محنة العراق اليوم ليست وليدة الحاضر فحسب، بل هي اعراض لتراكم واقع موضوعي يمتد عمقاً في التاريخ، تداخلت فيه عوامل المكان الجغرافي بعوامل الزمان التاريخي المتأرجح بين قطيعات حضارية متتالية كان من نتائجها تركيبة مجتمعية لها مظاهرها وخصائصها وأعراضها المختلفة التي اثرت بعمق في تشكيلة المجتمع ونمط الثقافة وسمات الشخصية في العراق. دراسة وتحليل البنية الاجتماعية والثقافية والنفسية في العراق تحتاج الى معالجة جذرية لعدد من القضايا السوسيولوجية التي لا يسع المجال لبحثها الان وسوف اتطرق بإيجاز الى بعضها ومنها: پ أولاً: ضعف الدولة وروح المواطنة والهوية پكان تشكيل الدولة العراقية عام 1921 نتاجاً مشوهاً لنمط الهيمنة الكولونيالية السائد آنذاك، حيث تم تكوين جماعة تحالف تقليدي تكون من شيوخ العشائر وكبار الضباط السابقين في الجيش العثماني والاشراف وتجار المدن والوجهاء، الذين شكلوا نخبة سياسية غير منسجمة، لم تستطع تشكيل هوية وطنية واحدة والقيام ببناء العراق وتحديثه واستعادة موقعة الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وإضعاف الانقسامات الاثنية والقبلية والطائفية، والاستمرار في بناء دولة القانون. وإذا استطاع العراقيون الحفاظ نسبياً على وحدتهم وثوابتهم الوطنية والقومية وبخاصة ما ارتبط بقيم المسؤولية المشتركة وروح التضامن والتكافل الاجتماعي، خصوصاً في عقدي الاربعينات والخمسينات، اللذين يعتبران من اخصب العقود في تاريخ العراق الحديث وأغناها من حيث التقدم الفكري والاجتماعي وكذلك من حيث التسامح الديني والاجتماعي والسياسي، غير ان العقود الثلاثة الأخيرة شهدت انتكاسة سياسية وردة حضارية مريعة وعميقة الأثر والتأثير على المجتمع العراقي وبخاصة بعد استيلاء صدام حسين على السلطة وفرضه نظاماً أبوياً ديكتاتورياً قاد الى آتون حروب وكوارث وحصار ومآس خطيرة تركت بصماتها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والنفسية، كان من نتائجها انهيار البنية التحتية وتمزق النسيج الاجتماعي والعائلي والاخلاقي، بحيث اصبح العراق منقسماً على ذاته ومنشطراً الى هويات فرعية متصارعة، مما لعب دوراً كبيراً في تغيير الثوابت الوطنية للشخصية العراقية وتشويه سماتها الأصيلة التي حاول العراقيون الاحتفاظ بها قروناً عدة. پ ثانياً: الدولة الريعية وضمور الطبقة الوسطى پالعراق بلد غني بموارده وطاقاته وإمكاناته المادية والمعنوية وله تاريخ حضاري مجيد وتراث عربي - اسلامي زاهر. وكل هذه المعطيات كان في إمكانها ان تساعد على تأسيس دولة حديثة مستقلة ومجتمعاً مدنياً متقدماً لو اعتمد على تنمية إمكاناته وموارده الذاتية بطريقة عقلانية رشيدة. وكان الإنتاج الهائل من النفط ادى الى ارتفاع عائدات النفط واتساع حجم الدولة وتضخم اجهزتها العسكرية والادارية البيروقراطية، وانتج دولة"ريعية"احدثت قطيعة بين المجتمع والفرد، وتراجعت بذلك عن خدمة المواطن لتحول الافراد الى"تنابلة"فاتحين أفواههم لتنزل عليهم رحمة"البطاقة التموينية"، التي حولت العراقيين الى مواطنين غير منتجين!! واذا كانت حرب الخليج القشة التي قصمت ظهر البعير، التي استطاعت بضربة سريعة وموجعة تهديم البنية التحتية الهشة وتمزيق النسيج الاجتماعي. فإن سقوط النظام الشمولي المزاح كشف عن هشاشة البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذلك عن ضعف الدولة التي لم تكتمل ويتم نضجها وضعف روح المواطنة وتفكك الهوية الوطنية. وللمرة الأولى شهد العراق اندماج القبيلة بالمؤسسة العسكرية عن طريق التلاحم القرابي والمناطقي والتحالف العشائري. الذي كون قاعدة إسناد مقررة لأجهزة الدولة والحزب، مما شجع على تداخل القيم والأعراف العشائرية ذات الاصول البدوية مع قيم وأعراف المؤسسة العسكرية والحياة الحضرية وتوليد أشكال من الاندماج والتماسك التقليدي الذي ساعد على تمركز السلطة في يد القبيلة وترسيخ"القوانين العشائرية"، كالدية والفصل والبدل والثأر والحسم، وتحطيم الدولة وتفكيك المجتمع عن طريق ضرب الحزب بالعشيرة والعشيرة بالحزب ومن ثم تفكيك المؤسسات الجماهيرية وإضعاف الطبقات الاجتماعية وبخاصة الطبقة الوسطى، حيث وجهت اليها ضربات موجعة بتأميم الشركات الخاصة وتوسيع هيمنة الدولة. پ ثالثاً: النظام الأبوي - الاستبدادي پوالى جانب عوامل التخلف والركود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يشكل النظام الابوي - الذكوري بنية اجتماعية وثقافية وسايكولوجية تسلطية تكون علاقة هرمية تقوم على تسلط الأب على العائلة والذكر على الأنثى والأخ على الأخت، وينتقل هذا التسلط من العائلة الى العشيرة ومن الحاكم الى المحكومين، حتى يصل الى أعلى هرم السلطة حيث يتحول الرئيس الى"الأب القائد"الذي يجب ان يخضع له الجميع. كما يقوم النظام الأبوي على صلة الدم والقربى والعصبية القبلية ونزعة التغالب البدوية، التي تقوي الميل نحو العنف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي يسبب ضعف الشخصية وتضخم الأنا وبالتالي ضعف العمل الجمعي المشترك وعدم الشعور بالمسؤولية مما يجعل بنية الشخصية العراقية مزدوجة ومتعارضة ومتناشزة في مواقفها ومترددة في اهدافها ومتأرجحة في تطلعاتها وتكشف عن عمق حضاري، وفي الوقت ذاته، عن رواسب بدوية وتقليدية كامنة. واذا اختفت بعض اوجه الثقافة البدوية التغالبية وراء مظاهر التمدن والتحديث، فان العصبيات والصراعات العشائرية تسبب في كثير من الاحيان عنفاً وعنفاً مضاداً مغلفاً بشعارات حضرية. هذه الذهنية التعارضية جعلت العراقي قلقاً غير مستقر على حال وليس عنده حل وسط، وهو ما يفسر والى حد بعيد، المزاج الانفعالي المتقلب والعاطفي السريع التأثر والتأثير المرتهن بتعارضات زمنية وتزامنية تظهره في وقت واحد مقسوماً على ذاته، متسلطاً حيناً وخاضعاً حيناً آخر. وإذا ضمرت بعض مظاهرها اليوم فسرعان ما تنشط حين تجد لها فرصة مناسبة، لأنها لا تنسجم مع الحياة الحضرية المستقرة ولا مع قوانينها العرفية والوضعية. كما ان هذه الذهنية التسلطية تزيد من التخريب الاجتماعي والنفسي وتوسع من نطاق العنف الاجتماعي وعدم التسامح، الذي يظهر في ظروف من القهر والقمع الذي يمارس جسدياً واجتماعياً ونفسياً وبصورة مخفية ومسكوت عنها، او حين تمارس تحت شعارات دينية واجتماعية وسياسية واخلاقية وبخاصة ما يمس المرأة والضعيف والقاصر والمعوق او الاتهام بالباطل والشتم وإهانة الأعراض والكفر بالمقدسات، الى العنف الاقتصادي والسياسي والعنف الجمعي الغوغائي، كما يظهر في حالات القتل والسحل والتنكيل والثأر والانتقام وغيرها. وتعود بعض أسباب النزعة الاستبدادية والميل الى العنف والانتقام الى طرق التنشئة الاجتماعية وطرق التربية والتعليم التقليدية التي تقوم على التلقين والحفظ والتطويع والتطبيع، التي تؤدي أحياناً الى ازدواج الشخصية واستلاب الثقافة واغتراب الشخصية، التي هي شكل من أشكال انكسار الذات المهانة التي تجعل من الفرد عاجزاً وغريباً عن مجتمعه ووطنه، لأنه يشعر بان المجتمع الذي يعيش فيه لا يستحق منه أي تضحية، بحيث يفقد القدرة على تحمل المسؤولية ويزداد عنده الميل الى اتخاذ الشك والريبة والحذر، وبالتالي تنامي هاجس الخوف المستمر من الأنا ومن الآخر. والواقع ان التركيبة المجتمعية لعراق اليوم ولدت أجيالاً جديدة لا تعرف معنى الانتماء والولاء للوطن ولا تعرف معنى الدولة الحديثة ولا روح المواطنة، لأنها أجيال نشأت على التسلط والخضوع واضطرت في شكل او آخر الى الالتفاف حول نفسها ومصالحها الآنية والتضامن فيما بينها اثنياً وعشائرياً ومذهبياً وطائفياً، على رغم انخراط عدد كبير منهم في الاحزاب والمنظمات المدنية. پ رابعاً: النزوح الريفي - بداوة مقنعة پوكان للنزوح الريفي الى المدن أثر كبير في نقل القيم والأعراف العشائرية الى الحياة المدينية ونمو أحياء شعبية وهامشية في ضواحي المدن. وبسبب البؤس والحرمان تحولت هذه الأحياء الشعبية الى مصدر قلق سياسي وتأزم اجتماعي مستمر أفرز مشاكل عدة بينها وبين الحكومة من جهة، ومع الأحياء الأخرى من جهة ثانية. كما تزايدت حدة التوترات والخلافات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي جعلت النازحين اكثر وعياً بواقعهم واخذوا بكسر الحصار المفروض عليهم وانتهاز الفرص المناسبة للدخول في حياة أهل المدن ووظائفهم وخدماتهم ووسائل ترويحهم وتسليتهم. وعلى رغم اضطرارهم الى الاندماج والتأقلم النسبي في حياة المدن والخضوع القسري والطوعي لوسائل الضبط الاجتماعية الوضعية والعرفية، فإنهم يتحولون بعد حين الى مجرد افراد تسلخهم المدن من جذورهم وثقافتهم وعلاقاتهم القرابية والاجتماعية لتلقي بهم في الشوارع المزدحمة والمعامل والأعمال الخدمية. وسرعان ما تصطدم هذه القوى المضطهدة والمهمشة مع الأحياء السكنية المدينية والفئات الاجتماعية المرفهة وتتدافع للتحكم في الحياة الحضرية من خلال ثقلها الكمي وليس النوعي ثم تنخرط في الحركات والاحزاب السياسية فتصير وقودها وضحيتها في آن. واذا اختفت او ضعفت بعض المظاهر الخارجية للعلاقات العشائرية، فإن القيم والأعراف والعصبيات المتولدة من مركب"التغالب"البدوي تبقى عميقة الجذور في السلوك الاجتماعي والسياسي، ويستمر مفعولها في البيئات التي ضعف نسيجها الاجتماعي - الحضري، بفعل ترييف المدن، لتظهر في السلوك اليومي مغلفة في احيان كثيرة بغلاف من التحضر السطحي الذي ينكشف في الممارسات العملية، عندما تتغلب القيم والاعراف العشائرية على الحضرية. وهو ما اطلق عليه محمد جابر الانصاري ظاهرة"البداوة المقنعة"التي رافقت ترييف المدن العربية. وما ارتداد عدد من الحركات السياسية والتنظيمات الدينية والاجتماعية الى جذورها العشائرية والطائفية والمناطقية غير مؤشر على عودتها الى قيمها وعصبياتها الكامنة. وهي في الوقت ذاته، سبب من اسباب ضعف قيم التحضر وعدم وجود هامش من الحرية والتعددية واحترام حقوق الانسان وعدم الوعي بها وصعوبة ممارستها في الواقع الاجتماعي. ان القيم والاعراف والعصبيات العشائرية والطائفية التي تتعارض مع قيم التحضر والتعددية والديموقراطية تحاصر اليوم المدن من جميع جوانبها فتتداخل مع قيمها وثقافتها وتضغط بكثافة عصبياتها على البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمدن من طريق العوائل والطوائف والاحزاب، كما تهجم بكثافتها الكمية وليس النوعية وتخترق المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية وتنتهز أي فرصة للتسلق الى قممها فتتحول الى قوة ضاربة، تضعف"الدولة"ومؤسساتها التي لم تكتمل وتنضج. وفي هذا تستخدم جميع الوسائل التي تساعدها على تثبيت ارجلها فترفع شعارات براقة كالمقاومة والدفاع عن الامة والوحدة والهوية الوطنية لاضفاء الشرعية والقداسة على اعمالها وتبريرها وحماية ذاتها. پ خامساً: ثقافة العنف وخلفت ثقافة العنف وراءها آثاراً مدمرة وشديدة الوطأة على جميع الفئات الاجتماعية وأفرزت مآسي رهيبة جعلت العراق يعيش حاضراً أليماً مثقلاً بالمصاعب وينتظر مستقبلاً غامضاً بحيث اصبح العراق يعيش على حافة المجاعة وسوء التغذية وتلوث البيئة والتدهور الصحي والبطالة والتشرد والهجرة وارتفاع معدلات الجريمة والجنوح بحيث اصبح العراق مرتعاً لمافيات المال والسياسة والجريمة المنظمة وعصابات الارهاب والقتل والذبح والاختطاف. كما ان انهيار منظومة القيم الاجتماعية والدينية والاخلاقية أدت الى تدمير إنسانية الإنسان وإهانته وإذلاله وتشويه شخصيته، وقادت في الأخير الى تصنيع ثقافة البطل الذي سرعان ما يخضع الفرد العراقي لسلطته ويجعله فرداً في قطيع كبير يسوقه الى حتفه الحتمي، مستخدماً فلسفة الخوف والقوة، التي تكمن في القدرة على اكتشاف الضعف عند الآخر والدخول من خلالها الى الخصم وإخضاعه. وقد انتج الخوف نوعاً من التمركز على الذات والعزلة والنكوص كآلية من آليات الدفاع عن الذات. وهذا يعني الخوف من الحرية والهروب منها والتخلي عن الاستقلالية الفردية، التي تقوي بدورها الرغبة في الخضوع للآخر والهيمنة من قبله عليه. پ سادساً: ثنائية التسلط والخضوع پوولدت ثقافة العنف ثنائية التسلط والخضوع وهي نزعة سادية - مازوشية تفرض نفسها على الافراد ولو بدرجات مختلفة، وتجعل الفرد خاضعاً ومستلباً ومعطلاً وفاقداً لقدراته في التفكير والعمل والحب والتعاون من جهة، وتقلل حدة التوتر والصراع والتصادم بين الفرد والسلطة من جهة اخرى، وفي الوقت ذاته تستخدم كفرصة لإشباع الحاجات والمصالح الخاصة والحصول على الامتيازات والمناصب بحيث يتحول هذا السلوك الطوعي الى ثقافة سائدة. وهو ما يقوي استراتيجية الهيمنة والتسلط وتحويل الأفراد الى مجرد أدوات طيعة في خدمتها. كما ان ثقافة العنف فككت القيم والمعايير الاجتماعية الثابتة وأحلت محلها قيم القمع والخوف والطاعة والتزلف والنفاق وعملت على تدهور المنظومة التربوية والتعليمية وتفشي الفساد والغش والرشوة والانحرافات الخلقية بحيث انهالت على اللاوعي الاجتماعي وأنتجت وعياً مستلباً عملت على تدهور العلم والمعرفة والثقافة واغتيال العقول المفكرة وهجرة الكفاءات الأخرى واضطرار الباقين الى الخضوع والرضوخ للقمع والقهر والبؤس. وعملت هذه الثقافة على تدهور طرائق التفكير والعمل والشعور والسلوك وتشوية البنية الفكرية والاجتماعية والنفسية بحيث جعلت الفرد يرتد على ذاته وعلى مجتمعه ويصبح انانياً وعدوانياً وسلبياً، ويصبح همه الوحيد هو الحفاظ على نفسه ومصالحه ورزقه وعائلته ويأخذ بالتهرب من كل مسؤولية ويقف كالمتفرج ويقول:"أنا شعليه"! الهروب من الواقع والخوف على المستقبل يدفعانه للبحث عن ملاذ آمن يستند إليه في اوقات الشدائد والمحن، بحيث يصبح انتماؤه وولاؤه لقوميته او عشيرته او طائفته او حزبه. ولذلك تضعف عنده روح المبادرة والمغامرة والرفض والتحدي، مثلما تقوى عنده النزعة الجنائزية الحزينة التي تظهر في الاغاني والتعازي وحلقات الذكر، باعتبارها آليات للتطهير الذاتي وحرب ضد الذات"المهانة". كما عمل التشوه الاجتماعي على تدهور انماط التفكير والسلوك الحضاري بحيث اصبح الفرد العراقي محبطاً كسيراً وخاضعاً من جهة، وانانياً وعدوانياً وعنيداً ومكابراً من جهة ثانية، وهي عملية ارتداد سايكولوجية على الذات، فالضحية تعيد انتاج قيم القهر والعنف من طريق التماهي بها. الفوضى وانعدام الامن والفساد الاداري والمالي والاقتصادي المستشرية اليوم في انحاء المجتمع والدولة، الى جانب العنف والارهاب الذي طاول الانسان والمجتمع والدولة، انما هي نتاج لهذه العوامل الذاتية والموضوعية التي مر ذكرها، وبخاصة ما قام به مرتزقة النظام السابق واعوانهم من الارهابيين الذين فقدوا سلطتهم ومصالحهم، مدفوعين بحقد اعمى وبأيديولوجية الكراهية والانتقام لاستعادة مواقعهم وسلطتهم على أشلاء المدنيين العزل ومحاولة إفشال العملية الديموقراطية الوليدة. وكذلك بسبب الاحتلال المرفوض وطبيعة السياسة الاميركية الهوجاء وتخبطها وما ارتكبوه من أخطاء كبيرة وفشلهم في اعادة انتاج البنى التحتية والأمن والإعمال وإعادة التوازن الى المجتمع. ومن جهة اخرى أثبتت التنظيمات والأحزاب السياسية، في الخارج والداخل، التي شاركت بصورة مباشرة او غير مباشرة مع قوات الاحتلال بإسقاط النظام المباد، عدم قدرتها، بل وفشلها في ممارسة العملية السياسية وقيادة البلاد الى بر الأمان. فبعد ثلاث سنوات من سقوط النظام المباد تفاقمت المحنة وازدادت الأزمة سوءاً، مثلما ازداد الخطاب السياسي عنفاً والاصطفاف الطائفي قوة والإرهاب الدموي قسوة وتطاحن الميليشيات السياسية على القوة والنفوذ. ان اعادة بناء البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية هي ليست معطى جاهزاً، وانما هي سيرورة اجتماعية وثقافية وسياسية طويلة المدى، ولا تنمو الا في فضاء من الحرية والاستقلالية والتعددية وممارسة الديموقراطية واحترام حقوق الانسان. واذا كانت الانتخابات التي أجريت بنجاح خطوة أولية في ممارسة الديموقراطية، فإن من الأولويات الضرورية إلحاقها بخطوات ديموقراطية اخرى مثل اطلاق الحريات الفردية، كحرية الفكر وحرية العقيدة وحرية المرأة وضمان حقوقها واحترامها، اضافة محاربة الطائفية والعشائرية والمناطقية ودمج الميليشيات بمؤسسات الدولة، التي اخلت بالقانون وقللت من هيبة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، اضافة الى معالجة الفساد المستشري والرشوة والمحسوبية والمنسوبية، التي ساعدت إلى جانب العنف والإرهاب، الى توسيع الخراب الذي حل بالعراق. هذه الخطوات ضرورية لإعادة الثقة الى الإنسان العراقي وتشكيل الهوية الوطنية الموحدة، وإعادة بناء الإنسان العراقي المكسور والنسيج الاجتماعي والقيمي والأخلاقي الممزق. * كاتب عراقي، باحث في علم الاجتماع