هنئت بالفعل في هذه الشقة التي كانت أشبه بمستودع للتحف الزائدة عن الحاجة، والمقاعد والأطقم الكلاسيكية التي طردتها مظاهر الحداثة من بيت خالي ومكتبه مع أنها لا تزال تنطق بالأصالة وتقوى على مناطحة الزمن وتبقى جميلة مهيبة وإن كان بعضها ثقيلاً وضخماًً. لقد شعرت باتساق داخلي مع هذا الأثاث المتناغم رغم عدم تنسيقه، إذ هو مركون كيفما اتفق في أماكن متحاضنة، هو الذي تحتاج كل قطعة منه إلى حيز متسع من حولها لتبرز شموخها وتفردها. طابت لي الحياة تماماً في البيت والمكتب. وكنت ألاحظ أنني في غاية الشوق دائماً للعودة إلى البيت، وأتمنى أن لو طالت فترة الغداء أو العشاء لكي استمتع برؤية راندا والجلوس معها، واستقطاب حديثها الطلي. لقد زال عني أثر الصدمة الأولى من تحررها في اختيار الأزياء على ذوق أجنبي صرف صادم لتحفظاتنا الشرقية، فسريعاً ما اتضح لي أنها كائن إنساني بمعنى الكلمة، في غاية من الرقة والنقاء، والطهر والبراءة، والاستيعاب الجيد للفنون كافة. العجيب أنها إلى ذلك ست بيت ممتازة، تعرف من فنون الطبخ وأصناف المأكولات ما يجعل من كتاب"أبلة نظيرة"سجلاً بدائياً لمأكولات خشنة غير شهية، غير صحية، ولا أدري متى ولا كيف تعلمت هذه الفنون. حين أنصت إليها وهي تشرح لي موسيقى"الدانوب الأزرق"أو إحدى السيمفونيات الشهيرة أو معزوفات الإيطالي بغانني على آلة الكمان - ولديها شرائط وأسطوانات كثيرة له - أو تحلل أبعاد لوحة تشكيلية لسلفادور دالي أو بيكاسو أو فان جوخ - ولديها كتالوغات كثيرة تضم صوراً فخمة من هذه اللوحات - أو تدلني على ما وراء تجاعيد وجه سعد زغلول في تمثال محمود مختار من مشاعر بعينها شخصها أزميل النحات. حين أسمع وأرى كل هذا أشعر بأني أطير في الهواء محلقاً فوق أسوار جنة من جنات الخلد. إنها كائن أرقى من الشهوة الجنسية وإن بدت فيها فاتنة الإشعاع مثل المطربة فيروز يتلخص فيها ? باختصار دقيق مذهل ? شموخ الفتنة، شموخ يحجمك ويفرض عليك احترامه وتبجيل صنع الله فيه. بات شغلي الشاغل أن أعرف رأيها في. أقصد، ما إذا كانت تتباسط معي هكذا لأنها أحبتني؟ أحبتني لصفات ومقومات ذاتية استأهلت حبها؟ أم أنها تتباسط معي لا أزيد ولا أقل بحكم صلة القرابة القريبة؟ أحياناً يهتف بي هاتف في صدري بأن هذا موضوع سابق لأوانه. ولكن الشهور تمضي وأنا غارق في حبها لدرجة تعجزني عن الطفو فوق السطح لاستبصر ماذا يمكن أن يكون هذا الحب وإلى أي حد سوف يقودني، ثم إنها هي التي استغرقتني تماماً، لم تترك بيننا فرصة للغو الكلام، أو للشطط، كل لحظة من لحظاتي معها كانت قرينة لفن الموسيقى بما هي زمن ملآن بجوهر ما، إن تخللته هنيهات صمت موضوعي ذات دلالة في سياق الجوهر، سياق اللحظة. نعم، فحتى هنيهات الصمت بيننا تكون ملآنة بحركة للمعاني والمشاعر داخل النفس تقتضي صمت اللسان، ولا تقبل أن يتطفل عليها موضوع من خارجها، سريعاً ما تلفظه اللحظة في التو كأن لم يكن، حيث النفس مكتفية بما هي فيه مستمتعة بما هو أرقى من أي شغل آخر. قمعت في نفسي كل هاتف يحرضني على فتح موضوع الحب في حضرتها، سيطر على فؤادي خاطر مبهج راح يغبطني على هاتيك اللحظات التي أعيشها في حضرة راندا، وراح يسخر من ريفيتي الخشنة قائلاً: إن لم يكن ما أنت فيه هو الحب في أسمى حالاته وأعمق معانيه فماذا يكون معنى الحب الذي تتصوره أنت يا مغفل، يا من لا تفهم الضرب إلا بالمسوقة الغليظة ولا تفهم الحب إلا بالثرثرة الفارغة وترديد عبارات مرعوشة مكذوبة بالضرورة لأنها أشبه بصيغ الخطب المنبرية القديمة التي كانت تطبع في كتب وتباع في المكتبات ليشتريها إمام مسجد خامل البديهة بلا قريحة، لينقش منها الخطبة المناسبة للمناسبة ثم يحفظها عن ظهر قلب أو يقرأها من الكتاب على المنبر، فهي في النهاية وعظ عام قيل فيه الكلام نفسه بلايين المرات على امتداد القرون، وهكذا عبارات الحب والغرام المبثوثة في الأفلام والمسلسلات أصبحت لبانة على ألسنة من يتصورون أن هذا هو الغرام. إنما الغرام الحق هو هذا الذي أصبحت أعيشه. إنه الجوهر الثمين للحب. فلا أظن مطلقاً أن الآنسة راندا يمكن أن تقضي معي كل هذه الساعات في محاورات واستماعات ومشاهدات في أريحية عظيمة من دون أن يكون ذلك دليلاً على التوافق والتماهي. ولكن السؤال هو: هل تقبلني راندا زوجاً لها؟ صحيح أنني أفضل تأجيل الزواج حتى استجمع الكثير من الخبرات العملية في سوق العمل لأبدأ مشروعي الخاص المستقل، إلا أن هذا السؤال سيبقى مطروحاً وبشكل يبعث على القلق. ذهبت معهم إلى المصيف في الساحل الشمالي، فكثرت فرص الانفراد بخالي على الشاطئ. وفي إحدى الخلوات، وهو جالس على الكرسي المشمع تحت الشمسية مرتدياً المايوه فحسب، والفوطة مطروحة على كتفيه فكانت تفاصيل جسده قبيحة منفرة، طيات لحم فوق بعضها مع نتوءات كالقرع العسلي في الجنبين، كل ذلك تحت شعر غزير يغطي الصدر والبطن والساعدين والساقين فبدا لي نسخة من جدنا القرد بعد مرحلة الوقوف على قدمين. كان قد نحى الجريدة لتوه في سأم، وفي ضجر تركها للريح تعصف بها وتقصفها في ضجيج حتى صارت كمناديل تتلوى في الهواء وتعلق بالشماسي، فيما كانت راندا منعزلة بعيداً قرب حافة الماء مرتدية نظارتها السوداء الثمينة، منهمكة في قراءة رواية"أولاد حارتنا"لنجيب محفوظ التي استعارتها مني- لتحسم رأيها في ما يثار حولها من ضجة، وكان المصيف في نظرها فرصة للاختلاء بها والاجهاز عليها، وقد رشقت في أذنيها سماعة الهاتف المحمول، فعرفت أنها تستمع إلى الموسيقى المبثوثة عليه من قنوات فضائية تشترك هي فيها من أجل هذا الغرض وغيره من أغراض المعرفة الفورية لما يطرأ على العالم من أخبار وظواهر. في تلك الخلوة وجدتني أقول لخالي: ألم تفكر الآنسة راندا في الزواج يا خال؟ رفع ذراعه كأنه يكلم القاضي في المحكمة: هذا أمر تحدده هيّ. - ألم يتقدم لها أحد؟ - زوجها هي التي ستحدده وتختاره بنفسها! - وهل اختارت؟ - لا أظنها تختار من ورائي. على الأقل ستبلغني - إنها حقا مشكلة - زواجها تقصد؟ - راندا نفسها. من ستختاره تكون أمه دعت له في ليلة القدر! ابتسم. بدت في عينيه نظرة مختلجة بحرارة التعاطف. إنها نظرة أمي نفسها. طبق الأصل، من العينين الصافيتين نفسيهما. صمت هنيهة ثم قال بلهجة ذات معنى: ألاحظ أنك ارتقيت بذوقك في اللبس! لم تكن من قبل تهتم بهارمونية الألوان ولا بأربطة العنق الثمينة وماركات البدل والقمصان والأحذية. ثم غالب الابتسامة وغالبته على الحياء، ثم أضاف: كانما ليريحني وينهي الموضوع: "هذا شيء جيد على كل حال. بشرة خير يعني!" أسكرتني هذه العبارة. ليست هي نفسها التي أسكرتني، بل اللهجة الدافئة التي قيلت بها وما تحويه من تفاؤل بدا لي حقيقياً صادقاً، كأن خالي عبد الودود هو الآخر يتمنى لو أن ما في مخيلتي قد حدث. نشر في العدد: 16893 ت.م: 05-07-2009 ص: 21 ط: الرياض