تلعب خشبة مسرح دار ثقافات العالم التي يديرها شريف الخزندار في باريس، منذ سنوات عدة، دوراً مميزاً لجهة التعريف بثقافات العالم، خصوصاً الشرقية منها، ولدفع الجمهور الاوروبي وتحديداً الفرنسي لاكتشافها. ولطالما كان هذا المكان رائداً في احضار انواع الموسيقى والغناء اضافة الى الاشكال المسرحية المختلفة من انحاء متفرقة من العالم لتكون بمتناول الجمهور الفرنسي الذي لا يتردد في الاقبال على هذه الانواع. ويتابع هذا المكان مساهمته في اتاحة الفرصة امام الجمهور الباريسي على وجه الخصوص ليكتشف الموسيقى العربية بين الانواع الموسيقية التي يقدمها. وهو ينظم هذه السنة، على مسرحه وفي عدد من الاماكن الاخرى التي توزعت في العاصمة الفرنسية ومنها خشبة معهد العالم العربي، مهرجانه الثاني للمتخيل. وفي برنامج المهرجان عدد من الأنواع الموسيقية العربية المتصلة بالمتخيل وبالتقليد العربي الذي يتابع حضوره في عالم اليوم. أولى الامسيات العربية ضمن هذا المهرجان كانت حفلات ثلاث لنداء ابو مراد بصحبة المغني الشيخ محمد سعيد الشامي، اقيمت بين السادس والثامن من آذار مارس الحالي على خشبة مسرح دار ثقافات العالم. حملت الاماسي عنوان "سماع في وصف ليلى"، آخر ما توصل اليه ابو مراد من لحن في بحثه داخل مودات المقام. وهو العمل الاخير له وقد خرج في اسطوانة رقمية السنة الماضية في بيروت حيث قدم ابو مراد حفلات عدة للجمهور اللبناني الذي اظهر تجاوباً كبيراً وتعطشاً للتعرف على هذا النوع العربي الأصيل القائم في الوجدان مثل حلم منسي. ويمتاز هذا الفن الموسيقي باعتماده على سلالم المقامات النغمية الفريدة التي تفرض بطبيعتها اتساعاً لا حصر له، وتتطلب من المتعاطي معها حتمية التنويع المستمر في جملها اللحنية الموروثة حتى لا تدخل هذه الموسيقى في قوالب جامدة معممة، ويفترض بالتالي معرفة عميقة بهذه الموسيقى وتمكناً كبيراً يتيح الارتجال. في البدء يظهر على المسرح من يشرح للجمهور غير العربي، في معظمه، معنى اسم ليلى ورمزه ومكانته في الشعر العربي وارتباطه بالمجنون قيس بن الملوح، وبالسعي المتواصل لدى هذا الشاعر الى الارتباط بالمعشوق المتخيل امام استحالة الارتباط في الواقع. يحين الموعد. ظلام. يخرج المغني الشيخ بصحبة العازف وبيده شمعة الى الجمهور المترقب. لحظات صمت رزين تخيم على المكان وتمهد للعزف. تنساب الالحان من حنايا آلة الكمان جديدة قديمة، ويتدفق صوت المغني بالاشعار التي تقود الى هناك، الى مكان الوجد والصفاء حيث الشعر والموسيقى وسيلتان للارتباط، عبر انواع الحب الصغرى، بالحب الاكبر. يدخل الحضور حديقة المقام الذي يجول على الدرجات النغمية والضروب الايقاعية التي توظف المسافات الصوتية توظيفاً خلاقاً، عبر صوت هذه الآلة، آلة الكمان، التي تسربت الى العزف العربي في القرن التاسع عشر، وعرفت في وقت قصير كيف تثبت وجودها وسيدة بين الآلات الاصيلة التي تشكل الاساس المتين للتخت الشرقي. تقول قصيدة الشاعر المعذب وفيها لفح الصحراء وحرها ووفاؤها المكين: يقولون ليلى بالعراق مريضة فيا ليتني كنت الطبيب المداويا ذكر ليلى يرتفع من مرارة الايام الحاضرة الى ذلك الماضي السابح في الصحراء ورائحة العطش، والذي يتابع حياته في الروح العربية مردداً للمرة الألف، وعبر الشعر، حكاية الحب التي ربطت بين هذين الشخصين، قيس وليلى، والتي لا تقل حكائية عن اسطورة تريستان وايزولت او عن قصة غرام روميو وجولييت. انها الحكاية - الرمز التي تتكلم بالنيابة عن كل العاشقين في الماضي والحاضر وفي كل مكان. في القاعة، استمع الجمهور المتعود على سماع النتاج الموسيقى الآتي من جميع انحاء العالم والمرتكز على النمط التراثي الى المقامات الشرقية العربية التي قولبها نداء أبو مراد، باصغاء عميق وتجاوب بطريقة حصرية مع هذا النوع من الموسيقى الخالي من التأثيرات الغربية والصادر عن الصفاء. اصغى الجمهور الى الحان ونغمات تقدم الموسيقى العربية كما هي في روحها وجوهرها وكامل ملامحها. تجاوب هذه الشريحة الواسعة من الجمهور اقام بين العازف وبين المغني من جهة وبينهما وبين الجمهور من جهة ثانية حالة من التوحد القصوى. اذا كان ابو مراد تابع عمله على تأليف المسار العشقي وتلحينه في عدد من اعماله السابقة، فانه في الاماسي الباريسية قدم تجربته الاخيرة "سماع من ذكر ليلى" للمرة الاولى، سالكاً مساراً عشقياً تدرجياً، جائباً عبر الاشعار عوالم العذريين والصوفيين... تأتي الاشعار على ذكر الحبيب في حلقة تحملها الموسيقى مباشرة الى القلب الراغب، ويصبح المشاهد السامع داخلها شاهداً على الحال، يدخل حلقة الذكر بقلبه واحاسيسه كالمريد الساعي الى المعرفة، فيعيش تجربة الحب في اصغائه الى الموسيقى التي تنتقل من مقام الى مقام، في رحلة توقظ القلب وتسدد خطاه على دروب اللحن. تنطلق الحان الكمان حزينة، أليفة، حنونة، باكية، في عزف ثابت يتواصل جائباً درب النغم الارتجالي الصاعد والمتقلب عبر احوال المقام، متسربة من حال الى حال متبوعة بالاشعار التي تصاحب هذه الموسيقى والتي تقول كلاماً منظوماً يضيف الى الروح الحية التي في الموسيقى. محمد سعيد الشامي اتى من الابتهالات والموشحات الدينية التي وهبت لهذا الصوت العتيق خامته الرصينة المتمرسة بعد عمر من التأليف الموسيقي والغناء قضاه في كنف الاذاعة اللبنانية. وكان الشامي تعلم العود والغناء على والده المرحوم حسن الشامي وعلى غيره من الاساتذة وسجل بصوته اكثر من ثلاثمئة لحن وابتهال وتوشيح ديني. صوت مبدع قادر يلائم في ادائه القصائد القديمة ومذاهب الارتجال التي تنهض كأنها من سبات وتنسكب على الحاضرين جمالاً يذكر بالحب والاحباب، صوت يثبت مرة جديدة جدارة الشامي بلقب "شيخ في فنون الغناء الاطرابي العميق". ونداء ابو مراد لا يجهل الجمهور الفرنسي، فهو بدأ نشاطه الموسيقي مشتغلاً على المقام في فرنسا، وبالتالي فان هذا الجمهور لا يعتبر غريباً عليه. وقد وصف الامسية التي احياها في السابع من آذار بأنها الافضل له في باريس، قال: "انها اسعد لحظات التجلي في حياتي، كان اللقاء عميقاً، وفيه فيض من الروح". يعتقد ابو مراد بعالمية الموسيقى، فالموسيقى بالنسبة اليه فعل عالمي وان تعددت اللغات والمسالك الموسيقية واختلفت. ويرى ان موسيقى المقام في متناول الجميع وليست حكراً على فئة من الناس او من المتثقفين، فالموسيقى الحية مفتاح عالم داخلي لكل الناس. تتميز تجربة ابو مراد في المقامات عن غيرها من التجارب المماثلة بخصوصيتها وانطلاقها نحو هذه الاجواء الصوفية التي يعبق بها اللحن. تبحث هذه الموسيقى عن مسلك متفرد يصعد باتجاه الاحاسيس التي ينطوي عليها القلب والتي يتم التخاطب عبرها. يتكلم على تجربته باستمرار بمقولة "القلب طور التجلي" التي لابن الفارض. ويستعين على الموسيقى والنغم بالفلسفة الصوفية التي تفتح له ابواباً على الوجد... تضحي الموسيقى ممراً للذات في بحثها عن ذاتها. "سماع من ذكر ليلى" محاولة لاستشفاف طيف ليلى من خلال النغم. يتحول المساع الى رؤية. تتقطر الكينونة الازلية في الزمن وتتحول الى صيرورة. هذه الطريقة في النغم يفسرها ابو مراد على انها دعوة للانسان لكي يكون هو نفسه نغماً ولكي يتحول كل شيء عبر مرآة القلب الى مقام للتجلي. ترفض مدرسة ابو مراد في عزف واعادة ابتكار المقام السهولة في الشيء، وهو ان كان يتابع نهج شيوخ الموسيقى العربية الكبار في فترة النهضة، من مثل عبده الحامولي ويوسف المنيلاوي، فان متابعته لهذا النهج تتخير سبيلاً صارماً وملتزماً لخط فكري فلسفي يقوده في تعرجات المسلك ويفسح امامه في الخيال. في حضرة الاشواق لا يعود للكلام عمر، تهدأ اوجاع الكلام وتبرأ جراحه القديمة الطويلة، تعود لتزرع في القلب حلاوة الروح. دائرة اساسها اللحن وموطنها القلب وهي الداء والدواء، وهي الحاضر يتقاطع في ذاكرته مع الماضي المقيم. تشرف الحفلة على نهايتها. ينطلق صوت المغني الشيخ بترتيلة لشطر بيت في لحن مرسل، شطر يختصر الحفل ويؤكد مرة جديدة قدرة هذه القصائد على تخطي الزمان والمكان والبيئة الثقافية والاجتماعية، لتستمر حاضرة بحداثتها المتجددة شرط حصول التلقي في قلوب الحاضرين المريدين، لتقودهم الى الحب في العمق والذي يستطيعون من خلاله الالتحاق بالنغم الاكبر، بالحب الاكبر. "النغم حب" يقول نداء ابو مراد و"المقام حياتي وأنا أريد ان اخدمه بين القلة القليلة من الناس الذين يخدمون النغم بصدق في العالم العربي". نداء ابو مراد مدعو مبدئياً للمشاركة في احياء الموسم اللبناني الذي ينظمه معهد العالم العربي في باريس الخريف المقبل، وهو يعكف على التحضير لعمل جديد يتابع فيه استكشافه للعالم الصوفي واستيحاءها لموسيقاه. وهو مسلك يقوده حالياً الى "منطق الطير" لفريد الدين العطار. وبانتظار ذلك يتابع ابو مراد والمغني الشامي جولتهما الاوروبية التي تتم بتنظيم من دار ثقافات العالم، جولة حملتهما الى مدينة كون Caen في منطقة النورماندي الفرنسية اضافة الى تولوز، قبل حفلات باريس. وستستمر هذه الجولة لتقودهما من ثم الى العاصمة السويسرية والى كل من ليون ومرسيليا وروان في فرنسا، وأخيراً مدينة اوتريخت في هولندا. جولة يعرب ابو مراد، برفقة مغنيه، عن سعادته بها ويرى ان افضل استقبال شهده خلالها كان في مدينة تولوز، حيث لمس الالتقاء بين موسيقاه في المقام وقصائد مجنون ليلى الشبيهة جداً بموسيقى التروبادور، بأناشيد الحب العذري الاوكسيتاني التي انتشرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في رحاب الاندلس وانتقلت منها الى الجنوب الفرنسي. ويقول: "شعرنا بتفاعل حار والتقاء رائع... احسسنا بتفاعل تلك الروحانيات الكاثارية مع الاحساس الاوكسيتاني كما لاحظنا نوعاً من التطابق. والا فكيف يمكن لشاعر من منطقة تولوز مثل جوفريه روديل، احب امرأة من طرابلس ربما من دون ان يراها ونظم لها اشعاراً رائعة... انه الحب على بعد "آمور دي لونا"... هناك مجانين في هذا العالم ولولا ذلك لما كانت الدنيا تستحق ان نحياها".