أحد المتابعين لي بتويتر غرّد لي بأنه سئم من مقالاتي الجادة التي غالباً ما تثير التشاؤم والإحباط؛ وقال لي لمَ لا تتحدث عن الحب؟! صمت برهة لأن الحديث عن الحب غالباً ما يكون ذا تباريح وشجن، وطافت بي الذاكرة بثقافتنا أتذكر قصص الحب وروايات الهوى. وعديدة قصص الحب في ثقافتنا القديمة كقصة عنترة وعبلة، وقيس المجنون وليلى، وقيس بن ذريح ولبنى، وجميل بثينة وكثيّر عزّة، وذهبت أقلب في تلك القصص والقصائد فوجدت شعراً ترق له القلوب وتذوب حوله الأرواح. من ذاك قصة كثيّر بن عبد الرحمن الخزاعي الذي مات أبوه وهو لا يزال صغيراً فكفله عمه، وأوكل له مهمة رعي الإبل والغنم. كان إحدى المرات يرعى ماشيته فوجد بعض النسوة من بني ضمرة، فسألهن عن أقرب ماء يورد إليه ماشيته، فأرشدته عزّة بنت حميل الكناني، وكانت شديدة الجمال مياسة القد فارعة الطول فأعجب بها كثيّر واشتعل حبها بقلبه، وانطلق ينشد بها الشعر والغزل، إلا أن أهلها لم يكترثوا بحبه لها وزوجوها رجلاً آخر ورحلت معه إلى مصر، فانفطر قلب كثيّر عليها وقال قصائد من أجمل ما قالت العرب في الحب. من ذلك ما قاله حين مرّ يوماً على ربع عزّة الذي أقفر ولم يعد به سوى ذكريات رؤياها والحديث معها: خليليَّ هذا ربعُ عزَّة َ فاعقلا قلوصيكُما ثمّ ابكيا حيثُ حلَّت ومُسّا تراباً كَانَ قَدْ مَسَّ جِلدها وبِيتاً وَظِلاَّ حَيْثُ باتتْ وظلّتِ ولا تيأسا أنْ يَمْحُوَ الله عنكُما ذنوباً إذا صَلَّيْتما حَيْثُ صَلّتِ وما كنتُ أدري قبلَ عَزَّة َ ما البُكا ولا مُوجِعَاتِ القَلبِ حتَّى تَوَلَّت أما قيس المجنون فأحب ابنة عمه ليلى منذ الصغر وقال فيها تعلقت ليلى وهي ذات تمائم ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ واستمر تعلقه بها حتى أراد الزواج بها فرفض أبو ليلى الزواج لأن عوائد العرب تمنع تزويج من ذاع حبهم بالقصيد بين القبائل. وتقدم لليلى رجل من ثقيف يدعى ورد بن محمد العُقيلي، وأمهرها عشراً من الإبل، فقسر أبو ليلى ابنته على الزواج من هذا الرجل وزوجها رغماً عنها، وسافر بها زوجها إلى الطائف بعيداً عن قيس فهام على وجهه جنّ جنونه وقال بها تشكيلة من أروع قصائد الغزل في الشعر العربي كيائيته الشهيرة التي اخترت منها هذه الأبيات: أَعُدُّ اللَيالي لَيلَةً بَعدَ لَيلَةٍ…. وَقَد عِشتُ دَهراً لا أَعُدُّ اللَيالِيا وَأَخرُجُ مِن بَينِ البُيوتِ لَعَلَّني أُحَدِّثُ عَنكِ النَفسَ بِاللَيلِ خالِيا أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا وَما بِيَ إِشراكٌ وَلَكِنَّ حُبَّها… وَعُظمَ الجَوى أَعيا الطَبيبَ المُداوِيا أُحِبُّ مِنَ الأَسماءِ ما وافَقَ اِسمَها أَوَ اِشبَهَهُ أَو كانَ مِنهُ مُدانِيا إِذا اِكتَحَلَت عَيني بِعَينِكِ لَم تَزَل بِخَيرٍ وَجَلَّت غَمرَةً عَن فُؤادِيا هِيَ السِحرُ إِلّا أَنَّ لِلسِحرِ رُقيَةً وَأَنِّيَ لا أُلفي لَها الدَهرَ راقَيا عَلى مِثلِ لَيلى يَقتُلُ المَرءُ نَفسَهُ وَإِن كُنتُ مِن لَيلى عَلى اليَأسِ طاوِيا خَليلَيَّ إِن ضَنّوا بِلَيلى فَقَرِّبا لِيَ النَعشَ وَالأَكفانَ وَاِستَغفِرا لِيا وإن متّ من داء الصبابة فأبلغا شبيهة ضوء الشمس مني سلاميا ويقال إن الشوق قد بلغ مبلغه من قيس فزار زوج ليلى وسامره وقال له هذه الأبيات بربّك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاها وهل رفت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها كأن قرنفلا وسحيق مسك وصوب الغانيات قد شملن فاها فقال الزوج أما وقد حلفتني فنعم، فسقط قيس مغشياً عليه. ثم اعتزل قيس الناس هائماً على وجهه يهذي بليلى حتى وجدوه في أحد الأودية ميتاً من آثار حب ليلى. تذكرت هذا وكل روايات العشق في ثقافتنا العربية التي يبدو أنها كانت تقدر الحب وتسلو بأحاديث الغرام ثم حاولت أن أستقرأ شيئاً من واقع الحب في أيامنا هذه فلم أجد في المجلات والصحف سوى قصص الابتزاز والمساومة التي يمارسها بعض الشباب على الفتيات أو أخبار القبض على قضايا الخلوة وصورة التاهو بشعار بالهيئة…فأدركت أن هذا هو الحب في زمن الكورونا.