كل من قرأ"موسم الهجرة إلى الشمال"أحس بغصة مرارة لغياب مبدعها الكبير الطيب صالح. ما أضافه الروائي السوداني إلى الثقافة العربية في القرن العشرين يتعدى النص الروائي المُنجز إلى إنتاج ال"برادايغم"الإبداعي الجديد، راصداً الحالة التناقضية المترددة بين الشبق بالغرب وكراهيته والتي اختطفت الشطر الأوسع من المخيلة الفكرية والثقافية العربية على مدار قرنين. نص الطيب صالح كان خارقاً من الناحية الإبداعية وترجم إلى عشرات اللغات. والشكل الإبداعي للنص، الرواية، والذي كان الأداة الشيقة التي صارت تحتل المشهد الأدبي والتعبيري، ساعد على عولمة"موسم الهجرة إلى الشمال"شرقا وغربا وجنوبا... ولكن شمالاً في المقام الأول. من"قنديل أم هاشم"ليحيى حقي وحتى"واحة الغروب"لبهاء الطاهر، الرواية الفائزة بجائزة"البوكر"العربية في العام الماضي، لم يتوقف هاجس"العلاقة مع الغرب"عن فرض نفسه على الرواية العربية خصوصاً، وتعبيرات الأدب والإبداع عموماً. لكن كلما كان الشكل والمضمون الإبداعيان هما الأكثر تفوقاً، كان حضور النص والعمل المعني أشد بروزاً. قلة هي الموضوعات التي بسبب إثارتها أو فرادتها أو جرأتها تنجح في تمرير نص ضعيف من الناحية البنائية. لكن القاعدة الأساسية والتي لا ينبغي المساس بها هي الرأسمال الجمالي للنص الشعري والروائي والمسرحي والذي يكمن في شكله الإبداعي ومتانة بنيته التصويرية. مناسبة هذا الحديث هي ترقب نتيجة جائزة"البوكر"العربية للرواية العربية والتي سيعلن عنها في الأسبوع القادم في أبوظبي. فالشيء الملفت في خمس من الروايات الست المرشحة للفوز بالجائزة، والتي احتلت"القائمة القصيرة"من أصل قائمة من الروايات تجاوز عددها المئة والعشرين تنافست خلال العام الماضي، هو أن هاجس"الشمال"يكاد يتمثل فيها كلها بشكل أو بآخر. في"روائح ماري كلير"للتونسي الحبيب السالمي نرى صدام الشرق والغرب عبر الذكر العربي والأنثى الغربية، وفي"الحفيدة الأميركية"للعراقية إنعام كجه جي صياغة مبدعة لحرب الغرب في الشرق عبر حرب العراق وتمزق جيل"الأحفاد"بين الإثنين، وفي"زمن الخيول البيضاء"للفلسطيني الأردني إبراهيم نصر الله نص ملحمي مبدع للمأساة الفلسطينية حيث دور"الغرب"المركزي، وفي"المترجم الخائن"للسوري فواز حداد هناك ما يريد أن يمرره المترجم من قيم وأفكار وثقافة وإبداع تتخطى جذورها ومصادرها"الشرق"والذات، حتى في"عزازيل"للمصري يوسف زيدان والتي تروح بنا إلى القرن الخامس الميلادي وفي مناخ تاريخي مفاجئ يصور مرحلة متوترة في الديانة المسيحية في مصر, فإن خيط الشرق - غرب يظل ماثلاً هناك. الاستثناء الوحيد هو رواية"جوع"للروائي المصري محمد السماطي، وغياب الشرق والغرب وفر لها الوقت والأبداع كي تغرق في تصوير بالغ البراعة عن الفقر في الريف المصري. لا يبتعد حضور"برادايغم"شرق/ غرب عن الروايات الست التي فازت في العام الماضي بالجائزة نفسها. فرواية بهاء الطاهر التي أشير إليها أعلاه تقع في قلب هذا الهم حيث مصر الواقعة تحت الانتداب البريطاني وما ينتج عنه من تبادلات وصراعات مع ما هو محلي. والروايات الخمس الأخرى التي تضمنتها القائمة القصيرة كان يبرز فيها ذلك الهم ويخبو بدرجات متفاوتة. فبطلة"أنتعل الغبار وأمشي"للبنانية مي منسي تعيش توترات شمالية وجنوبية متفاقمة، بين وطنها الأم وفرنسا، أما أبطال رائعة السوري خالد خليفة في"مديح الكراهية"فتنتهي الأقدار ببعضهم ي"يجاهدون"من لندن وواشنطن في تصوير بديع لانفصام عمره قرنان من الزمان، وفي"تغريدة البجعة"للمصري مكاوي سعيد هناك تداعيات لكل ضغوط المثقفين وتشتتهم بين أفكار الشمال والجنوب، العالمية والمحلية، والتوق إلى الانفلات من إكراهات النظم التقليدية، لكن السقوط في وحل مساوماتها في الوقت نفسه. حتى في روايتي"مطر حزيران"لللبناني جبور الدويهي حول جوانب من الطائفية اللبنانية، وخاصة داخل الفضاء المسيحي، و"أرض اليمبوس"للأردني إلياس فركوح حول تداخل وتوتر العلاقة الفلسطينية - الأردنية وانخراط اليسار الأردني في تحالف مع الثورة الفلسطينية فإن ثمة خلفيات بعيدة يظهر فيها"الشمال"بتمثلات وتنويعات متفاوتة. لا يعني ما سبق أن"برادايغم"شرق/ غرب والمواجهة مع الشمال، أو التأثر به، أو الأنجذاب نحوه هو النموذج التفسيري الحصري لما هو مبدع في النص الروائي العربي، ففي هذا اختزال كبير وعدم موضوعية. لكن ما يعنيه، وكما أشار الى ذلك أكثر من مرة فيصل دراج وكذلك رشيد العناني في كتاباتهما عن لقاءات الغرب والشرق في الرواية العربية، أن هذا الهاجس لا يلح طواعية على الكتاب العرب، بل يعكس شعوراً مركباً بالبحث القلق عن الذات لكن دوماً في ضوء نجاح الغرب وتقدمه وهزيمة الشرق وتخلفه. ورغم أن لا حاجة للتأكيد هنا على أن"الأجندة الروائية العربية"متنوعة وأن همومها الاجتماعية والثقافية والدينية مفتوحة على مجالات وآفاق تتسع ولا تضيق، إلا أن ضغوط وهواجس إلحاح العلاقة مع الآخر، والغرب تحديدا، تواصل احتلالها بشكل مدهش للمخيلة الإبداعية العربية، وخاصة في شكلها الروائي. وسواء كانت الأجندة الروائية العربية الراهنة غارقة في المحلية، أو مستحوذ عليها من قبل هم تحديد علاقة الذات بالآخر، فإن ما يظل جديراً بالترحيب هو الإشارة إلى أن التراكم"الكمي"في الإبداع الروائي العربي في السنين الأخيرة أصبح ينتج تحولات"كيفية"فاتحاً أبوابا أوسع للرواية العربية كي تحتل أمكنة أبرز على الساحة الأدبية العالمية. فثمة حركة ترجمة للروايات العربية الفائزة بالجوائز المختلفة تستحق الإشادة. والترجمات تتعدى الأنكليزية إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية. بل إن بعض الأعمال الروائية والمنشغلة بهموم الرواية الصادرة في الفضاءات العربية يصدر بلغات غير العربية، وأحياناً في بلدان أو بلغات غير متوقعة. ومن الأمثلة غير الحصرية في هذا السياق الروايات الخمس التي كتبها الفلسطيني أنور حامد باللغة الهنغارية وصدرت هناك وتحتل مكانة مرموقة على رف الكتب في ذلك البلد، واشاد بها أدباء وكتاب كبار هناك من ضمنهم الرئيس الهنغاري السابق. لا تحتاج الرواية العربية إلى افتعال موضوعات تسهل عليها مهمة الانتقال إلى عالمية هي في أمس الحاجة إليها، فغنى الواقع العربي المريع كفيل بتزويد أجيال من الروائيين بموضوعات لا تنتهي، سواء بشكل مباشر، أو إيحائي، أو خلق الظرف المولد. ما تحتاجه الرواية العربية والفيلم العربي على السواء، هو التطوير الدائم في الشكل ومواصلة الانفلات من الأشكال التقليدية، هذا فضلا عن رفع منسوب الجرأة وتحدي المحرمات. أحد الجوانب المدهشة، على سبيل المثال، في بعض الروايات التي وصلت إلى القائمة القصيرة في جائزة"البوكر"العربية سواء في العام الماضي أو العام الحالي هو تطوير الشكل والمغامرة بالتجريب. والمثالان الملحان هنا رواية"أرض اليمبوس"لإلياس فركوح في العام الماضي، حيث المكان والشخوص والترتيب الزمني والروائي الذي يكون هو المخاطب للشخصية الرئيسية في القصة، كل ذلك يضيف شكلا متحدياً ويحفز القارئ. وهذا العام تقدم رواية إبراهيم نصر الله"زمن الخيول البيضاء"شكلاً جديداً وأخاذا لموضوع قد يبدو تقليدياً للقارئ وهو النكبة الفلسطينية. لكن استخدام رمز الخيول التي ترافق القارئ من أول الكتاب إلى آخره وكأنها شخصيات حقيقية ذات أسماء مندمجة في سرديات الأحداث، بل وفي صناعتها، لم يكسر أي روتينية متوقعة وحسب، بل تقدم بها إلى مرتبة حقيقية من الإبداع. على أن التحدي الآخر الذي تواجهه الرواية العربية، والإبداع العربي بشكل عام، على صعيد العالمية، هو تحويل النجاحات الروائية إلى أفلام عالمية. يتمنى المرء أن يرى فيلماً يقوم على رواية عربية ويحقق شهرة كاسحة مثل فيلم"مليونير العشوائيات"والذي صور تفاصيل وبؤس وفقر الحياة في الجانب التعس في مومباي في الهند، وفاز بأكثر جوائز الأوسكار مؤخراً. تغرق القصة والفيلم من بعدها في حواري وأزقة الأحياء الشعبية والفقيرة والعشوائية، لكنها من هناك تحقق عالمية فائقة النجاح. صحيح أن التحدي يتجاوز إنجاز النص الإبداعي إلى التمويل والعلاقات العامة والانخراط في مناورات شركات الإنتاج العالمية، لكن ذلك لا يجب أن يعوق الوصول إلى مثل ذلك الهدف. وإذا كانت الظروف البائسة قد تتحدى آفاق الطموح، فلنا مثل مشجع في حالة الصديق صاموئيل شمعون الآشوري الذي كان فتى يركض حافيا في حارات بغداد ويحلم بأن يخرج فيلما عن أبيه"كيكا"ويقوم بدور البطولة فيه روبرت دي نيرو. اليوم يتم التفاوض على انتاج الرواية أو السيرة الذاتية لصاموئيل"عراقي في باريس"في فيلم سينمائي عالمي. * باحث اردني فلسطيني - جامعة كامبردج نشر في العدد: 16774 ت.م: 08-03-2009 ص: 17 ط: الرياض