ها أنا من جديد أحلق في الفضاء الرحب على متن الخطوط الهولندية KLM متوجهاً من لندن إلى أمستردام. أحب كثيراً الطيران وبالأخص عندما يكون الجو صافياً وتسلك الطائرة طريقها فوق الغمامات البيضاء، عندها أطلق التمني لو أن عالمنا الحالي سيصبح يوماً ما عالماً مثالياً مثل ذلك القابع فوق السحاب. إنه عالم متشح بالسحر والجمال، فلا شيء يعكر من صفائه ونقاوته. لا تستغرق الرحلة من لندن إلى أمستردام أكثر من ساعة. وما إن وصلت مطار"سخيبول"الهولندي، ومشيت بضع خطوات حتى كان بإنتظاري مضيفة لتستقبلني منذ لحظة وصولي، مروراً بدائرة الهجرة، إلى إستلام الحقائب، ولغاية صعودي سيارة التاكسي التي أقلتني إلى فندق"غراند هوتيل أمراث"Grand Hotel Amr‰th الذي نظم بالتعاون مع شركة"إيست ويست"للعلاقات العامة في لندن East West PR رحلة لمدة ثلاثة أيام لمجموعة من الصحافيين العرب. ومع أن الرحلة بالسيارة من المطار إلى الفندق كانت أقل من نصف ساعة، إلا انها كانت كافية ليخبرني السائق عن انه بالرغم من نشأته في مدينة صغيرة لا تبعد كثيراً عن أمستردام، إلا انه لم يزرها قبل أن يأتي للعمل فيها منذ سنة. والسبب هو أنه لكل مدينة فريقها الرسمي لكرة القدم، وهذا الشيء سبب نوعاً من العداء بين المدينتين وأهلهما. تعجبت كثيراً لهذا الشيء، وعلمت أنه مهما وصلت الشعوب إلى درجة عالية من التطور والرقي والتقدم، فإنها غالباً ما تبحث عن شيء ما لنشوب الصراعات والخلافات فيما بينها. اليوم الأول توقفت السيارة أمام فندق"غراند هوتيل أمراث"، وما أن ترجلت منها حتى كان في إستقبالي مدير الفندق الذي كان ينتظر وصولي من لندن ليرحب بي في هذا الصرح التاريخي الذي يسكن الماضي حناياه منذ ما يقارب المئة عام. ألقيت حقيبتي بسرعة البرق في جناحي الأنيق المشرف على إحدى أقنية المدينة، ثم عدت لألتقي من جديد المدير والمسؤول عن التسويق والمبيعات في الفندق، حيث تجولنا في رحابه وهم يلقون علي حكاية"أمراث"التي بدأت فصولها عند إفتتاحه عام 1916 كمركز رئيسي لأهم شركات النقل البحري في أمستردام، ثم تحول عام 2007 إلى فندق من فئة الخمس نجوم، ويضم اليوم 137 غرفة فخمة، و26 جناحاً، من أجملها"جناح البرج"Tower Suite الذي أمضيت فيه ثلاثة أيام. نظرت من شرفته الصغيرة فأطلت علي أمستردام الحلوة، بمبانيها الصغيرة، وجسورها العديدة، وقنواتها التي تمنحها وجهاً شبيهاً بمدينة البندقية في إيطاليا. ولذلك لا عجب أن تحمل لقب"فينيسيا الشمال". بصمات الماضي لا تزال عالقة على كل زاوية في الفندق، وتظهر أكثر للعيان في قاعة الإجتماعات التي لا تزال تختزن الماضي وتحافظ عليه بأدق تفاصيله. فسواء القيتم نظرة على المفروشات الموزعة في أرجاء القاعة، أو على المدفأة وما يحيط بها من لوحات مشغولة بكل عناية ودقة، أو حتى على تلك السجادة الملونة التي تكتسي أرضية القاعة، فكلها أصبحت اليوم تحفاً تتألق في حنايا"أمراث"لتضفي على جماله جمالاً، وعلى تاريخه مسحة من الرقي والكمال. نهاية الجولة كانت في مطعم"سفين سيز"Seven Seas الذي تناولت فيه العشاء مع بعض المسؤولين في الفندق، وتذوقنا الأطباق الفرنسية المستوحاة من البحر المتوسط. لم يشكل ليل أمستردام وطقسها البارد عائقاً أمام خروجنا من الفندق. ففور الانتهاء من العشاء، انطلقنا بإتجاه ساحة"لايدسبلاين"التي غالباً ما أصفها بمسرح مفتوح للفنون والألعاب البهلوانية. الجميع يلتقي في هذه الساحة، السياح، أهل المدينة، وعدد كبير من الهولنديين الذين يقصدون أمستردام لقضاء بعض الوقت في هذه الساحة الشهيرة. هكذا أنهيت يومي الأول في أمستردام، فموعدي للقاء الزملاء الصحافيين كان في اليوم التالي. اليوم الثاني خصص صباح يومي الثاني في أمستردام لزيارة متحف"فان غوخ". وأنا في طريقي إليه قلت لنفسي أليس غريباً أن يكون الفنان الذي فشل في بيع أي لوحة أثناء حياته عدا لوحة"كرمة العنب الأحمر"قادراً بأعماله، وبعد مائة وعشرين عاماً، أن يضع نفسه على قائمة أهم الرسامين العالميين؟ وصلنا المتحف وكانت صفوف الزوار تمتد إلى ما لا نهاية. و هذا الشيء طبيعي لأن المتحف يستقطب شهرياً أكثر من 100 ألف زائر. ومن حسن حظنا كانت بطاقات الدخول بحوذتنا، وهذا ما سهل علينا الدخول بسرعة. ما أن دخلنا عالم"فان غوخ"الذي يستضيف أكثر من 200 لوحة و600 رسم له ولبعض الرسامين الكبار، عم الصمت المكان، فالسكوت والتأمل سيدا الموقف هنا. الجميع منبهرون بلوحات تضج بالألون كلوحة أزهار عبّاد الشمس، أو لوحة الغربان السوداء التي اكتظ حقل القمح الذهبي بها. وبينما كنا هائمين في عالم"فان غوخ"سألنا المرشد السياحي: هل تعلمون لماذا يعشق الناس فن"فان غوخ"؟ واستطرد قائلاً: أحبه الناس لأنه يجسد أسطورة تقول"أن العبقرية جنون". فعندما ننظر إلى لوحاته نشعر بأن الرسام يعاني من اضطراب الألوان. ولهذا فإن المدرسة التعبيرية تأثرت به حتى كثافة اللون وطبقاته وآثار ضربات الفرشاة أحياناً تكون مضطربة مثل حياة الرسام المأساوية القصيرة. تركت عالم"فان غوخ"الذي يضج بروائعه الخالدة، وتوجهت مع الوفد الصحافي للقيام برحلة مائية على متن مركب ذي سقف زجاجي للتعرف على الوجه الآخر لمدينة الفن والحرية. انطلق المركب بنا، وبدأ يأخذنا في رحلة إلى أحضان الماضي، وأخذ سائق المركب يروي لنا تاريخ البيوت المتناثرة على جانبي القنوات المائية التي مررنا بها، منها أبنية سكنية فخمة بناها تجار المدينة خلال القرن السابع عشر. ومررنا في رحلتنا تحت عدد كبير من الجسور العتيقة التي يفوق عددها الألف جسر، وتعرفنا على نهر"أمستل"الذي تأخذ منه المدينة اسمها، ودهشنا عندما مررنا أمام مراكب حولها أصحابها إلى منازل للسكن، وهي مرخصة من قبل البلدية وتتمتع بكافة وسائل الراحة والرفاهية التي يتطلبها عصرنا الحالي. ومما يزيد من جمالية هذه المنازل حدائقها الصغيرة المغروسة بالزهور الملونة التي تتألق حولها في إطار ساحر. وتنتهي رحلتنا المائية، لنبدأ رحلة برية إلى الفندق للإستراحة قليلاً، ثم للعشاء في مطعم" ذي فايف فلايز"The Five Flies وهو بلا منازع من أجمل المطاعم التقليدية التي زرتها خلال أسفاري العديدة. دخلناه في تلك الليلة الباردة، فكانت أجواؤه الدافئة دعوة مفتوحة لقضاء أكثر من 3 ساعات في أرجائه، تذوقنا خلالها أطباقه الشهية التي تحضر على أيدي أهم الطهاة الهولنديين، ثم قمنا بجولة لنتعرف على تاريخه الطويل، وديكوره العريق الزاخر بجمالية الإبداع وعراقة الماضي، والذي يتجلى في الأبواب والنوافذ والجدران والأسقف. اليوم الثالث من شباك غرفتي رحت أتأمل الشمس وهي تتثاءب وتصعد بهدوء تام لتنشر أشعتها الذهبية في سماء أمستردام المكفهرة. وبعدما إنتصر النور على الظلمة، وأصبحت الساعة التاسعة صباحاً، كان علي النزول إلى مطعم الفندق لتناول الإفطار مع زملاء الرحلة. وبينما كنا نتبادل الأحاديث أطلت علينا إمرأة كبيرة في السن، عرفتنا عن نفسها بأنها ستكون مرشدتنا السياحية في ذلك اليوم. لم تمنعنا زخات المطر الخفيفة من الإنطلاق معها عبر طرقات أمستردام القديمة لنصبح وجهاً لوجه مع هذه المدينة الودودة، الشهيرة بمبانيها ذات الواجهات الضيقة، ولذلك ستلاحظون في أعلى تلك المباني خطافاً لرفع المفروشات التي يراد إدخالها إلى المنازل عن طريق النوافذ بسبب ضيق السلالم الداخلية وصغر حجمها. دهشت فعلاً عندما شاهدت العديد من مباني العاصمة منحنية قليلاً إلى الأمام، أو ملتوية إلى الجهتين اليمنى أو اليسرى، عندها سألت مرشدتنا السياحية"كاثرين"عن سبب ذلك فأجابت:"أن المدينة تقع في أرض مستنقعات تحت مستوى سطح البحر، وتقطع المدينة أكثر من مائة قناة وتساعد على تصفية الأرض وتجفيفها. وشرحت لي أن معظم المباني مشيدة في القرن السابع عشر على دعامات خشبية تصل قاع البحر حيث يتجمّد الرمل ويتحجّر كالصخر، وفي بعض الأحيان تنحني تلك المباني إلى الأمام بفعل تأثير المياه المتسللة الى الطبقات الجوفية تحتها، ولكن البلدية تولي أهمية كبيرة لهذا الأمر، وتتخذ الإجراءات اللازمة عند الضرورة". وسألتها أيضاً ألا يشعر السكان بالخوف في العيش في منازل مائلة؟ أجابت بإبتسامة عريضة: ولماذا الخوف، ولغاية اليوم لم ينهار أي مبنى قديم! وأكملت الحديث مع"كاثرين"وقلت لها: هل يعقل أن تكون أكثرية القنوات المائية بدون أية حواجز حديدية لحماية المارة والسيارات من السقوط فيها؟ فقالت لي، أن هذا الشيء ليس بالمهم، وهناك القليل من الحوادث التي سجلت نتيجة ذلك. ثم تذكرت قصة طريفة حصلت لإحدى الصحافيات الكنديات يوم كانت ترافقها مع مجموعة من الصحافيين الأجانب. فسألتنا: هل تعلمون ما الذي حصل للصحافية الكندية عندما كانت تلتقط الصور؟ أجبتها:"سقطت كاميرتها في الماء". فأجابت ضاحكة:"كلا، بالواقع سقطت الصحافية نفسها في القناة مع كاميرتها، وقام زملاؤها بإلتقاط الصور وهي تسبح في القناة لإستخدامها كصورة رئيسية لمواضيعهم السياحية". أكملنا السير في شوارع أمستردام وطرقاتها الضيقة والمغلق معظمها في وجه حركة السيارات، لزيارة متحف"فان لون"Museum Van Loon الذي يرجع تاريخ بناءه إلى عام 1672. وكان الرسام الهولندي"فرديناند بول"الذي يعتبر أشهر تلامذة"رامبرنت"أول من سكنه. وفي القرن التاسع عشر إستقبل هذا المنزل العريق عائلة"فان لون"التي قررت العيش فيه، لتسيير أمورها التجارية، وللقيام بمهامها الإدارية، حيث أن العديد من أفراد الأسرة كانوا عمدة أمستردام، ومنهم من كانوا يعملون لدى العائلة المالكة الهولندية، ولذلك منحوا لقب نبلاء. نترك المتحف ونعبر طرقات أمستردام التي لا تهدأ حركة الدراجات الهوائية عليها، ونعرج إلى شارع الزهور"سنغل"Singel الذي يشعركم بأن الربيع زائر دائم للمدينة. ما أن وصلاناه حتى عبق الجو بأريج الزهور التي تتألق بالقرب من بعضها البعض بألوانها المشرقة وأشكالها الغريبة. وكم من السياح يقصدون هذا الشارع لشراء الزهور والبصل وفصائل النباتات الغريبة الشكل، والهدايا والتذكارات المصنوعة محلياً كالحذاء الخشبي أو القبقاب الهولندي. البرنامج انتهى، ولقاؤنا الأخير كان حول مائدة العشاء في فندق"أمراث"الذي كنا بضيافته لمدة ثلاثة أيام. وعشية اليوم التالي، وجدت نفسي على متن سيارة التاكسي متوجهاً إلى مطار"سخيبول"الهولندي للعودة إلى لندن، وفي رأسي يدور سؤال واحد:"هل سيأتي يوم ما وتهوي مباني أمستردام المائلة في قنواتها المائية كما سقطت تلك الصحافية الكندية؟". سجلوا في مفكرتكم! - تأسست أمستردام حوالي القرن الثالث عشر كقرية لصيد السمك على ضفاف نهر"أمستل"، وهي اليوم مركز مزدهر للتجارة الأوروبية، ومن أكثر المدن إستقطاباً للسياح. - تشتهر بكثرة قنواتها المائية، وبدرجاتها الهوائية، وهي أيضاً مدينة الزهور والحرية. - يسيّر طيران الخطوط الجوية الملكية الهولنديةKLM رحلات منتظمة إلى أكثرية البلدان العربية، ولمزيد من المعلومات حول جدول الرحلات وأسعار البطاقات ننصحكم بزيارة الموقع التالي: www.klm.com - لحجز إقامتكم في فندق" غراند هوتيل أمراث" يمكنكم زيارة الموقع التالي: www.amrathamsterdam.com - للمزيد من المعلومات عن أمستردام يمكنكم زيارة الموقع الذي يشرف عليه مكتب ترويج السياحة في المدينة: www.amsterdamtourist.nl نشر في العدد: 16789 ت.م: 23-03-2009 ص: 26 ط: الرياض