تحمل الصحف العربية دورياً أخباراً عن تعرّض الثقافة والمثقفين لأنواع متعددة من القيود و"المعاكسات"تشمل معظم الأقطار العربية. تتفاوت التقييدات بحيث تتناول فرض غرامة مالية كبيرة على مثقف لأنه تضامن بشكل علني مع زميل له، أو الزج بصاحب دار نشر في السجن لأنه تجرأ ونشر كتاباً لكاتبة لا ترغب الرقابة في انتشار إنتاجها الفكري، وأيضاً تطال القيود مصادرة الكتاب أو منع عرضه خلال معارض الكتب، وهو أمر عرفته هذه المعارض في أكثر من مكان في العالم العربي. تؤشر هذه المظاهر إلى معضلة تطال الثقافة والمثقفين في المجتمعات العربية، بحيث تترك آثارها السلبية على الإنتاج الثقافي وتساهم بالتالي في إدامة الجهل والتخلف. بداية، يجب التمييز بين نوعين شائعين في الأوساط الثقافية ومنتجي الثقافة، يتصل الاول بالإندماج في بنى المجتمعات العربية المنبعثة فيها العصبيات والطوائف والقبليات والعشائريات، وقد باتت هذه العصبيات تحوي شريحة واسعة جداً من مثقفيها الذين يلعبون دوراً مهماً اليوم في إنتاج ثقافتها والتبشير بمقولاتها"الفكرية"ونشرها بعد أن باتت تملك من الوسائل المادية ودور النشر ما يوفر لها هذا الإنتشار الواسع. لا تعاني هذه الشريحة من معضلات في حياتها الثقافية، فالطائفة أوالعشيرة تؤمن لها الحماية اللازمة في وجه أي تقييد لعملها من قبل السلطات القائمة. بل أكثر من ذلك، يعتبر التعرض لهذا المثقف بمثابة التعرض لمجمل الطائفة مما يحوّل قضيته الى قضية سياسية بامتياز تتصل بموقع الطائفة أو العشيرة والدفاع عن كينونتها. أمّا الفئة الثانية من المثقفين، فهم الذين يسعون إلى ممارسة موقعهم الثقافي، إنتاجا وممارسة، من موقع مستقل تفرضه مقتضيات الثقافة نفسها. هذه الشريحة هي التي تعاني صراعاً في البقاء بكل معنى الكلمة، وتشهد كل يوم تقلّصاً في وجودها وارتحالاً خارج موقعها، وتتعرض إلى ضغوطات السلطة المتعددة الجوانب. تتعرض أولاً إلى رقابة السلطة السياسية التي لا تزال في معظم البلدان العربية تمارس رقابة على الفكر والقول والممارسة السياسية، ولا تزال قوانين الطوارئ مسلطة على الكلمة. تحارب السلطة المثقف عن طريق القرارات التي تتيح منع نتاجه من النشر ومصادرة كتبه، والزج به في السجن أحيانا كثيرة، وهي أمور تسجل في خانة العقوبات المخففة، خصوصاً إذا ما علمنا أنّ كثيرة من المثقفين المعارضين كان نصيبهم النفي والسجن الطويل الأمد والموت أحياناً. يشكل هذا القيد السلطوي سيفاً مسلطاً على عقل المثقف الذي يحتاج أكثر ما يكون إلى الحرية في التفكير والكتابة والإنتاج. النوع الثاني من الرقابة تلك التي تمارسها اليوم مؤسسات ذات اتصال بالفكر الأصولي الذي يستخدم النصوص الدينية في تبرير سياساته المتطرفة، والتي يسعى من خلالها إلى تسييد نوع من الثقافة يراه واجبا على المجتمع التزامه. لا تتورع هذه السلطة الدينية-السياسية عن التشدد في ما يكتب وينشر متسلحة بسيف الترهيب المادي المتنوع الأبعاد. ففي يد هذه السلطة ما يكفي من التأثير على السلطة السياسية لإستخدام قراراتها في الرقابة على الإنتاج الفكري وذلك بحكم العلاقة النفعية المتبادلة بين هاتين السلطتين. وفي يد هذه السلطة بما تملكه من إمكانات مادية ضخمة بحيث يمكنها أن تسخّر وسائل إعلامها في التحريض على الثقافة المخالفة لما تراه متعارضا مع مقولاتها، وهي بذلك تمارس تشهيراً بهذا المثقف المخالف. أمّا الأخطر من كل ذلك فهو لجوء هذه السلطة إلى اتهامات للمثقف بالهرطقة والردة والتهجم على المقدسات، بما يتيح اهدار دمه وتعريضه للقتل، وهي فتاوى عرفتها المجتمعات العربية خلال السنوات الماضية وأودت بالكثير من المثقفين الأحرار. اما السلطة الثالثة فهي المتصلة بالموقع الذي باتت تحتله العصبيات الطائفية والعشائرية التي باتت لها ثقافة خاصة، بحيث يتحوّل تحليل البنى السياسية للمجتمعات العربية والإضاءة على معضلات التأخر الذي تعاني منها، بكل مايعنيه ذلك من تناول لهذه العصبيات بالتحليل، بمثابة تعرض سلبي لهذه البنى. وهو أمر سيؤدي إلى تسليط سيف العداء ضد المثقف الهادف إلى قراءة موضوعية لمجتمعاته والى المساهمة في تقديم اقتراحات وآراء في شأن الخروج من مأزقها. اذا كان المثقف المستقل يقف في مواجهة هذه السلطة المثلثة الأضلاع، فكيف عليه أن يسلك بما يضمن هذه الإستقلالية فلا تمنعه من التواطؤ ضد افكاره؟ لا شك أنّ معاناة شديدة سيواجهها هذا المثقف وتمزقاً داخلياً سيترك أثراً سلبياً على نشاطه. من أجل الحفاظ على حياته الشخصية، ومن أجل أن يتمكن من إنتاج ولو بشكل محدود متوافق مع قناعاته الفكرية، ومن أجل أن يتيح لهذا النتاج أن يرى النور، لأجل كل ذلك يضطر هذاالمثقف إلى ممارسة الرقابة الذاتية على أفكاره وطروحاته، بما يتناسب والمخاطر التي يدرك جيداً أنها ستواجهه. قد تكون هذه الرقابة من أعسر القيود وأشقّها على المثقف، بل قد تكون مصدر ازمات نفسية وجسدية يتسبب بها التوتر الذي يضطر للإقامة داخله في سعيه لإنتاج نصوصه. يصعب على المثقف المستقل ذي التفكير الحر أن يلائم بسهولة بين ما يتطلبه انتاجه الفكري من حرية ورحابة، وبين الهاجس الدائم المسلط على تفكيره من كتاباته التي قد تكون عاملاً يهدد حياته مادياً ومعنوياً. وتزداد أزمة هذه الفئة عندما تكون مجبرة على البقاء في موطنها واستحالة هجرتها إلى الخارج الذي يمكن أن يوفر لها حرية في العمل. لا يستقيم إبداع المثقف تحت سلطة المسدس والكرباج، فالشروط المطلوب توفرها تتناقض مع ما تفرضه السلطات من قيود في الحجر على الفكر والكلمة. يقدم المشهد الثقافي العربي الراهن أمثلة لا تحصى عن معاناة الكثير من المثقفين الذين فضلوا الهرب من موطنهم الأصلي وتحمّل آلام التشرّد من أجل أن يتسنّى لهم الإنتاج الثقافي بحرية ولو كانت نسبية. يصعب تصوّر مسار نحو التقدم والتطور لهذه المجتمعات العربية في ظل هذه المطرقة التي تسلطها السلطة على رؤوس المثقفين، وتلك الرقابة الذاتية التي يسلطها المثقف نفسه على ذاته ويقمع نفسه بموجبها تجنبا لقمع من السلطات القائمة. *كاتب لبناني. نشر في العدد: 16776 ت.م: 10-03-2009 ص: 26 ط: الرياض