الآن وقد أصبح للبوكريين نادٍ، يضم الأعضاء المتأهلين للقائمة القصيرة خلال الجولتين السابقتين لمسابقة (الجائزة العالمية للرواية العربية – البوكر العربية) تنطرح جملة من الملاحظات والتساؤلات قبيل الإعلان عن القائمة الطويلة للجولة الثالثة، فالروايات الإثنتا عشرة تلك لا تشكل خلاصة الفعل الروائي العربي بالتأكيد، ولا تزعم الاستئثار به. وهي وإن كانت مميزة بمعنى ما من المعاني الأدبية فإنها ليست الأفضل على الإطلاق. وهو ما يعني أن الذوات التي أنتجتها لا تستحوذ على مجمل الخطاب الروائي، فرواية مثل (عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني مثلاً، ما زالت تُحدث من الضجيج والمبيعات والجدل - منفردة - ما يوازي أو يفوق أغلب الروايات الفائزة، رغم مرور سنوات على إصدارها، كما يتابع القراء بشغف رواية الطاهر وطار الجديدة (قصيد في التذلّل) التي تنشر على حلقات في يومية الشروق الجزائرية وهكذا. وإذا كانت بعض روايات البوكر قد استحقت التأهل نتيجة تميّزها بالفرادة الأسلوبية، وحداثة الموضوع، وجرأة الطرح، واخلاصها الواضح لمفهوم ومعنى الرواية كخطاب هدمي بنائي، إلا أن بعضها إنما تسللت إلى منصة التتويج خلسة أو نتيجة تسويات لاثقافية، فهي لا تستحق حتى المنافسة على القائمة الطويلة، ويوجد خارج المسابقة ما هو أحق منها، الأمر الذي أثقل فكرة الجائزة بخطأ جسيم يضاف إلى كتلة الأخطاء المتراكمة منذ الإعلان عن تأسيسها والتي كادت أن تقوّض الجائزة وتجعل منها مجرد فكرة، وهو أمر طبيعي بالنسبة لأي عمل في طوره الجنيني، حيث يتسع هامش الخطأ والزلاّت والمجاملات أيضاً، خصوصاً أنها في مرمى ذهنية ثقافية عربية مريضة لا تقبل إلا بالفوز واختطاف الجائزة، أو إعابة المسابقة والنكاية بكل ما يتعلق بها. والمؤسف أن الارتباك الذي اعترى البدايات لم يُكاشف به القارئ وفق مبدأ الشفافية، إنما تم الإعلان عن جانب منها جاء على شكل تسريبات فضائحية لا تليق بصدقية الفعل الإبداعي ولا بتاريخ الأسماء المتصارعة. وقد زعزعت تلك الاتهامات المتطايرة في كل صوب الثقة في أهلية الناشر العربي المتهم أصلاً بالمافياوية، كما خدشت سمعة الجائزة لدرجة التشكيك في نواياها، وهو الأمر الذي يحمّل القائمين عليها عبئاً مضاعفاً لهذا العام، كما يضع أعضاء لجنة التحكيم على مدار الجولات السابقة واللاحقة في زاوية حرجة، فالقول بأن الجائزة محجوزة أصلاً لدور نشر بذاتها مسألة يمكن ردّها بسهولة بدليل تنوّع دور النشر المتأهلة رواياتها، وكفاءة الروايات الفائزة التي صارت تتموضع بشكل دائم في محط المقروئية والبحث، وهو إنجاز يُحسب لدار النشر التي تراعي طبيعة التنافس وتختار بالتالي ما يشرّفها لحظة الترشيح ويرفع رصيدها لدى القارئ، كما يمكن أن يُنظر إلى النتائج المعلنة كإدانة ثقافية لدور النشر التي غامرت بالمشاركة دون استعداد أو بشيء من الاستهتار كما اتضح من المستوى المتدني والمخجل لبعض المشاركات. أما النعرة التي ارتفعت إثر إعلان نتائج الجولة الثانية، والتي يروّج لها بعض المتعصبين بكون الرواية العربية بدأت في مصر، ولا يمكن لأي روائي عربي أن ينازعها عرش الرواية إتكاء على سجل الفائزين بالمركز الأول في الدورتين الماضيتين، حيث فاز بهاء طاهر في الجولة الأولى بروايته (واحة الغروب) وحقق الفوز في الجولة الثانية يوسف زيدان بروايته (عزازيل) فهو أمر لا يمكن التسليم به، بدليل وجود منافسين حقيقيين من مختلف الأقطار العربية. وقد أسهموا بروايات مثيرة، وكادوا أن يخطفوا الجائزة، ففي الدورة الأولى كان هناك السوري خالد خليفة بروايته (مديح الكراهية) والأردني الياس فركوح بروايته (أرض الليمبوس) وكذلك اللبناني جبور الدويهي بروايته (مطر حزيران) وأيضاً مي منسي بروايتها (أنتعل الغبار وأمشي) بالإضافة إلى المصري مكاوي سعيد بروايته (تغريدة البجعة). وفي الجولة الثانية نافست العراقية إنعام كجه جي بروايتها (الحفيدة الأمريكية) والتونسي الحبيب السالمي بروايته (روائح ماري كلير) والسوري فواز حدّاد بروايته (المترجم الخائن) والفلسطيني ابراهيم نصرالله بروايته (زمن الخيول البيضاء) بالإضافة إلى المصري محمد البساطي بروايته (جوع) حتى خارج إطار الجائزة يوجد في المشهد من الروائيين العرب من خرجوا على المدرسة المحفوظية، وبلغوا مرتبة من العالمية، حتى اكتسبوا سمعة أدبية لافتة، كالطاهر بن جلون وآسيا جبار ورشيد بوجدرة وأمين معلوف وإبراهيم الكوني، كما يختزن تاريخ الرواية العربية قامات روائية كالطيب صالح وجبرا ابراهيم جبرا إلى آخر السلالة الروائية التي تنحت مجرى النهر الروائي سواء باللغة العربية أو بلغة (الآخر) فالرواية نسق إنساني بقدر ما يأبى الانغلاق، هو عصي على الاحتكار. وإذا كان الروائي أو الناشر المصري يراهن على تصدّر المسابقة بدون وجود منافسين على قدر من الكفاءة والتحدي فهو واهم، ويمكن أن يكون ضحية من ضحايا اللغو الناتج عن الوعي الشعبي، وعن تفشي حالة من التفكير المرتهن لخدر الريادة، فالروائي العربي بمختلف توجهاته يسجل اليوم اقتحاماً مشهوداً في المحرم الثقافي يموضعه في واجهة الحراك التنويري، ويؤهله للتماس مع معيارية الكوننة الثقافية المعتمدة كمعيارية للفعل الروائي، وبموجب ذلك المنجز صار يفرض حضوره الجماهيري اللافت، كما تشهد بذلك منتجات روائية عابرة للثقافات والمجتمعات تنتجها ذوات أنثوية وذكورية على حد سواء، وهو أمر تم التجاوب معه بمنتهى الوضوح في المسابقة، إذ لم تذهب الجائزة لروائي فلسطيني بدعوى تعضيد حالة النضال ضد الصهاينة، ولا لعراقي لمواساة الشعب العراقي وتخفيف أوجاع الاحتلال، ولا لخليجي لرفع معنويات مثقفين يعيشون تحت وطأة المحرّم الثقافي، كما يحدث دائماً في جوائز المسرح والسينما والدراما، رغم وجود أسماء كان يمكن التعاطي معها من ذلك المنطلق، وبالتالي لن تكون الجائزة محجوزة لمصر اعترافاً بريادتها التاريخية، ولا لغيرها تحت أي مبرر، حيث تم تجاوز أسماء كبيرة مشاركة في الدورتين الماضيتين لصالح ذوات روائية أقل شأناً وسمعة أدبية. ولا شك أن غياب الأسماء الخليجية عن قوائم الفائزين مسألة مؤسفة، خصوصاً بعد انكشاف وهن المنجز المحمول على رافعة إعلامية، وعليه فإن التظّلم الذي أبدته بعض تلك الدوائر ليس له ما يبرره من الوجهة الثقافية، والتلاسن الذي امتهنه بعض المثقفين مع الجهات القائمة على الجائزة بحجة الانحياز والتهميش مخجل ولا يمت للإبداع بصلة، فالرواية الخليجية لم تقدم بالفعل في الجولتين السابقتين ما يؤهلها للمنافسة الحقيقية، والمتابع للشأن الروائي يعرف هذه الحقيقة بعيداً عن التعنت وتوجيه الاتهامات، عدا محاولات شُهد لها بالمثابرة، وكادت أن تصل لكنها سقطت قبل الجولة الأخيرة. وهو اختلال بنيوي ينبغي تداركه بترميم المنجز الروائي وإفساح المزيد من الحرية للروائي، وتنشيط دور النشر التي يمكن أن تتبنى المنجز الروائي كما حدث في بلدان المغرب العربي التي تشهد اليوم انتباهة ولو متأخرة، وليس بالتباكي وإثارة النعرات التي تبالغ في تفصيم العالم العربي إلى دوائر سياسية متناحرة، مشارقية ومغاربية وخليجية، فالرواية منتج ثقافي معولم، ولا تعرف الحدود الجغراسية. ويبدو أن هذا العام يحتمل وجود روايات خليجية جديرة بالمنافسة، فالفرصة سانحة وكبيرة لبعض الروايات التي لفتت أنظار المتابعين للشأن الروائي العربي، وأظنها ستصل إلى القائمة الطويلة، ويمكن أن تترشح أيضاً بعد منافسة حامية للقائمة القصيرة بالنظر إلى مستوى الروايات المتنافسة. كل هذه التداعيات لا يفترض أن تضغط على ضمير لجنة التحكيم، ولا تربك توجهات القائمين على الجائزة التي أُنشئت في الأساس للنهوض بالرواية وتمتين ممكناتها الفنية والمضمونية الكفيلة بتعزيز مكانة الروائي والناشر والقارئ وحتى الناقد، فليس من العبث تأكيدها على أن يكون الناشر هو الممر الرسمي والفني للترشيح، فهي فرصة لتأهيل الناشر العربي فنياً وأدبياً وحقوقياً، كما أن الاصرار على ترجمة العمل الفائز، إنما يعني نقل صورة العربي كما يفكر ويشعر وكما ينوجد اليوم إلى دوائر ووعي (الآخر) بكل تشظياته وأطيافه. أما رصد المبالغ الكبيرة للروائيين والمحكّمين فيحمل في طياته اعترافاً صريحاً بقيمة الإبداع وامتناناً للمبدعين، وهو ما يعني أن الجائزة رغم ارتباكات خطواتها الأولى تشكل إشارة من إشارات العمل المؤسساتي الراغب في التصالح مع المبدع، وتجسير الفجوة بين مختلف دوائر الفعل الثقافي. من الطبيعي أن يغضب الذين لم يحالفهم الفوز، ولكن ليس من الثقافة أن يسارع الروائي الخاسر إلى اتهام القائمين على الجائزة بالتحيّز والممالأة، وأن يقلل من شأن وذائقة لجنة التحكيم بدون أن يقدم قراءة موضوعية مقنعة للروايات المتنافسة، وليس من الإبداع، التهاتر خارج النص، أي التصارع في الهامش الإعلامي، فهذا لا يخدم الرواية بأي شكل من الأشكال، فعدم فوز جي. ام. كويتزي صاحب رواية (البرابرة) والحائز على البوكر لمرتين عن روايتيه (العابر) و (حياة وذكريات السيد ك.) وخروجه هذا العام خاسراً البوكر بروايته (الصيف) بكل سمعته الأدبية، أمام هيلاري مانتيل بروايتها (باحة الذئب) لم يدفعه للتهجم على الجائزة ولجنة التحكيم، حتى الصحافة البريطانية تعاملت مع النتيجة بموضوعية، على عكس ما يبديه بعض الروائيين والناشرين العرب من حماقات إثر إعلان النتائج، لدرجة تدعو للشك في كونهم قد اطلعوا على الروايات المتسابقة، أو تحليهم بمنسوب ولو ضئيل من اللباقة والوعي يكن أن يدلّل على احترام مجايليهم من الناشرين والروائيين. أما ما يعمد إليه بعض الروائيين من تكرار المحاولة تلو الأخرى وبشكلٍ حوليٍ للإبقاء على أسمائهم داخل المسابقة ولو برواية نيئة فهذا يعني أن تلك الذوات المستعجلة والمتلهفة دائماً للفوز، لا تعمل ضد الرواية وحسب، بل ضد نفسها وسمعتها الأدبية، حيث يفترض بالروائي الخاسر والفائز على حد سواء أن يفكر لمرات ومرات قبل الإقدام على نشر رواية أخرى قد تكون بمثابة زلّة أدبية، أو نقطة عار في تاريخه الأدبي، بل ينبغي أن يراكم من الخبرات الحياتية واللغوية ما يمكّنه من إنتاج رواية متجاوزة وقابلة للقراءة والخلود. بمعنى أن يعبر بمنتهى التأني ما يعرف إبداعياً بقلق التجاوز، لا أن يجرب الضربات الروائية العبثية المتعاقبة مترقباً أن يسعفه الحظ، لدرجة أنه قد يضطر لتحطيم دار النشر التي ستمتنع حتماً عن ترشيحه كما حدث بالفعل أثناء الجولة الأولى. كذلك الناشر الذي خسر الرهان على مشتبهات روائية، يفترض به أن يحتكم إلى معيارية فنية عالية، وأن يستقطب الأسماء والأعمال الجديرة بتمثيله في المسابقة، بمعنى أن يكون أكثر اعتناء بجودة العمل من جميع النواحي الجمالية والموضوعية وحتى التسويقية، وألاّ يمارس الخديعة بتأسيس دور نشر موازية لداره لتكثير حضوره بغية تضليل القائمين على الجائزة وتوسيع فرص فوزه بالجائزة إعتماداً على التمدّد الأفقي، كما يحدث الآن بالفعل من الولادات المتكثّرة لدور النشر المنذورة للمسابقة، فالفوز لا يأتي بالصدفة ولا بتصخيب الصوت، بل بتجويد العمل، والارتقاء بكل تفاصيله كمنجز إبداعي، كما أكد على ذلك المنحى البيان الختامي للجولة الأولى - مثلاً - بإدانته الصريحة لاستهتار الناشر العربي بقيمة الكتاب حتى في نواحيه المتعلقة بكثرة الأخطاء الطباعية والإملائية والنحوية. وبعيداً عما يحدث في الكواليس من صخب وتسويات، وما يبتدعه الروائي والناشر العربي بالتعاضد مع بعض الأبواق الإعلامية المستأجرة من حيل للتعمية على القارئ وتضليل لجنة التحكيم، باتت بعض روايات البوكر تشكل مرجعية حقيقية للفعل الروائي، وصارت تحتل واجهات المكتبات كمنتج أدبي جدير بالقراءة والاقتناء، كما يعاد طباعتها نظراً للإقبال المتزايد عليها، بما هي الدليل إلى أطلس الرواية العربية في سماتها الأحدث، بمعنى أنه قد صار للبوكريين ناد. وقد أصبح هذا النادي حقيقة أدبية، وأن الجائزة قد أسست بالفعل لمنافسة إبداعية لا يمكن لروائي ولا لناشر أن يتغاضى عن أهميتها. وبالمقابل صار على الجائزة ممثلة في القائمين عليها ولجان التحكيم المتعاقبة مهمة تأكيد صدقية مسعاهم الثقافي، وتعزيز قيمتها الإبداعية، من خلال إرساء مبدأ الشفافية، والتحاور المباشر مع المتلقي بدون أي وسيط، من خلال ميثاق قراءة على درجة من الوضوح والنبالة، فالقارئ يمتلك من الذكاء ما يكفي للحكم على العمل الإبداعي، ويمكنه أن يستخدم سلطته المتمثلة في البحث عن لذة المعرفة الحسية لإبطال سلطة الأسماء وسطوة الإعلام، ولو بعد حين.