كان صباح ذلك النهار الصيفي مشمساً ودافئاً حينما شقت طائرة الخطوط الجوية الملكية الهولندية KLM عباب السماء في رحلة لا تتعدى الساعة من لندن بإتجاه مدينة الفرح والشباب امستردام. وكنت كالمعتاد قابعاً في مقعدي المتاخم لشباك الطائرة الصغير، تارة أراقب الغمامات البيضاء السابحة في الفضاء الواسع، وتارة أخرى أتصفح المجلات والجرائد التي تقدم للمسافرين، والتي غالباً ما ابدأها بقراءة المقالات الصحافية التي تعنى بالسياحة والسفر، والتي كان منها بدء طيران"KLM"بتسيير رحلات منتظمة من امستردام إلى مسقط. وما هي إلا دقائق قليلة حتى باشرت الطائرة بالهبوط في مطار"سخيبول"Schiphol الذي منه انطلقت على متن القطار إلى وسط امستردام. في كل مرّة أزور هذه المدينة الودودة، أعود بالذكرى إلى أيام الطفولة، وبالتحديد إلى هدية قدّمها لي والدي، والتي عندما جمعت قطعها في إحدى زوايا غرفتي وجدت نفسي أمام قرية نموذجية صغيرة. وكم كانت جميلة تلك القرية بطرقاتها المزدانة بالأشجار، ومنازلها القرميدية المتواضعة، وساحاتها التي تلفها المطاعم والمتاجر من كل جانب، وتراماتها التي كانت لا تهدأ حركتها طوال اليوم. كثيرة هي المشاهد المشتركة بين"القرية الصغيرة"و"العاصمة الهولندية"، وكأن صانع تلك"القطع المخصصة للتركيب"مرّ في امستردام واستوحى تصميمه منها. صحيح أن تلك القرية التي جمعت قطعها واحدة تلو الأخرى لم تكن تملك سوى أربعة ترامات، إلاّ أن امستردام"ملكة الترامات"، وفيها 232 تراماً، وهي عاصمة الجسور وفيها 1281 جسراً، وهي أيضاً مدينة القنوات وفيها 165 قناة، ولا ننسى انها المكان الذي تنشط فيه حركة الدرجات الهوائية وفيها 700 ألف دراجة هوائية. أما أنا فإخترت من بين تلك الدراجات واحدة كوسيلة للتنقل خلال رحلتي التي استمرت ثلاثة أيام. اليوم الأول فور وصولي إلى فندق"غراند هوتيل امراث"Grand Hotel Amrath القريب من محطة القطار الرئيسية، استنشقت عبق الماضي واستمتعت بتاريخه العريق، وانا أتجول في رحابه برفقة مدير الفندق. وقد أخبرني أن الفندق كان في السابق المركز الرئيسي لأهم شركات النقل البحري في امستردام، وفي العام الماضي أفتتح أبوابه كفندق من الدرجة الأولى بعد عملية اصلاح جذرية طالت كل أنحاءه، ليشمل اليوم 164 غرفة وعشرات الاجنحة، من أجملها الجناح الشرقي المزدان بالألوان الزاهية والديكور القادم من الشرق. ولفت مدير الفندق انتباهي إلى أن جميع المأكولات والمشروبات المتوافرة في الغرف مجانية. تركت الفندق، فوجدت نفسي وجهاً لوجه مع امستردام، بدراجاتها الهوائية التي تنطلق من كل حدب وصوب، وتراماتها الملونة التي تطلق أجراسها لتنبّه المارة لإفساح الطريق أمامها، وحركة مراكبها التي تبحر بكل هدوء ورومانسية في أقنيتها العديدة. وعبر طرقات امستردام الضيقة، وصلت إلى سوق الزهور الذي ينتشر على طول شارع"سنغل"Singel، ومنه فاح أريج الزهور وعبق عطرها في الأجواء. ولأني من محبي الزهور والنبات فقد جذبني هذا الشارع بكل ما فيه، بأشكال زهوره وفصائل نباتاته الغريبة الشكل، وبمتاجره الخشبية المتواضعة التي تبيع الهدايا والتذكارات المصنوعة محلياً ومن أشهرها الحذاء الخشبي أو القبقاب الهولندي. وأثناء حديثي مع أحد التجار في الشارع، قال لي أن هولندا تنتج سنويّاً أكثر من 3 ملايين حذاء خشبي، وتعود هذه الحرفة إلى عام 1280 حيث كان يخصص هذا النوع من الأحذية للفلاحين. ولا تزال كل قرية هولندية تتميز بلون حذائها الخاص وزينته المختلفة. انهيت رحلتي هنا، وركبت دراجتي الهوائية قاصداً ساحة"لايدسبلاين"Leidseplein قلب امستردام النابض بالحياة والحركة. لا بد لكل زائر أن يتوقف في هذه الساحة سواء لمشاهدة المهرجين وهم يقدمون عروضهم المضحكة، أو للإنتشار في مقاهيها ومطاعمها التي تعج بالزوّار على مدار الساعة. وما ان باشرت الشمس بالرحيل عن امستردام، حتى كان علي الإنضمام إلى مجموعة من الأصدقاء الذين كانوا ينتظرونني في منتزه"فوندلبارك"Vondelpark، وفيه أمضينا سهرة رائعة على ضوء الشموع والمصابيح، واستمتعنا بعرض فني أقيم على مسرح في الهواء الطلق، حوّل ليل امستردام إلى فسحة مملؤة بالفرح والحبور. اليوم الثاني وتنقضي الليلة الأولى في امستردام ويطل يوم جديد، وكان علي التوجه في صباح ذلك اليوم إلى فندق"سوفيتل ذي غراند أمستردام"Sofitel The Grand Amsterdam. عندما تصله تخال أنك وصلت إلى قصر صغير سواء ببهوه الفسيح، أو بهندسته الخارجية التي تشهد انه شيد ليستقبل الملوك والأمراء والطبقة الثرية. تنقلت في أرجائه ودخلت الغرفة التي عقدت فيها ملكة هولندا الحالية"بياتريكس"عام 1966 زواجها المدني الذي يسبق الزواج الكنسي عندهم على الأرستقراطي والديبلوماسي الألماني"كلاوس فون امسبرغ". و أكثر ما أعجبني في الفندق مطعمه الذي يشرف على إحدى القنوات، وفيه تحلو الجلسات وتأمل الرحلات المائية التي لا تهدأ حركتها طوال اليوم. قررت في يومي الثاني القيام برحلة تبضع، فعلمت أنه في أيام الأحد والإثنين لا تفتح المتاجر أبوابها إلا عند الثانية عشرة ظهراً، وعلمت أن امستردام لا تستيقظ باكراً في تلك الأيام. ولذلك انضممت إلى قافلة السياح الذين يتجمعون في ساحة"دام سكوير"Dam Square أمام القصر الملكي المشيد في القرن السابع عشر. وعلمت أن القصر مشيد على دعامات خشبية تصل قاع البحر حيث يتجمّد الرمل ويتحجّر كالصخر، ثم تنقلت في أحياء امستردام القديمة التي تضم العديد من المعالم التاريخية والتراثية، وتعرفت أكثر على هذه المدينة التي بالرغم من كونها العاصمة إلا أنها لا تضم أياً من المباني الحكومية أو البرلمان. نالت إعجابي كثيراً بيوت العاصمة الصغيرة ذات الواجهات الضيقة، والتي لا تزال تحافظ في أعلى السطح على خطاف لرفع المفروشات التي يراد إدخالها إلى المنازل عن طريق النوافذ بسبب ضيق السلالم الداخلية وصغر حجمها. لم يخطئ من أطلق على امستردام لقب"فينيسيا الشمال". فوجه الشبه كبير بين العاصمة الهولندية ومدينة البندقية العائمة في ايطاليا، لأن الإثتنين تملكان ضمن مساحتيهما عدداً كبيراً من الجزر، والقنوات، والجسور. وهل يعقل زيارة امستردام من دون القيام بالرحلات المائية في أقنيتها. هذا ما قمت به، حيث قصدت نقطة تجمع المراكب الواقعة بين محطة القطار الرئيسية Central Station وساحة"دام سكوير"، واستخدمت مركباً بسقف زجاجي، وانطلقت برحلة لمدة ساعة كاملة، أعطتني فرصة الاستماع الى شريط مسجل باللغة الانكليزية يشير إلى كل ما هو مهم على ضفاف القناة المائية، مع إعطاء فكرة عن تاريخ كل موقع سياحي شاهدته في طريقي. وأخذني المركب في رحلة إلى أحضان الماضي وحكى لي تاريخ البيوت وقصص الذين سكنوها، ومررت خلال الرحلة تحت عدد كبير من الجسور، وتعرفت أكثر إلى نهر"امستيل"Amstel River الذي تأخذ المدينة منه اسمها. اليوم الثالث خصصت اليوم الثالث في امستردام لزيارة"جوردان"Jordaan، وهي منطقة جميلة بمحاذاة القناة، وتعني الحديقة باللغة الفرنسية Le Jardin. تكتنف"جوردان"أشجار وارفة الظل تزين منازلها التي يرجع تاريخ بنائها إلى القرن السابع عشر، وفيها العديد من المحلات التجارية الراقية والمطاعم الفرنسية ومحلات بيع القهوة. وهنا قصدت"كافيه تي سمول"Cafژ t Small ويقال انه أقدم محل لبيع القهوة في امستردام، ويعود تاريخه إلى عام 1786. أنصحكم بزيارة هذا المكان المميز حيث يطل على أجمل المناظر التي تقدمها المدينة لزوارها. وامستردام موطن أشهر الفنانين والرسامين العالميين أمثال"فان غوخ"الذي عاش فيها بين عامي 1853 و1890 وستجدون أعماله أينما ذهبتم في المدينة، لا سيما في متحف"فان غوخ"Van Gogh Museum الذي وقفت فيه أمام أكبر مجموعة من أعماله الفنية التي تضم 200 لوحة و600 من أشهر رسوماته. كما دخلت أيضاً متحف"رامبرنت"Rembrandt House Museum وتجولت داخل الاستوديو الذي كان يصمم فيه الفنان لوحاته، وشاهدت اللوحات التي عليها الخطوط الكبرى والتي لم يكملها ليعطيها الحياة والألوان والمعاني. في هذا المنزل التاريخي الذي شيد في القرن السابع عشر عاش الرسام العالمي بين عامي 1658 و1639، وهو لا يزال شاهدا على الفترة الذهبية التي عاشتها امستردام خلال تلك الفترة. أنهيت زيارتي لمتاحف امستردام في متحف"مدام توسو"Mme Tussauds Wax Museum المتاخم للقصر الملكي، وفيه انبهرت بالدقة والبراعة في صناعة المجسمات المصنوعة من الشمع، والتي تخال وكأنها ستبادلك الحديث أو لربما ستجيبك عن سؤال ما يدور في بالك. عشية اليوم الثالث ودعت امستردام، تاركاً ورائي مدينة لا بد وأن تأسرك بأجوائها الحالمة وأوقاتها السعيدة التي تزخر بها على مدار الساعة. إعرفوا أمستردام! - تستقطب امستردام سنوياً أكثر من 3 ملايين سائح، وبالأخص خلال فصلي الربيع والصيف - امستردام هي من أكثر المدن الأوروبية إخضراراً، فأينما وقع نظركم ستشاهدون مساحات شاسعة من الغابات والمروج والعشب الأخضر - الهولندية هي اللغة الرسمية في المملكة الهولندية، إلاّ أن الإنكليزية تحظى بإنتشار واسع - يسيّر طيران الخطوط الجوية الملكية الهولندية KLM رحلات منتظمة إلى أكثرية البلدان العربية، ولمزيد من المعلومات حول جدول الرحلات وأسعار البطاقات ننصحكم بزيارة الموقع التالي: www.klm.com - للمزيد من المعلومات عن امستردام يمكنكم زيارة الموقع الذي يشرف عليه مكتب ترويج السياحة في المدينة: www.amsterdamtourist.nl - لحجز إقامتكم في فندق"سوفيتل ذي غراند امستردام"يمكنكم زيارة الموقع التالي: www.sofitel.com - لحجز إقامتكم في فندق"غراند هوتيل امراث"يمكنكم زيارة الموقع التالي: www.amrathamsterdam.com