الرّأسماليّة المعولمة والأسواق المفتوحة على مصاريعها, اضافة الى السّياسات الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسّياسيّة المفروضة من قبل مؤسّسات دوليّة أو إقليميّة أو حتّى وطنيّة، هذه كلّها ليست ذات منشأ أو منزع ديموقراطي، وهي بالتّالي لن تكون قمينة بحلّ مشكلات عالمنا المعاصر بأشكال وأساليب ديموقراطيّة، تفتقدها مجتمعات كثيرة تخضع أو أخضعت قسراً، لعولمة إنفلتت من عقالها، وأفلتت معها العديد من الأسواق/الدّول أو الدّول التي تحوّلت بقدرة قادر من الإنفلات الوحشي إلى مجرّد أسواق، لتُلحق بالسّياسات الضّارة بإقتصاداتها الوطنيّة وبالقوى الإجتماعيّة المهمّشة والضّعيفة في الأساس. وفي سياق هذه العمليّة غير التّاريخيّة لا من حسيب ولا من رقيب، وفي هذه الحال لا الدّيموقراطيّة في مقدورها أن تحلّ إشكاليّات العولمة والأسواق، ولا هذه الأخيرة يمكنها أن تساهم في إنماء أو قيام ديموقراطيّة تحت إشراف ومراقبة النّاخبين أو من يمثّلهم. وإذا كانت الأزمة الماليّة قد نشأت أساساً في دول ديموقراطيّة، فلماذا يجري الرّهان على حلّها بواسطة دول تعتبر في نظر أصحاب الأزمة لاديموقراطيّة، بل هي سلطويّة إستبداديّة، على ما ينظر إلى الصّين مثلاً. أليس الرّهان هنا تحديداً هو على دور الدّولة أو دور للدّولة - تخلّت عنه الدّولة الليبراليّة الجديدة المعولمة ? وتدخّلها في السّياسات الإقتصاديّة؟ وهو إعتراف مداور بدور الدّولة ومسؤوليّاتها؟ بلى، إنّ الإعتراف بدور الدّولة بعد جحود - ومكابرة زائفة - وإبعادها وتخطئة تدخّلاتها وقيادتها الجزئيّة نسبيّا في السّياسات الإقتصاديّة، ? الإضطراري ? ليس عودة يمكن الرّكون إليه، لتصحيح الإختلالات والسّياسات الخاطئة التي أدّت إلى نشوء الأزمة، بل هو الإجراء الموقّت الّذي يذهب إليه بطاركة الأسواق والإدارات الإمبرياليّة الجديدة، لفكفكة تشابكات الأزمة ووضعها على سكّة الحل الّذي يؤمل أن يكون ناجعاً، ومنقذا للأسواق وسياساتها مرّة... وإلى فترة طويلة من الزّمن. إنّ أيديولوجيا الأسواق المفتوحة، وهي تعمل الآن على محاولة إنقاذ رأسها، والإستمرار بسياساتها، تنسى أو تتناسى أن انحرافاتها واختلالاتها الهيكلية وأزماتها البنيوية، كان لا بدّ لها من ملازمة نموّ رأسمالية ماليّة، لم تعد ترى أو تنحاز إلاّ إلى هذا الشّكل من التّردّي الرّأسمالي ك"نمط للتطور"، ولإنماء مصالحها ومصالح أربابها بمعزل عن مصالح الشّرائح المهمة الأخرى من الرّأسماليّة الصّناعيّة أو التّجاريّة أو الزراعيّة وغيرها. وهذا تحديداً ما أدّى إلى إنحياز الحكومات ونخب الطّبقات، إلى بوتقة مصالح ضيّقة، نمت بفضلها ثرواتهم إستناداً إلى تزاوج مصالح السّلطة والمال، وذلك بفعل"مرور"تلك الشّرائح من الرّأسماليّة الماليّة التي لم تعد"تعمل"في الإقتصاد الحقيقي، أو تعيش حتّى في العالم الحقيقي، قدر"عملها"وتواجدها في عالم من"الإقتصاد الوهمي"أو عالم من أوهام الأرباح الخياليّة، الواردة إليها من أسواق غير سلعيّة وغير تجاريّة لا صناعيّة ولا زراعيّة، بل من أسواق إقتصاد وهمي، تشكّل الأسهم والبورصات فيه عماد وجوده الإفتراضي الّذي أوصل العالم إلى المأزق الرّاهن. المأزق الرّاهن هذا ليس مجرّد أزمة ماليّة قد تكون عابرة، بمقدار ما هو أزمة الشّريحة الأعلى من الرّأسماليّة التي انفلتت من عقالها، بفضل العولمة ذات البعد غير الإنساني، والتي مارست نمط"إنتاج"غير منتج، اعتماداً على تضليلها النّاس وممارسة ضغوط على حكومات أو على نخب حاكمة، وإقامة نوع من"تكامل"غير مرئي مع سياسيين يعملون لمصلحة تلك الشّريحة من الرّأسماليّة الماليّة، وتقديم كل التسهيلات القانونيّة لهم، ما أوجد نوعاً من تبادل المناصب وليس تبادل المنافع فحسب، بين رؤوس الأموال ورؤوس السّياسة. ما حدا بمدير مكتب العمل الدّولي خوان سومافيا للتّحذير من أنّ الأزمة الماليّة قد ترفع أعداد العاطلين عن العمل في العالم من عشرين مليون شخص إلى 210 ملايين في نهاية العام الحالي، بل يمكن لهذه الأرقام أن تتفاقم، بحسب تأثير الأزمة على الإقتصاد الحقيقي، مؤكداً الحاجة إلى تحرّك سريع ومنسّق للحكومات للوقاية من أزمة إجتماعية يمكن أن تكون قاسية وطويلة وشاملة. من هنا يمكن توصيف الأزمة الرّاهنة، بأنّها ليست مجرّد أزمة ماليّة عابرة، إنّها الأزمة البنيويّة الأعمق في تاريخ الرّأسماليّة، تلك التي تحوّلت في عصر عولمتها وإحتكاريّتها وتغوّلها المالي المتوحّش، إلى نمط جديد من أنماط إمبرياليّة جديدة، تريد حلّ مشكلاتها على حساب العالم، حتّى أطرافه الفقيرة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيّة، وهي التي لم تجلب لها الرّأسماليّة الأميركيّة خصوصاً، سوى"هدايا"الفقر والمجاعات والحروب والصراعات الأهليّة. باستثناء الصّين واليابان إلى حدّ ما، نكون أمام إنتهاء عهود النمو القوي في آسيا، بعد أن دشّن إنهيار النّمور الآسيويّة في السّنوات الأخيرة من القرن الماضي، بداية عصر إنتهاء"المعجزات الإقتصاديّة"بعد أن ابتلعتها الرّأسماليّة المعولمة التي جعلت من العالم كلّه مراكزها الفاعلة، التي تتدفّق منها وإليها ثروات الإقتصاد الوهمي، الّذي تشكّلت"عقيدته"من قبل كارتلات كبرى متعددة الجنسيّة، فحواها ضرورة الإحتفاظ باحتياطات ضخمة من العملات الأجنبيّة، تحمل إلى الحكومات"بشرى"ضرورة الإستعداد على الدّوام للتّدخّل، لإنقاذ البنوك والمؤسّسات الماليّة المشرفة على الإفلاس. وذلك بالتّحديد ما قد يؤدّي إلى تحكّم مؤسّسات ودول إستبداديّة بإقتصادات دول ديموقراطيّة ومؤسّساتها الماليّة، وربّما تتجاوزها إلى مؤسّسات غير ماليّة، صناعيّة مثلاً، فأين هو الإسهام الدّيموقراطي أو إسهام المؤسّسات الديموقراطيّة وآليّات ونواظم عملها في تقديم حلول يمكنها أن تنقل العالم من ضفاف الأزمة، إلى بر الأمان، ما يعيد إلى العالم توازنه، وإلى الإقتصاد الحقيقي ريادته في قيادة عمليّة التّطوّر التّاريخي، التي تقوم على أكتافها مهام إنماء دول وطنيّة/قوميّة. إن إحلال الإقتصاد المنتج محلّ إقتصاد المضاربين بأموال الشّعوب وبثرواتها، قد يكون مفتاح الحلول البعيدة المدى لأزمة العالم، من أجل وضع حدّ لديكتاتوريّة المضاربين، وتنمية وضع تكون الغلبة فيه لديموقراطيّة عالميّة مؤسّساتياً ووطنياً في مجالات الفكر والثّقافة والسّياسة والإقتصاد، وإلاّ فإنّ عولمة الرّأسمال المضارب عبر العالم، لن تنتج سوى المزيد من الأزمات التي تطيح شرائح أخرى من الّرأسمالية ذاتها. * كاتب فلسطيني