من الاهتمام والهم، في الكتاب، وتتفق رؤية المؤلف مع ما هو سائد وموثق من اسهام العرب في هذا الضرب من المعرفة التي يؤسس لها التعليم"وما اختراق مؤسسات العولمة للحصون التربوية"وفق تعبير للمؤلف، الا تأكيد بأن التعليم، بمعناه الواسع، يعد احد امضى الاسلحة التي تستخدمها العولمة، اما في الترويج لها او لبث الافكار او لاستدراج من تستهدفه العولمة. وتنبه المؤلف بوضوح الى"تهديد الاقتصاد العولمي للتربية"واجمل ذلك في"نزعة التسويق"والاخلال"بالتنوع الثقافي"وتقليص سلطة الدولة وتغليب قيم السوق على القيم الحقيقية رمياً إلى تكريس مفهوم"التعلم للعمل". وهو مفهوم ينزع عن التعليم اهم ركائزه باعتباره ضرورة حياتية قبل ان يكون وسيلة مطلقة تؤمن العمل، لا سيما ان العمل نفسه لا يرتبط بالديمومة المطلقة بينما التعليم يظل ملازماً للانسان في كل الاحوال. بيد ان الجدل يظل قائماً ودائراً حول من أتى بمن، ومن يحكم من، ولماذا يهدد الاقتصاد العولمي التربية بدلاً من تسخيرها ايجاباً، بل كيف للتربية ان تلجم العولمة وتستخدمها لخدمة مفاهيم التربية الراسخة؟ ويقف المؤلف بين"تعظيم المعلم وتحقيره"، متسائلاً عن الحديث المتواتر والذي يظن ان"التعليم مهنة من لا مهنة له"فالأمر يبدو اشبه بدائرة من دون منتهى، خصوصاً في ظل السؤال الحائر حول"من يربي المربين""وان الطفل السيئ هو نتاج المربي السيئ"، ويبدو ان مثل هذا التوجه يقود الى جدل دائري لا مخرج منه فهو بمثابة اسقاط وسعي لتباين الامر، وكأنه تنصل عن مهمات تتعلق بصنع الانسان السوي القويم، وهو ايضاً اشبه بالسعي لتعليق الامور في جدل مطول لا يرجى منه سوى ازاحة الهم عن الكاهل اكثر منه السعي الى اجابات قاطعة، وهو أمر برع المؤلف في تناوله. ويقودنا المؤلف للحديث عن وثيقة اليونسكو المتعلقة برفع وتعزيز مكانة المعلمين في العالم... وهي وثيقة عرفان ترد الفضل لاهله وتصلح ان تكون ميثاقاً تلزم به الدول وتلتزم، كما انها تضاهي مواثيق دولية ? ربما ? او توحي بضرورة اعداد"ميثاق حقوق المعلم وواجباته". والمؤلف، يعيد، عن حق وعن حدب، التساؤل حول ما حققته هذه الوثيقة، بعد اكثر من خمسة وثلاثين عاماً على صدورها، في سبيل تطوير مكانة المعلم المستحقة في العالم. ولعل هذا الفصل يصلح ان يكون وثيقة في حد ذاته، بل ان الكتاب في مجمله، يشكل قاعدة بحثية واكاديمية متخصصة يمكن ان تسهم بقوة في بعث هذه الوثيقة وتنشيطها وإعادة دراستها وتقويمها والبحث في ما اعتراها من معوقات. ويبدو أن اليونيسكو تنبهت لذلك، إذ جاء في الرسالة المشتركة لليونيسكو ومنظمة العمل الدولية ومنظمة اليونيسيف في 5/10/2005 والتي اشار اليها المؤلف بدقة في فصل الكتاب عن"المخرج""افول المعلم"، وهي وثيقة اشبه بنداء الاستغاثة تبعتها نداءات متوالية من المنظمات الآنفة الذكر. يعتبر كتاب زياد بن عبدالله الدريس الأبرز في مجاله، إذ عكف المؤلف على مصادر ومراجع كثيرة واتسمت لغته بالجزالة والدقة والموضوعية. ويعد الكتاب اضافة ليس للمكتبة العربية وحدها وانما يقدر له ان يكون منهلاً طيباً للمعرفة الانسانية في هذا المجال التزم فيه مؤلفه النهج العلمي والبحث الاكاديمي. ومن المفيد ان يقف عليه الدارسون والباحثون في مجال التربية والتعليم ويجد فيه المهتمون بالعولمة ومآلاتها مرجعاً يفتح الكثير من الآفاق ويجيب على الكثير من التساؤلات، على رغم حرص مؤلفه على القول انه"ثير الكثير من الاسئلة اكثر مما يعلب اجوبة جاهزة". ولعل منظمة اليونيسكو تولي هذا المؤلف ما يستحق من رعاية وعناية واهتمام، خصوصاً انه الاسهامات الايجابية لمتخصص في شأن يشكل احد أهم الركائز التي تقف عليها المنظمة وتبشر لها وتجهد في رفعتها والترويج لها. كما ان للمنظمة العربية للثقافة والعلوم والتربية سهماً يتوجب ان تدلي به في هذا الشأن، اما باعتبار ان هذا المؤلف المتميز يشكل إضافة علمية رفيعة لفهم ودعم استراتيجية ومهمات هذه المنظمة، او من خلال العمل على اعتباره وثيقة علمية يمكن لمجمل الدول العربية وللمهتمين بأمر التعليم والعلوم والتربية الاستفادة القصوى منها لفتح آفاق لوضع أسس لاستراتيجية عربية متكاملة. ولا شك في ان مثل هذا العمل الذي استغرق وقتاً وجهداً يصعب تناوله بإيجاز أو الاطلاع عليه على عجل، وما أوردته لا يعدو خواطر عامة وليس تقويماً شاملاً او دراسة تفصيلية وانما ارجو ان يكون هذا أقرب للدعوة للوقوف على تفاصيله ومكنوناته. * باحث وأكاديمي سوداني