كرس المفكر المصري عبدالوهاب المسيري مساحة واسعة من عمره وفكره لنقد القوالب المعرفية والنظريات الكبرى الغربية الجاهزة، وحاول بجدارة أن يؤسس معرفياً لنموذج إنساني ? اجتماعي ثقافي وتمكن من ذلك الى حد كبير، فقد شغلته مسألة أساسية هي ضرورة تغيير ذهنية التفكير العربي لتصبح منهجية لا متضاربة تفتقد التجانس الداخلي، وذلك عبر نموذجه المنهجي المعرفي التركيبي الذي يمزج بين معارف عربية تراثية ومعارف غربية معاصرة مع تطعيمها بالجانب الايماني الانساني كما كان يفضل دائماً. وما يميز المسيري أن منظوره المعرفي كان رحباً إنسانياً بمنهجية أكثر فعالية من حيث قدرتها التفسيرية ? كما فضل دوماً أن يشدد عليه ? لكثير من المجتمعات وكثير من الظواهر. يوضح المسيري أن النماذج الغربية العلمانية الشاملة وعلى رغم التفاوت والتباين في بعض وحدات التحليل والمفاهيم، تحوي داخلها دائماً"قابلية"لإعلان نهاية التاريخ التي تحدث عنها فوكوياما قبل أن يراجع أفكاره في هذا الشأن. فما هو مجهول ليس بغيب، بل هو ما لم يستطع العلم والقوانين العلمية الصارمة التوصل اليه بعد، ويتداخل المطلق والنسبي وينتهي الجدل ويصبح التاريخ دائرياً مثل الطبيعة على حد قوله. ويرى بناء على ذلك"على رغم مركزية فكرة نهاية التاريخ والحلول النهائية والفردوس الأرضي واليوتوبيا التكنولوجية إلا أن حدة الحمى الطوباوية المشيحانية التكنولوجية تختلف من عقيدة الى أخرى. فهي خافتة مثلاً في الفكر الليبرالي، ولكنها بغير شك كامنة فيه، فهو فكر يدور حول فكرة التقدم والإيمان بأن كل مجهول لا بد من أن يصبح معروفاً فلا مجال للمجهول أو الغيب، الأمر الذي يعني تزايد التحكم الإمبريالي في الواقع، الى أن يصل الانسان الى قدر عال من المعرفة العلمية لقوانين الطبيعة، بحيث يمكن تحقيق ما يشبه السعادة الكاملة المخططة المبرمجة.. أي الفردوس الأرضي". أزمة المعنى يعتبر مفهوما المعنى والقوة من أهم مقومات رؤى العالم والذات، ونحاول هنا استكشاف تصور المسيري لهما، وهو يبدأ بعرض الانتقادات ومنها انتقاداته لمفهوم أزمة المعنى الذي راج في كثير من الأعمال المعرفية والأدبية والفنية في المجتمعات الغربية، فهذا المصطلح يشير الى أن الانسان في المجتمع الحديث الغربي بالطبع يشعر بأن كل حاجاته المادية تمت تلبيتها الى درجة كاملة، كما أنه يعيش في مجتمع يسود فيه القانون، وتحكمه المؤسسات التي تضبط كل تفاصيل حياته وتوفر له الراحة المادية الكاملة. وعلى رغم كل هذا، يحس هذا الإنسان بافتقاره الى شيء أساسي ما، هو المعنى الكلي النهائي لحياته. فعلى رغم أن كل تطلعاته المادية تم إشباعها، تظل حياته مجموعة من التفاصيل المتتالية المتناثرة التي لا قصد لها ولا هدف، وبالتالي لا معنى لها. ومن هنا تنشأ أزمة المعنى التي هي أزمة تتم على الصعد الكلية والنهائية للوجود الانساني، وليس على الصعد الاقتصادية والسياسية، أي أنها أزمة إنسان باعتباره إنساناً، لا باعتباره منتجاً أو مستهلكاً، أي انساناً يحس أن جزءاً كبيراً من كيانه وإمكاناته لم يتحقق داخل المجتمع الغربي الحديث، ولذا فإن حل هذه الأزمة يجب أن يتم على مستويات غير مادية، وهو الأمر الذي لم تنجح فيه بعد المجتمعات الغربية. يستعين المسيري مجدداً بأفكار فيبر لدعم رؤيته، إذ يذهب الأخير الى الربط بين أزمة المعنى وعمليات الترشيد في الإطار المادي، فالترشيد الإجرائي يفضي الى تباعد ميادين النشاط الانساني عن بعضها البعض، فيتم ترشيد كل ميدان وفقاً لقوانينه الخاصة وقيمه الذاتية المستقلة ومنطقه الداخلي المتميز. فترشيد الميدان الاقتصادي يعني تطبيق المعايير الاقتصادية، وترشيد الميدان السياسي يعني تطبيق المعايير السياسية. وهو ما يؤدي الى: أولاً: انحسار الأسئلة الكلية والنهائية وتقلصها وانسحابها داخل مجالها الديني وربما الفلسفي. ثانياً: يترتب على ذلك أن تصير الدوائر الأخرى غير مجدية وتافهة ولا علاقة لها بما هو إنساني وكلي ونهائي. ثالثاً: والأخطر من هذا أن الدوائر المختلفة تصبح غير منسجمة، بل ومتناقضة أحياناً. فترشيد المجال الاقتصادي يعني تنمية الثروة وزيادة الإنتاج والتوصل الى خير الطرق وأنجحها لتحقيق هذا الهدف. لكن أفضل السبل وأكثرها نجاحاً من منظور إنساني قد يفيد التضحية بالكرامة الانسانية والشخصية الفردية، فما هو رشيد في مجال يصبح غير رشيد في مجال آخر. فالترشيد إذن ليس عملية متكاملة، بل عمليات عدة مستقلة متجاوزة، أي أن الترشيد يؤدي الى تجزئة الانسان، والى ظهور أزمة المعنى الكلي والنهائي. في إطار نقده لعملية الترشيد في المجتمعات الغربية والتي ارتبطت بشدة بسيادة التكنولوجيا بما أدى الى ضعف خيارات الانسان وتنامي خضوعه لسيطرة المؤسسة/ الآلة وللعلم بالمعنى الكمي القياسي الصارم، يستند المسيري الى تقويم هابرماس للحضارة الغربية الحديثة التي تتميز بالتركيز الشديد على التقنية بدلاً من التركيز على الهرمنيوطيقا أو التفسير، وتوسيع نطاق التفاهم والتواصل بين البشر، ما أدى الى تهميش الاتجاهات التأملية والنقدية والجمالية في النفس البشرية. ولهذا يذهب هابرماس الى أن هذا التركيز الأحادي يعني أن الانسان لا يستعمل كل امكاناته الانسانية في تنظيم المجتمع، ويركز على الترشيد في تقيد باعتبارات النظم الادارية والاقتصادية والسياسية التي يفترض فيها أنها ستزيد تحكمه في الواقع. كل هذا يؤدي طبعاً الى ضمور حياة الانسان، الى أن يصبح الترشيد هو"استعمار عالم الحياة". ويرى المسيري أن الغدر والقتل والخديعة هي الحالة الإنسانية الطبيعية عند هوبز ومكيافيللي، ولكن هناك حالات عدة لمضمون إنساني أخلاقي دافع عنه مفكرون غربيون مثل نعوم تشومسكي وغونتر غراس والحائز على جائزة نوبل في الأدب لعام 2008 جان ? ماري لوكليزيو وغيرهم. كما أن افتراض الخديعة والشر في النفس البشرية ليس حكراً على الغربيين فبين المسلمين والعرب من حكام وفقهاء من ذكر ذلك كي يبرر تسلط الحاكم مثل معاوية ومحمد علي الذي طبق ما جاء في كتاب الأمير من دون أن يقرأه والجبرية ومن اعتبروا وجود الإمام واجباً حتى ولو جاء عن طريق التغلب وغيرهم. وينقل المسيري عن كريستول ما ذكره من أن معدلات العلمنة ارتفعت لأقصى حد في الولاياتالمتحدة، بل إن العقائد الدينية ذاتها تمت علمنتها ولم تعد عقائد دينية، بل صارت نوعاً من المهدئات النفسية التي تساعد الإنسان على تحمل التوترات الناتجة من العصر العلماني الحديث. وطرح كريستول تفسيراً لهذه الظاهرة يرتكز على مقدمات فلسفية وتاريخية مفادها أن العقيدة العقلانية للإنسانية العلمانية بدأت تفقد صدقيتها تدريجاً، على رغم هيمنتها التامة على مؤسسات المجتمع الأميركي. ويرجع كريستول هذا الوضع الى سببين: أولاً: يمكن للفلسفة العقلانية العلمانية أن تزود المجتمع بوصف دقيق للمسلمات بهذا النسق نفسه. ذلك أن العقل قادر على تفكيك الأنساق الأخلاقية، بيد أنه لا يستطيع أن يولّدها، إذ أن الإنسان يقبل الأنساق الأخلاقية من منطلق إيماني غير عقلي، والعقل المحض لا يمكن أن يتوصل الى أن جماع المحارم خطأ، أو أن مضاجعة الحيوانات شر، ذلك أنه ليس معروفاً لدينا إن كانت الحيوانات تتمتع بهذه العلاقة الجنسية أم لا. وبسبب هذه الفوضى الأخلاقية، صار من المستحيل علينا تنشئة الأطفال، وظهرت أجيال قلقة لا تجد لنفسها مخرجاً من هذا الوضع. ومن الواضح أن النسق الأخلاقي الذي يتحدث عنه كريستول إنما يستمد من منحى أيديولوجي وتفسير أيديولوجي محافظ للدين من حيث أنه ينتمي للأصولية الأنغليكانية المعمدانية ذات الامتدادات العنصرية في مواجهة التفتح الديني لدى طوائف بروتستانتية أخرى. ويبدو أن المسيري يتفق مع كريستول في تغييب دور التطور الحضاري الثقافي والعلمي الى جانب الدين بمعناه الطقوسي الأخلاقي التعبدي، الذي أوضح خطورة مضاجعة المحارم والحيوانات. ثانياً: لا يمكن أن يكتب البقاء لمجتمع إنساني إن كان أعضاؤه يتصورون أنهم يعيشون في عالم لا معنى له. والواقع أن المجتمع ? الغربي طبعاً ? ومنذ القرن التاسع عشر شهد أن تاريخ الفكر الغربي كان مجرد رد فعل للشعور بأن العلمانية أدت الى ظهور عالم لا معنى له، وهي تحاول أن تحل هذه المشكلة بأن تؤكد للإنسان أنه يسيطر على نفسه وعلى الطبيعة من طريق الاستقلال والإبداع، وهو أمر يراه كريستول مجرد خداع للنفس. وتوقع كريستول تراجع العلمانية وتزايد الانتماء الديني. وربما يوجد مبرر هنا وهو أن المسيري استند الى كتابات إرفنغ كريستول الأولى في الستينات والسبعينات حيث لم يكن كريستول وغيره دخلوا المعترك السياسي والاجتماعي في الولاياتالمتحدة بعد. * كاتب، مدير مركز ابن رشد للتنمية وحقوق الإنسان، القاهرة، مصر نشر في العدد: 16752 ت.م: 14-02-2009 ص: 27 ط: الرياض