دائماً ما تكشف القراءة النقدية المستفيضة لفكر عبدالوهاب المسيري عن ديناميكية خاصة بين المفاهيم والأفكار والنظريات في إطار جدليات متعددة تطرحها الحوارية الأبدية بين الشرق الروحي والغرب المادي. ولعل التساؤل المحوري الذي يطرح ذاته في إطار تحليل الخطاب الثقافي والمعرفي ??للمسيري هو: ما هي العناصر التكوينية الممثلة للأيديولوجية الفكرية لديه؟ ونحو أي اتجاه تميل تلك العناصر؟ أولاً في اعتماد العقلانية كمبدأ يستند إلى مرجعية عقائدية إيمانية، والمفهوم بهذا المعنى يتسق مع أدبيات التراث العربي الدالة على معنى النزعة البدهية أو القبلية أو الاقتناع بأن عقل الإنسان يحتوي في أسس تكوينه على نوع من المعرفة سابقة على أي تجربة بل لا تحتاج التجربة لإثباته، من ثم فهو يتجه نحو نفي المشترك الثقافي والإنساني إذ يعتمد في استخدامه للمفهوم على ركيزة الخصوصية الدينية، من ثم أيضاً تتعدد مفهومات العقلانية بتعدد المعتقدات ولا يكون هناك مفهوم موحد له دلالات ثابتة تحقق الدافعية الذهنية لسيادة العقلانية كمنهج. بينما يختلف المفهوم بهذا المعنى مع الأرضية التراثية للمفهوم ذاته إذ أنه يعد من أقدم مصطلحات الفكر الفلسفي والاجتماعي المشيرة في مضمونها الكلاسيكي وطبقاً للكثير من المرجعيات إلى نوع الفكر والعمل الواعيين بتوافقهما مع قواعد المنطق والمعرفة التجريبية حيث تكون أهداف الفكر والعمل متماسكة ومتسقة ومتبادلة التأثير والتأثر ويتم التوصل إليها من خلال أكثر الوسائل تناسباً معها، كما يختلف معها أيضاً في مضمونه المعاصر والمشير إلى أنها تمثل عاملاً عضوياً في التطور الإنساني. والعقلانية في رؤيتي كمبدأ ثقافي وفكري هي منهج توظيف العقل في التعاطي مع معطيات الواقع وانعكاسات آليات هذا المنهج ووسائله على تحولات الواقع وتغيراته وتحقيق نقلات نوعية في مراحله التطورية، فضلاً عن أن العقلانية يجب أن تتبع جدليات السياق التاريخي. فعلى صعيد العقلانية الإيمانية قدم المسيري تحليلات مستفيضة لمفهومات غربية مثل: العلمانية والحداثة وما بعد الحداثة والاستهلاكية والعقل المادي، وهي تمثل في مجملها إفرازاً مجتمعياً ارتبط خصوصاً بالتطورات الثقافية والفكرية والحضارية والسياسية والعقائدية، حتى إن هذه المفاهيم أصبحت تمثل هوية مجتمعاتها، وقد أقام استدلالاته على قصورها بحشد كم من تناقض الممارسات التطبيقية لتلك المفاهيم، إضافة إلى أن آلية التحليل فيها قد اعتمدت على أرضية الثقافة العربية الإسلامية في بنيتها ومفرداتها وأحكامها ونظرياتها. من ثم مثلت النتائج تناقضات حادة مع تلك المفاهيم انتهت إلى رفضها المكرس بالضرورة لرفض نسبية المفهوم كمبدأ. - رفض مبدأ القبول المطلق أو الرفض المطلق للمعرفة العلمية: فإذا كانت المعرفة العلمية تعني الإدراك الموضوعي للعلاقات بين الأشياء والكائنات والظواهر والقوانين التي تحكم هذه العلاقات وهو إدراك يتمثل في شكل تجريدي لغوي أو رياضي، من ثم فهي المعرفة الشاملة التي تجب كل الظواهر التي يبحثها العلم ولا ترتبط مطلقاً بالظواهر الفردية، كما أنها تستند إلى موضوعية نسبية بمعنى أنه ليست هناك حقائق نهائية مطلقة في إطار دينامية معادلات التغير والتطور، وإن اعتماد المعرفة العلمية على حقائق ثابتة لا يعني بالضرورة أن الحقائق يمكن أن ترقى على قانون التغير الذي يحتفظ دائماً بالثبات المطلق. وطبقاً لذلك فمبدأ المعرفة العلمية لا يخضع حتماً لشرطيات أو محددات القبول والرفض لأن ذلك يمثل استخدام معيار مغاير في القياس والاستدلال لطبيعة القضية، لا ينتهي بها إلى نتائجها الموضوعية وبذلك تتحول إلى بناءات نظرية أيديولوجية فلسفية أو رؤى خاصة تأخذ متجه الاتفاق والاختلاف حولها. وليس المثير علمياً أن تلك الرؤية التي توصل إليها المسيري بالنسبة الى القضية المعرفية تمثل مرحلة من مراحل اليقين الذاتي القائم على الميول والاتجاهات. بل المثير هو أن تعد مبررات التأسيس الفكري الذي اعتمده في عدم القبول المطلق للمعرفة العلمية هو التخوف من تصنيفه أيديولوجياً في خندق العلمانيين، وكذلك رفضه المطلق للمعرفة العلمية قام على خشية اعتماده أيديولوجياً على جبهة الإسلاميين. بينما الموقف الفكري النقدي لا يمكن أن يعتمد بحال في بنائه وتصوراته ومعطياته ونتائجه على الظروف والعوامل الذاتية والحسابات الخاصة، وإنما ينطلق من قناعة فكرية ثابتة ومحددة تتواجه بصلابة مع التساؤلات والبناءات، لأنه لا يستهدف إلا تحقيق الدافعية في تحريك النظريات والأفكار والأيديولوجيات، من ثم يتقدم بعضها ويتراجع بعضها الآخر طبقاً لمدى قدرة هذا البناء في الفصل بين انسيابية العطاء الثقافي وجموده. وانطلاقاً من ذلك فالموقف الفكري الذي يتميز بالثبات النسبي يؤسس دائماً لإضافة نظرية داعمة للتيارات الثقافية من دون اتخاذ موقف ضدي يحيد بالموضوعية عن مساراتها. وفي إطار الموقف نحو نسبية المبدأ قام المسيري بتقديم محاولات تنظيرية كثيرة خلال موسوعته الضخمة"رحلتي الفكرية"للبرهنة على صحة مبدأ القبول المطلق والرفض المطلق للمعرفة العلمية، ذلك ببرمجة الوقائع الذاتية والأحداث ذات الخصوصية ? بعد منحها دلالات وانطباعات خاصة - على أفكاره في قياسات متطابقة تؤكد صدقية ما يعتقد، لكن حين ترتبط الصدقية بأحادية التفسير والاستدلال تتخلخل أجزاؤها ومكوناتها المعرفية لأن استقراء الأحداث وتحليلها يختلف بالضرورة المنطقية من فرد لآخر اختلافاً يصل إلى مدى بالغ من التناقض الحاد. - تفنيد الأسس الفكرية للحضارة الغربية المعاصرة: طرحت الحضارة الغربية ذاتها باعتبارها ظاهرة وموضوعاً للفكر والبحث في إطار إسهامات المفكرين والفلاسفة والعلماء، وقد تباينت المواقف منها بتباين درجة الموضوعية القائمة على آليات الحياد المطلق، واعتمد المسيري منطقاً أصولياً في خطابه التحليلي للحضارة الغربية، وهو منطق لا يتسق بالضرورة في فرعياته وكلياته وطبيعة الظاهرة الحضارية المحيطة بالعالم الإنساني المعاصر، ولا شك أن توظيف آليات هذا المنطق يجعلها تعمل في غير اتجاهاتها وتكون نتائجها بل ومقدماتها متصادمة مع الحقيقة المجردة دائماً. وتجسيداً لذلك قدم المسيري محاولات متعددة هي في رؤيته تحديات كبرى في إطار رفضه لفكرة أن اتساع رقعة المعلوم وشموليتها يؤدي إلى تراجع رقعة المجهول، ذلك باعتبارها فكرة ممثلة لسذاجة عقلية مطلقة، إذ صار اعتقاده مبنياً على أن رقعة المجهول لا متناهية، من ثم فإن قياس المعلوم المتناهي على اللامتناهي هي من السذاجة والفراغ الفكري والمنطقي بحيث تصبح مناقشتها عبثية ذهنية. والمعنى أنه مهما ارتقت الحضارة معرفياً فلا يمكن لها نسف رقعة المجهول أو حتى نسبة خاصة منه انطلاقاً من أن علاقة التناسب مفقودة بالأساس، بينما يطرح الفكر التحليلي صفة العلاقة العكسية بينهما، فمهما كانت رقعة اللا متناهي ونسبته فهو بالحتمية وبالجبر الذاتي متناقص بنسبة ماذا لا نعرف وبحجم ماذا لا نعرف أيضاً، لكنها تناقصت بأي حجم وبأي نسبة. ولنمثل بالحضارة الإسلامية التي امتدت لأكثر من ثمانية قرون ولم ينتزع الاعتراف بقيمتها وسموها المعرفي إلا حين تراجعت المجهولات باتساع رقعة المعلوم على اختلافها فغيرت ملامح التاريخ الإنساني حين كرست منطلقات جديدة للفكر. وعلى ذلك فمن المفارقات الثقافية الخطرة أن هذا المنطق الأصولي وموضوعه الذي حاول به المسيري تفنيد إحدى الركائز الفكرية للحضارة الغربية يمكن لأي آخر أن يفند به أسس وركائز الحضارة الإسلامية لأنه يمثل قاسماً مشتركاً بين الحضارات عموماً. وليست هذه الفكرة مخالفة لمبدأ الصعود الحضاري فقط بل إنها أيضاً مخالفة في جوهرها للمنهج الإسلامي في معالجته الموضوعية القائمة على مبدأ النسبية بين المعلوم والمجهول، فمع انتهاء المسيرة البشرية يكون قد تحصل لها وفي شكل مؤكد قليل من العلم حسب النص الديني وهذا من شأنه أن يطرح انطباعاً خاصاً عن العلاقة العكسية الأزلية بينهما، بل أن هذا النص يطرح مبدأ النسبية مشيراً بكلمة"قليلاً"التي تنقل مسارات الوعي نحو التفكير في الكثير الذي لا نعرفه وأيضاً إلى تلك الخطوات الأولية لمسيرة العلم والمعرفة التي تحصّل للإنسان فيها ما هو أدنى من القليل والمشيرة في الآن ذاته وفي إطار المد الزمني إلى قياسات رياضية ومنطقية عن صورة العلم في كليته واكتماله وهي الصورة المثلى التي ظلت البشرية تسعى نحوها ولم تحققها، ولا يعد ذلك نافياً أبداً أنها حققت بعضاً منها. ونقلة أخرى يفند الدكتور المسيري خلالها معادلات التقدم التي خاضت الحضارة الغربية جولاتها وعركت دلالاتها المعاصرة على نحو يرى فيه أن كلفة هذا التقدم كانت متجاوزة لإنجازاته بأشواط أي أنه تقدم منقوص يشوبه القصور في إطار الكثير من الانعكاسات السلبية التي تفرغه من أي معنى إيجابي له على غرار مشكلات تلوث البيئة والنفايات النووية ومشكلات الهندسة الوراثية. وإذا كان لا محل مطلقاً لإقامة جدلية عن سلبيات الحضارة المعاصرة باعتبارها سلبيات دامغة فإن ملامح التقدم الإنساني هي ولا شك تتجسد في الحياة الإنسانية عموماً في شكل يستحيل معه مقارنة إنجازات هذه الحضارة بأي حضارة أخرى في طابعها التكنولوجي والمعلوماتي لسبب واحد يحمله ذلك السؤال: ما الأشياء التي لم يحققها التقدم الحضاري المتفرد للإنسان المعاصر وقد بلغ به أقصى مدى ممكن حتى إن شطحات الوهم والخيال تتحول في لحظات إلى معطيات مادية؟ فإذا كان التقدم يعتمد على ركيزتين هما الوسائل والغايات، فإن خصائص الحضارة الغربية الثابتة في نسيج ووعي هذه الحضارة والتي يمثلها: توزيع العمل، تعميق التخصص، الارتكاز على المعرفة التكنولوجية والتطبيق الصناعي والأسس العلمية، حققت الرابطة العضوية بين الوسائل والغايات، فما طرحته محطات التقدم العلمي أقام تحديات مستقبلية كبرى تستأنف الخوض فيها حضارات أخرى تحقيقاً للعلة الغائية من وجود الإنسان. وتنبثق عن فكرة سلبيات التقدم هذه فكرة أخرى يطرحها المسيري في غرابة بلغت حد الاستنكار وهي ذلك اليقين الراسخ في ضمير الحضارة الغربية بسمات التقدم من حيث السرعة والديمومة والحتمية، وخطوات التقدم لا بد لها وتبِع معناها الضمني أن تكون خطوات متسارعة يتشابك بعضها بالبعض من دون فجوات زمنية تحد من التواصلية المنطقية لتكون كاشفة عن أفكار ووسائل جديدة إحداثاً للتراكمية المطلوبة. أما أن يكون التقدم له ديمومة فذلك يمثل ضرورة ثقافية تؤكد مفاهيم السيادة المعرفية، من ثم الحضارية وتعد تاريخاً فاصلاً بين الخواء التاريخي والتفجر المعرفي. وكذلك فإن حتمية التقدم انطلقت من عقدة التراجع الحضاري، من ثم أصبحت ضرورة مجتمعية تم الالتفاف حولها لتكون ضامنة لعدم ارتداد الغرب مرة أخرى إلى عصور الظلام. أما رؤية المسيري والتي تمتد الى نسف المضمون الجوهري لمفهوم التقدم على صعيد أنه لم يعصم الإنسان الغربي من غوائل الأمراض الروحية والنفسية، بينما التقدم كعملية دينامية ليس هو الآلية الفاعلة نحو الارتقاء الروحي والاستقرار النفسي والتوازن الذاتي والتوحد الصوفي إنما الدعائم الإيمانية وحدها هي الدافعة نحو قوة روحية ربما تفوق طاقات التقدم المادي إذا توافرت لها الصدقية المطلقة بمنظومة القيم الإنسانية العليا والمعايير التي تمثل ضوابط ومحددات تقيد مفهوم التقدم. إن الإفاضة في مناقشة فكرة سلبيات التقدم استدعت من المسيري جهداً علمياً مروعاً، لكن ألا يستدعي ذلك، وعلى صعيد آخر، استحضار ومناقشة تلك الفكرة المضادة التي هي إيجابيات التخلف باعتبارها تفوق في أولويات البحث والتحليل والمناقشة سلبيات التقدم. وعموماً فالرؤية تتجه نحو أن موقف المسيري من الحضارة الغربية انبنى على أعماق ودلالات أسطورة"فرانكشتاين"التي اعتمد نتائجها كأسس منطقية لها إمكانية تحليل وتفسير وتنظير آليات الحضارة الغربية في ظرفها التاريخي. وقد رويت هذه الأسطورة مع بدايات القرن الثامن عشر وحكت أن عالماً فذاً استطاع أن"يخلق"كائناً قبيحاً ليسخره في خدمته لكن"المخلوق"يقتل"خالقه"بعد قليل ليحرر نفسه منطلقاً نحو إشاعة الفساد في الأرض. أما الإشعاعات الفكرية لهذه الأسطورة لدى المسيري فقد تجلت في أن ثمرة العلم الإنساني هي قتل الإنسان ونتيجة العلم الإنساني لا إنسانية وهو حكم قيمي مسبق يستطيع خلاله النفاذ نحو إهدار القيمة الفعلية لمستحدثات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية أيضاً. انطلاقاً من قناعاته المطلقة لمفهوم سلبيات التقدم الذي لا ينفلت منه أي منتج تكنولوجي لأن هذا المفهوم لا يتجه نحو النسبية أبداً. إن الإفاضة في تحليل مضمونات فكر المسيري لن تضيف أية نتائج مغايرة عما أسلفنا الحديث فيه لأنها تعتمد منطقاً أفقياً لا يختلف في إطاره التحرك من نقطة إلى أخرى لأن كل النقاط متساوية وذات طبيعة واحدة فهي تحمل جذوراً أصولية متراجعة عن السياق التاريخي ولا يمكن أن تحقق دافعية حتى نحو مشروع خاص للفكر الإسلامي يمحو الردة الدينية كظاهرة يمكن استبدالها بتيار إسلامي تنويري يعمل على استجلاء جوهر العقيدة ويستمد منها التواجه مع مفردات العصر حتى يقدم شروحاً علمية وثقافية وروحية تطرح جدلية العلاقة بين عطاءات العقيدة والمتغيرات الزمنية كتلك التي قدمها الكثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين. وعلى كل ذلك يكون السؤال هل تحمل العناصر التكوينية للأيديولوجية الفكرية للدكتور المسيري في دلالاتها الواضحة والضمنية ملامح مشروع فكري نهضوي يكون داعماً لحركة الفكر العربي المعاصر؟ وإذا كانت طبيعة الفكر العربي المعاصر تمثل امتداداً للفكر الأصولي في أبرز خصائصه فكيف يكون هذا الفكر الأصولي منطلقاً بالفكر العربي نحو آفاق الواقع المعلوماتي؟ بينما ترتبط المشاريع النهضوية الثقافية المعاصرة في أسسها ومكوناتها ببنية العقل الحديث أو العقل المعلوماتي في طبيعته من حيث أنه منتج لفكر ابتكاري، استشرافي، تواصلي، توليدي، منظومي، منطلق في أولوياته من معالجة الواقع الفكري المتأزم باستراتيجية ذات آليات خاصة، استراتيجية تعمل على تفكيك هذا الواقع وتشريحه وإعادة صياغته بإنتاج علاقات جديدة بين مفرداته ودفع كل مفردة باتجاه البؤرة المحققة لمعنى وجود المشروع الفكري. والمتأمل بكتابات المسيري يجد أنها تمثل قيمة ثقافية من حيث الزخم المعرفي لكنها لا تحمل، وعلى تعددها، خطاً فكرياً تصاعدياً يضم في ذاته مفهومات تغييرية أو إضافات مستحدثة أو نظريات خاصة يمكن أن تحقق التماس المطلوب مع إشكاليات الفكر العربي المعاصر. * كاتب مصري نشر في العدد: 16885 ت.م: 27-06-2009 ص: 28 ط: الرياض