في مترو باريس الذي شهد زحمة استثنائية، تبادل الناس ابتسامات من النادر جداً ان تراها على وجه فرنسي عندما يقع عطل فني في وسائل النقل العام. لكنه ليس عطلاً هذه المرة... وإنما إضراب! وبعكس ما أعلن الرئيس نيكولا ساركوزي من ان"الإضراب في فرنسا يمّر من دون ان يلتفت اليه احد"، نزل إلى الشوارع أكثر من مليون فرنسي بحسب تقديرات وزارة الداخلية، ومليونين ونصف بحسب النقابات، بصوت واحد هتفوا"لن ندفع خسائر الأزمة الاقتصادية". شلت الحركة اليومية بتعطيل جزئي للنقل العام والحركة الجوية ومشاركة نحو 50 في المئة من موظفي القطاع العام بحسب الاتحاد العمالي العام واكثر من 195 تجمّعاً في مختلف مناطق فرنسا، نظّمتها ثماني أكبر نقابات عمالية. في محطة المترو وقف ثلاثة شبان بثياب عمال مصانع بألوان زاهية وراحوا يعزفون ألحاناً صاخبة وسط أنفاس الناس المتلاصقة مرددين كلمات تحّرض على العصيان المدني وتدعو الى"الثورة اللاعنفية عبر الموسيقى". وتختم كل أغنية بلازمة"كلنا الى ساحة الباستيل". نحو 300 ألف متظاهر لفّوا ساحة الباستيل رمز الثورة الفرنسية، مؤكدين مرة جديدة أن الحقوق الاجتماعية ومكاسب العمال لا مساومة عليها مثلها مثل الحريات الفردية والسياسية التي ناضل أجدادهم من أجلها من هذه الساحة نفسها. أعلام نقابية عمالية وطلابية وشعارات مطلبية للاحزاب اليسارية ملأت الساحة على ايقاع الموسيقى ووسط ألعاب بهلوانية. هنا امرأة في الخمسينات من عمرها ترقص بدماء شابة على موسيقى بوب مارلي، وهناك رجل مع أولاده يقرع الصحون بالملاعق وهو يصرخ"يجب ان نناضل معاً". الرقص والغناء وتوزيع المشروب وعبارات التهنئة"إضراب سعيد"، لم تمنع المشاركين من التعبير عن سخطهم وإيصال الرسالة:"المجتمع غاضب". موظفون في الادارات الرسمية، أساتذة وطلابهم، محامون، ممرضات وغيرهم وضعوا شريطاً لاصقاً على رؤوسهم يحمل تلك العبارة احتجاجاً على السياسات الاقتصادية والاجتماعية. المشاركون من خلفيات مختلفة، يوزعون بياناتهم بحسب قطاعاتهم مع أرضية مشتركة هي رفع الرواتب، رفع القدرة الشرائية، رفض الصرف التعسفي مع الاستثمار في قطاع التعليم، والاستشفاء والضمان الاجتماعي، رفض الخصخصة وعودة 30 ألف موظف تم صرفهم من القطاع العام. وإذا كان التظاهر سمة فرنسية بامتياز لكن أهمية هذا الاضراب بالتحديد تكمن في انه تمكّن من جمع مختلف الجمعيات الحقوقية ونقابات القطاعات العامة والخاصة والأحزاب اليسارية تحت مطلب عدم المسّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ودعم القطاع العام. حذف المشاركون الحرف الأول من كلمة greve أي إضراب ليصبح الشعار Reve general أو"حلم عام"، والصقوه على صدورهم المفعمة فرحاً وغضباً و"الوسيلة الوحيدة، هي التظاهر"كما كتب على أحد الجدران. وأعاد أحد المنظمين تذكير المشاركين بتاريخ بلادهم، وهو يصرخ عبر مكبّرات الصوت:"حقوقنا اكتسبناها في النضال... في الشارع!"، ثم يضيف:"سنناضل، نطالب، ونفرض على الحكومة احترامنا... وإلا فرنسا كلها الى الشارع". جمعت التظاهرات فرنسيين وأجانب شعروا بأنهم جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع وهذه الثقافة. رفع بعضهم"نعيش هنا، نعمل هنا... ونناضل هنا!"، بينما اكتفى آخرون بالتعبير عن التزامهم بهذه المطالب كمواطنين فرنسيين. واعتبر نبيل عبدو، طالب لبناني في جامعة باريس 9، أنه للمرة الاولى يشعر بأنه مواطن فرنسي يرفض الأمر الواقع ويتمنى ان يجتاح هذا"الحلم"لبنان ايضاً. تلامذة المدارس وبعضهم لا تتخطى أعمارهم 13، يصرخون:"نحن طلاب، متمسكون بمستقبلنا"، يوزعون البيانات، يتحدثون الى الاعلام عن تضامنهم الكلي مع أساتذتهم المهددين بفقدان وظائفهم وعن رفضهم"اصلاحات داركوس"، وزير التعليم،"التي تخفّض ساعات التعليم، وتصرف عدداً من الأساتذة، وتكرّس المنافسة بين الطلاب على حساب ديموقراطية النجاح وتمهّد لخصخصة المدارس الرسمية. هذه حال التلاميذ". أما الأساتذة فلبّوا الاضراب بنسبة 68 في المئة للاعدادي و60 في المئة للثانوي. حملوا لافتات كتّب عليها"الأساتذة غاضبون!"وردّدوا"المدرسة تناضل.. نعم للعصيان المدني". أساتذة التعليم الرسمي يدعمهم ليس فقط الطلاب، بل أيضاً الأهالي المتمسكون بمجانية التعليم ونوعيته لضمان مستقبل أولادهم. طلاب الجامعات كان لهم دور كبير ايضاً ضمن المشاركة الشبابية. بعضهم تمثّل في نقابته الطلابية والبعض الآخر شارك ضمن تنظيمه السياسي أو حتى في شكل فردي. أنجلينا روش من"تجمع الشباب الثوري"راحت توزّع بياناً كُتّب عليه"وحدة الطلاب - الاساتذة لإسقاط الحكومة". تقول أنجلينا بلهجةٍ لا تخلو من التصميم انها اليوم كشابة تشارك، تضامناً مع مطالب أساتذتها في شكل خاص والعمال في شكل عام، لكن ايضاً رفضاً لإصلاحات الحكومة التي تؤدي الى تراجع نوعية التعليم في الجامعات والمدارس. أما حبيب مواسي، طالب أدب انكليزي في جامعة باريس 7، فأكّد انه"جرت اجتماعات موسعة بين الطلاب والاساتذة لمناقشة أبعاد القوانين المتعلقة بالجامعات الرسمية". ثم استطرد بلهجته الفرنسية الضعيفة ان"التعليم الرسمي هو رأس مال الفقراء ويجب عدم خصخصته". نشر في العدد: 16747 ت.م: 09-02-2009 ص: 24 ط: الرياض