الجولة الأخيرة من الحوار الوطني الفلسطيني التي أجريت في صنعاء قبل شهرين تقريباً يجب النظر اليها في السياق التاريخي والطويل لحوار عمره من عمر الثورة الفلسطينية المعاصرة أي انه تجاوز عامه الثالث والأربعين. طوال مسيرة الثورة الفلسطينية كان الحوار مرآة للمحطات أو للتحديات الصعبة والمصيرية التي واجهتها القضية. وفي البدايات تمركز الحوار حول استيعاب النكبة والرد عليها بمستوياتها المختلفة، التاريخية والايديولوجية والسياسية والأمنية والتنظيمية وفي النصف الثاني من الستينات، تمركز الحوار حول الإطار التنظيمي الذي يجب أن يخوض من خلاله الشعب الفلسطيني الكفاح وحول السبل أو الوسائل الملائمة للكفاح، بما يكفل تحقيق الآمال الوطنية للشعب الفلسطيني والمتمثلة بالتحرير والعودة وتقرير المصير. في السبعينات من القرن الماضي تركز الحوار حول البرنامج المرحلي وانخراط منظمة التحرير في العمل السياسي والديبلوماسي والاشتباك التفاوضي أو الكفاح بكل السبل من أجل نيل الحقوق الوطنية. في الثمانينات بعد صدمة الخروج من بيروت وتشتت منظمة التحرير سياسياً وجغرافياً والانقسامات التي ضربت حركة"فتح"والمنظمة عموماً، بدا التيه مهيمناً على الحوار الوطني حتى اندلعت انتفاضة الحجارة التي شكلت عاملاً مهماً في إعادة توحيد المنظمة وتجاوز الانقسامات داخل"فتح"وخارجها، والعمل على الاستفادة من الانتفاضة كرافعة لتحسين الموقع التفاوضي والديبلوماسي والسياسي للممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. في التسعينات وطوال حقبة أوسلو، كان التشظي والانقسام الوطني عميقاً جداً حول"اتفاق أوسلو"ومدى قدرته على استرجاع الحقوق، وكذلك حول دور ومهمات السلطة الفلسطينية وعلاقتها بمنظمة التحرير والشتات الفلسطيني. وعلى رغم ظهور حركتي"حماس"وپ"الجهاد"بقوة على ساحة الفعل الفلسطيني السياسي والميداني، فإن الحوار كان شبه مجمد. وبدلاً من شعار لا صوت يعلو فوق صوت البندقية، هيمن شعار لا صوت يعلو فوق صوت المفاوضات وعملية التسوية. وعلى رغم انهيار هذه العملية واندلاع انتفاضة الأقصى، فإن ذلك لم يكن كافياً أيضاً للشروع في حوار وطني فلسطيني جدي لتقييم المراحل السابقة واستخلاص العبر ووضع الخطوط العريضة والسياسات التي يجب اتباعها لمواجهة التحديات المقبلة. وربما شكّل وجود الرئيس ياسر عرفات آنذاك حائلاً دون تحقيق هذا الأمر على اساس انه شخصياً يمثل الضمانة وصمام الأمان للمشروع الوطني ومركز ثقل ونقطة جذب الساحة السياسية والحزبية عموماً. الحوار الوطني المعاصر لم يبدأ في شكل جدي وعملي حقيقي إلا بعد غياب أو استشهاد الرئيس ياسر عرفات. وفي هذا السياق، يمكن تقسيم الحوار الى مرحلتين: الأولى تمتد من نهاية 2004 الى بداية 2006، والتي شهدت توقيع اتفاق القاهرة في آذار مارس 2005، والمرحلة الثانية الممتدة من مطلع 2006 الى الربع الأول من 2007 والتي شهدت توقيع وثيقة الوفاق الوطني اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الاولى والأخيرة في مسيرة السلطة الفلسطينية. مرحلة الحوار الأولى استهدفت سد الفراغ الذي تركه الزعيم القائد والمؤسس والرمز للثورة المعاصرة. كما أنها عبّرت عن التقاء رغبات الطرفين الأساسيين في الحوار، ولكن من منطلقات أو حيثيات متباينة فمنظمة"فتح"والرئيس أبو مازن هدفا الى الحصول على الشرعية الشعبية والديموقراطية على المستويين الشخصي والسياسي، وتحديداً في ما يتعلق بالخيارات التفاوضية وعملية التسوية مع اسرائيل. أما"حماس"فسعت الى الحصول على شرعية شعبية وديموقراطية لخيار المقاومة وللشراكة في القرار على اساس ان لا طرف يمتلك الدعم أو النفوذ أو الثقل للاستفراد في تحديد المصير الفلسطيني الوطني. وتلاقي الرغبات ? على رغم اختلاف الدوافع - أنتج توقيع"اتفاق القاهرة"الآنف الذكر. فالتزم الجميع التهدئة حتى نهاية عام 2005، حتى جاء فوز"حماس"المفاجئ وغير المتوقع والساحق في الانتخابات التشريعية مطلع 2006، ليلخبط ويبعثر الكثير من الأوراق. فالرئيس أبو مازن، بدعم من إدارة بوش، بحث في دمج"حماس"في النظام السياسي الفلسطيني واستغلال الانتخابات للمضي قدماً في التسوية مع اسرائيل."حماس"ذاتها فوجئت ولم تكن تبحث سوى عن تشكيل كتلة قوية مانعة في المجلس التشريعي، والساحة السياسية، تمنع التفرد والاستئثار وتوقيع أي اتفاق مع اسرائيل يتناقض مع المصلحة او الحقوق الفلسطينية. مفاجأة الانتخابات وتداعياتها الكبيرة محلياً وإقليمياً، دفعت باتجاه جولات جدية أخرى من الحوار الفلسطيني ? الفلسطيني، خصوصاً بعد الحصار الخانق الذي فرض على السلطة وحكومة هنية الاولى والشعب الفلسطيني عموماً. فولدت وثيقة الوفاق الوطني، منتصف حزيران يونيو 2006، والتي لم تأخذ حقها وفرصتها الكاملة بعد أسر جلعاد شاليت وحرب لبنان في تموز يوليو 2006. لكن الموجات المتلاحقة من الاقتتال الداخلي لاحقاً، دفعت الدول العربية مصر والسعودية الى بذل جهود كبيرة لدفع الحوار الى الامام. فنتج عن ذلك"اتفاق مكة"وحكومة الوحدة الوطنية على أساس وثيقة الوفاق الوطني. لكن التدخلات الأميركية والاسرائيلية الفظة والعنيفة والتعاطي الفلسطيني القصير النفس والنظر... أوصلت الى احداث حزيران 2007، والتي أدت الى انهيار حكومة الوحدة وسيطرة"حماس"على غزة وإطلاق رصاصة الرحمة على المسيرة أو الرحلة الثانية من الحوار الفلسطيني الجاد والبناء. أضحى الحوار الوطني بعيداً وشبه مستحيل، في ظل الشروط والاهداف المتضاربة. فالرئيس محمود عباس اصدر سلسلة من المراسيم أدت الى انقلاب سياسي، في مواجهة الانقلاب العسكري والسياسي لپ"حماس"في غزة. أبو مازن بات مصراً على إنهاء مفاعيل الانقلاب وإجراء انتخابات رئاسية تشريعية مبكرة وفق النظام النسبي الكامل، على ان يمارس الطرف الفائز خياراته وقناعاته السياسية بحرية تامة. وأصرّت"حماس"على حوار غير مشروط، وصمدت مع سلسلة من الخطوات التي كرست سيطرتها وتحكمها بمقاليد الأمور في غزة من الناحيتين القانونية والإدارية. وتعمقت الهوة أكثر بعد لقاء أنابوليس الذي مدد عمر المفاوضات حتى أواخر 2008، كتاريخ مستهدف للتوصل الى اتفاق نهائي للصراع وبلورة حلول القضايا الشائكة والحساسة والمصيرية مثل القدس والحدود واللاجئين. مرحلة أنابوليس شهدت ايضاً ارتفاع وتيرة التباعد والانفصام على الساحة الفلسطينية: جلسة للمجلس المركزي في رام الله، ولجنة تحضيرية لانتخاب مجلس وطني جديد يستبعد ان يدفع باتجاه استبعاد كل المعارضين. أما"حماس"وحلفاؤها فعقدوا مؤتمراً وطنياً في دمشق زاد من حدة الاستقطاب وعمق الهوة والتباين بين الطرفين المتباعدين. وشهدت"مرحلة أنابوليس"حدثين مهمين: اجتياح الحدود المصرية مع قطاع غزة، وكسر الحصار المفروض على"حماس"وحكومتها، اضافة الى محرقة غزة التي كرَّست استحالة الحل العسكري لإسقاط"حماس"أو حتى إضعافها. الحدثان رفعا من شعبية"حماس"في الضفة وغزة، كما أشار استطلاع الدكتور خليل الشقاقي الأخير منتصف نيسان أبريل الماضي، وزاد إحراج الرئيس عباس، خصوصاً بعد تعثر المفاوضات واستمرار الاستيطان واستمرار التضييق الإسرائيلي على حرية الحركة للمواطنين والبضائع في الضفة الغربية. أمام تداعيات هذين المعطيين، وضعت نواة المرحلة المقبلة من الحوار الوطني الفلسطيني. لكن الأمر ما زال أسير التباعد... والخصام وأمام الموقف الإسرائيلي المصر على وقف المفاوضات في حال عودة الحوار الجاد - وحكومة الوحدة - بين"حماس"وپ"فتح"، لا يملك سوى خيار مواصلة المفاوضات على رغم الاستيطان والتعنت الاسرائيلي، أملاً بالتوصل الى اتفاق مع اسرائيل يذهب به الى انتخابات مبكرة ورئاسية وتشريعية، خصوصاً ان ولايته الرئاسية ستنتهي أواخر 2008. وحتى ذلك الوقت، فلا شيء يدفع الرئيس الى الحوار مع"حماس"او تقديم تنازلات لها، والتركيز في المقابل على بعض الملفات المرحلية والتكتيكية، مثل التهدئة والمعابر. أما"حماس"فتعتقد بأنها كرست سيطرتها على غزة وهي ليست في مأزق، خصوصاً بعد اجتياح الحدود وفشل المحرقة الأخيرة. هي مستعدة للحوار من دون شروط، كما تقبل مبدئياً بطلبات الرئيس عباس إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بعد رفع الحصار والتهدئة وعودة الأمور الى ما كانت عليه قبل حزيران يونيو 2006. وعليه، فإن الحوار الوطني الجاد، او المرحلة الثالثة منه، تنتظر جلاء غبار المفاوضات والتسوية وجلاء غبار المساعي المصرية من اجل الهدنة او التهدئة المفتوحة وربما كذلك جلاء غبار التدافعات والتجاذبات الاقليمية. باختصار، لن يكون هناك حوار جاد قبل بداية العام المقبل. * كاتب فلسطيني - مدير مركز الشرق الأوسط للدراسات والإعلام