لم يعد هناك مجال للشك في أنّ النظرة إلى زيارة الطبيب النفسي، التي كانت شبهة صريحة بالجنون، تغيرت مع تغيّر النمط المعيشي التي صار ينحو شيئاً فشيئاً نحو الفردية والوحدة والانعزال. وقطر البلد الصغير الذي يجمع مواطنين أصليين مع مقيمين من مختلف الجنسيات صار بدوره يشهد انفراجاً في النظرة السلبية لكل مرتادي عيادات العلاج النفسي، بل وأكثر من هذا، صارت أرقام هواتف هؤلاء المعالجين محلّ تنافس بين من يقدم خدمات علاجية أفضل. فمن كان يتخيل أن تبلغ زيارات القسم النفسي في مؤسسة حمد الطبية هناك أكثر من 120 زيارة في اليوم غالبيتهم من الشباب؟ رغبة هؤلاء الشباب القطريين في التحسين من نمط حياتهم وطريقة عيشهم دفعتهم إلى ترك التعليقات الساخرة جانباً، واللحاق بطوابير الانتظار للحصول على موعد مع معالجيهم النفسانيين، على رغم قلقهم وخوفهم من أن يهدّد ذلك منصبهم في العمل إذا ما شاع خبرهم. ومن أكثر أسباب الزيارات بحسب الدكتورة سهيلة غلوم رئيسة قسم الطب النفسي تكون في الغالب للعلاج من حالات الاكتئاب والقلق، اضافة إلى حالات أخرى من النوبات الذهانية الحادة، وهي، بحسب غلوم حالات تبلغ أعدادها النسب العالمية، أي حوالى 20 في المئة. وهو أمر"منطقي نظراً للضغوط الحياتية وقلة التواصل مع الآخر وصعوبة الاحتكاك بين المجموعات". ومثلما مسّت تفاصيل الحياة وضغوطها المجتمع القطري في عمقه، تكشف الأرقام والاحصاءات أنّ عدد زيارات المقيمين الأجانب للعيادات العلاجية مرتفع هو الآخر بسبب الشعور بثقل الاغتراب والبعد من الوطن، وصعوبة التأقلم والتكيف مع تغير البيئة، والنمط، والمناخ وطبيعة العمل وما إلى ذلك من متغيرات تفرضها حالة من انتقل من بلد إلى آخر. وسجل القسم 350 حالة فصام فيما زاد عدد القلقين والمكتئبين عن 800 حالة. وتعود هذه الطفرة في الزيارات إلى سنوات قليلة سابقة، بخاصة أنّ الدوحة تشهد حالياً ازدياداً في عدد السكان مع رغبة أفواج كثيرة في الاستقرار فيها، ما دفع المهتمين بالأمر للمطالبة بإنشاء مستشفى مستقل خاص بالطب النفسي، على أن تتوافر فيه الشروط العالمية من حيث الخدمات والرعاية وطريقة البناء والحدائق وأماكن الفسحات. وثمة سعي رسمي وخاص في قطر إلى تطوير خدمة الرعاية النفسية في المنزل، من خلال الإشراف على حالة المريض والحرص على تقديم الأدوية في الوقت المحدد، وإضافة امتياز آخر يتمثل في تدريب الأهل وتعويدهم على إتقان التعامل مع المريض، وتشمل المعالجة البيتية فقط الحالات التي تجد صعوبة في مراجعة قسم الطب النفسي في المستشفى، وتكون حالتهم النفسية شبه مستقرة، الأمر الذي يجعل من العلاج في الجو الأسري دافعاً أكثر نحو الشفاء. مهنا 28 عاماً جلس ينتظر دوره في قسم العلاج النفسي، وقال إنه لم يكن يتخيل من قبل أنه سيزرو يوماً الطبيب النفسي، لكن ضغوط البيت والشغل مع توترات تحدث مع زوجته، جعلته يشعر أنه"يعيش آخر أيامه"بحسب قوله. وأضاف:"بعد نصيحة من صديق أجنبي لي، عملت على زيارة الطبيبة النفسية التي كان يزورها هو، وحين وصفت لي الطبيبة دواء هو عبارة عن حبوب، شككت في أن وضعي النفسي سيتحسن، لكن مع الوقت ومع جلسات العلاج بالموسيقى في فترات لاحقة وجدت نفسي أكثر هدوءاً ورغبة في التعايش مع تفاصيل حياتي". حالة مهنا قد تبدو يسيرة جداً مقارنة ببعض الحالات التي تزج نفسها في خانة الإدمان. ونظراً لرفاهية المجتمع القطري، فكثيراً ما يميل الشباب إلى سلوكيات ترتبط بنمط الحياة المترف كدخين حشيشة الكيف أو تعاطي المنشطات، وصولاً إلى إدمان الكحول وبنسبة أقل جداً المخدرات القوية كالهيرويين والكوكايين. وتمكن هؤلاء وبدعم من أسرهم من التغلب على إدمانهم عندما توجهوا إلى العلاج الذي ساعدهم على طي تلك الصفحة وجعلها ماضياً لا رجعة له. نشر في العدد: 16740 ت.م: 02-02-2009 ص: 32 ط: الرياض