أيا تكن التفسيرات التي حاولت التخفيف من وطأة تصريحات رئيس المكتب السياسي لحركة"حماس"خالد مشعل حول شروع حركته وحلفائها بإنشاء مرجعية وطنية تمثل فلسطينيي الداخل والخارج، فإن ذلك لا ينفي أن الحركة الإسلامية الفلسطينية التي استماتت لتكريس مقولة"النصر في غزة"، والتحول، تاليا، إلى"الرقم الصعب"في معادلة الصراع و"التهدئة"وربما"الهدنة الطويلة الأمد"في ما بعد، واكتساب اعتراف إسرائيلي وعربي ودولي بشرعية حاكميتها على قطاع غزة، قررت فتح ملف التمثيل على مصراعيه، وتحويل جهدها الرئيسي، وتحت ذات التوصيف الذي تحول إلى إيقونة مقدسة تخص"حماس"ومن يقف معها دون غيرهم من الفلسطينيين والعرب من"قوى المقاومة"، إلى الداخل الفلسطيني الذي عليه، وفق هذا الطرح الحمساوي، الاستعداد لمرحلة جديدة لا مكان فيها للتعددية الأيديولوجية والبرامج السياسية المختلفة التي طالما انتظمت في إطار منظمة التحرير الفلسطينية كتعبير ليس فقط عن التنوع الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي والطبقي، وإنما كذلك عن التوزع والتشتت الجغرافي الذي فرض على الشعب الفلسطيني منذ النكبة الكبرى عام 1948 وحتى اليوم. وفق المرئي، لم تجد قيادة"حماس"حرجا في محاولة استثمار تأييد ودعم بعض القوى الإقليمية، وتعاطف معظم الشارع العربي مع"مأساة غزة"، والتقاط اللحظة التاريخية التي يوفرها انقسام الموقف العربي لحصد نتائج العدوان على غزة ووضعه في حسابها الخاص عبر الاندفاع نحو محاولة سحب البساط من تحت أقدام منظمة التحرير المتهمة من قبل الحركة الإسلامية بعلمانيتها، أولا وقبل أي حديث عن"المساومة والتفريط"، والدفع باتجاه تشكيل مرجعية أخرى"ذات طابع إسلامي". أما حيثيات ذلك فيزعم خطاب الحركة ومناصروها أنها تشتمل على جملة عناوين وعناصر، من بينها أن"الانتصار في غزة"أسس لمرحلة جديدة تفترض ولادة حركة تحرر جذرية بقيادة"حماس"، وبروز قيادة ثورية تؤمن بإستراتيجية المقاومة، وترفض المساومة وتقديم التنازلات، وترسيخ قطاع غزة كقاعدة"محررة"تحت سلطة المقاومة التي يجب أن تصبح هي القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني، بعد أن انتزعت شرعيتها بالجهاد والمقاومة، والانتصار على الاحتلال، رغم الخلل الكبير في توازن القوى، وعدم التكافؤ. غير أن هذا الخطاب الإنشائي الفضفاض الذي يرى الأمور من زاوية حادة جدا، ويحل الرغبة محل الوقائع التي تدب على الأرض، أقله في ما يتعلق بشروط وحيثيات المقايضة حول التهدئة والأسرى والحوار الوطني المفترض أن يقلع استجابة لاستحقاقات فتح المعابر وإعادة الإعمار وبقية المسائل المتشابكة التي طفت على السطح بقوة بعد العدوان الإسرائيلي على غزة، بات يصطدم بصخور الواقع الصلدة التي تفيد بأن ما يمكن انتزاعه بخصوص التهدئة والمعابر، وربما عملية تبادل الأسرى، لن يفيض قطرة واحدة عن الوضع الذي كان سائدا في المرحلة السابقة، لا بل أقل بكثير من نظيره قبل سيطرة"حماس"على قطاع غزة أواسط العام 2007. والأمر ذاته ينطبق على مسألة الحوار الوطني ومحاولات وضع حد للانقسام الفلسطيني، إذ يبدو أن"حماس"لم تجد بدا من الاستجابة لمطلب الحوار الذي تصر عليه الأغلبية الشعبية الفلسطينية والدول العربية، والقبول بالورقة المصرية الخاصة بالحوار وآلياته، والتي حملت تبديلا في ترتيب الأولويات جوهره رمي الكرة في الملعب الفلسطيني، على عكس ما كان في حوار تشرين الثاني نوفمبر الماضي، عبر البدء بمناقشة تأليف اللجان الخمس التي اتفق عليها سابقا وتحديد طبيعة مهمتها، ومن ثم اجتماع هذه اللجان في القاهرة للوصول إلى وثيقة اتفاق وطني لإنهاء الانقسام. أما بخصوص قضية إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلت أحد عناوين إعلان القاهرة 2005، فقد أعطتها الورقة المصرية أولوية في الحوار. وخصّتها القاهرة باقتراح مفاده مشاركة كافة التنظيمات في اللجنة الخاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية، بينما تشارك كل من حركتي فتح وحماس وخمسة فصائل يجري التوافق عليها في اللجان الأخرى الحكومة، الأجهزة الأمنية، الانتخابات، ولجنة المصالحة الداخلية، دون تخلي القاهرة المبادىء الأساسية التي تضمنتها الورقة المصرية: تأليف حكومة توافق وطني محددة المهام والمدة ولا تسمح بعودة الحصار، إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة طبقا لقانون الانتخاب الفلسطيني، إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على أسس مهنية ووطنية، تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية طبقاً لاتفاق القاهرة آذار/ مارس 2005 ووثيقة الوفاق الوطني أيار/ مايو 2006. ومع ذلك، لا يعني ما سبق أن الطريق باتت ممهدة أمام إنهاء الانقسام الفلسطيني الذي يشكل شرطا ضروريا وحيويا لمقاومة الرياح العاتية المهددة للحقوق الوطنية والحد من الخسائر الباهظة التي تلوح ملامحها في الأفق، ولا سيما بعد عربدة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي حملت عتاة اليمين الصهيوني إلى مقاعد الكنيست، وتهدد ببلورة حكومة شلل سياسي في تل أبيب، أو ائتلاف يميني صاف متحلل من كافة الأسس والمرتكزات النظرية التي توكأ عليها حديث التسوية والمفاوضات خلال المراحل السابقة. إذ لا يمكن استبعاد إمكانية التشدد في قضية الحوار والمصالحة الفلسطينية، انطلاقا من الوهم بأن فوز اليمين الصهيوني في الانتخابات الإسرائيلية أثبت صحة الشعارات التي طرحتها"حماس"، وأن لا خيار أمام الفلسطينيين سوى المقاومة المسلحة التي تقودها الحركة الإسلامية، وبالتالي لا بد من مواصلة السعي لبلورة"مرجعية فلسطينية جذرية"تواجه إسرائيل التي"لا تفهم سوى لغة القوة"، دون إمعان النظر في حقيقة أن استمرار الانقسام السياسي والجغرافي الفسطيني الذي يضخ الانقسام العربي في عروقه دماء جديدة، وبصرف النظر عن الشعارات والذرائع والحجج الجاهزة، يوفر فرصة تاريخية لتصفية القضية الفلسطينية وتهشيم ركائزها عبر البحث عن حلول موضعية مختلفة للفلسطينيين باعتبارهم تجمعات سكانية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق اللجوء والشتات، فضلا عن ترجيح توجه الأضواء نحو جبهة الملف النووي الإيراني الذي يتوقع أن يوضع على نار إسرائيلية حامية في المرحلة المقبلة. في ظل هذا المشهد المعقد والضبابي الذي يترك معظم الخيارات مفتوحة، لا بد من التشديد على أنه، وتحت وطأة انهيار عملية التسوية ومضي إسرائيل نحو التحول إلى"دولة أبارتايد"بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، من العبث المضي في الجدل والصراع حول الخلاف العقائدي العميق، لا على صورة فلسطين، بل على هويتها، ووجودها كوطن يخص الشعب الفلسطيني، وعلى المرجعية الوطنية ووسائل الكفاح والمقاومة. وكلها أمور ينبغي أن تشكل مادة الحوار الوطني المنشود الذي ربما يكون، هذه المرة، الفرصة الأخيرة لترميم البيت الفلسطيني، وإعادة تفعيل منظمة التحرير ذات الطابع الوطني، وحماية مصالح الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الخارج. * كاتب فلسطيني.