سيكون من الخطأ الاستخفاف بأهمية الحيثيات الفلسطينية الداخلية والإقليمية والدولية المستجدة التي وفرت فرصة لإطلاق حوار فلسطيني بين طرفي المعادلة الصعبة:"فتح"والسلطة من جهة، و"حماس"من جهة ثانية، هدفه تحقيق مصالحة وطنية تنهي حالة الانقسام والتشظي التي مكَنت إسرائيل من الاستفراد"تفاوضيا"بسلطة رام الله وفق شروط الدولة العبرية ورؤاها، وتشديد الحصار والضغط العسكري على قطاع غزة وسلطة الأمر الواقع هناك، إذ لا يمكن تجاهل حقيقة أن رئيس السلطة الفلسطينية الذي راهن على وعد الرئيس الأميركي جورج بوش بإنجاز تسوية فلسطينية- إسرائيلية نهاية العام الجاري، أصيب بخيبة أمل كبيرة من الموقف الأميركي الذي لم يكتف بالتنصل من التزاماته حيال الدولة الفلسطينية، وبقية القضايا المتعلقة بالتسوية الدائمة، وإنما عكس اتجاه سيره وبات يمارس الضغط على الجانب الفلسطيني لتقديم مزيد من التنازلات تحت ذريعة ضرورة مساعدة رئيس الوزراء ايهود أولمرت على مواجهة الأزمة التي يتعرض لها بعد اتهامه بالفساد المالي، كما لا يمكن إشاحة النظر عن الضغط الذي مارسته الكوادر الفتحاوية على عباس للبدء بمصالحة وطنية تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، وكذلك انعكاس التطور الإقليمي المتعلق بإنجاز الأفرقاء اللبنانيين اتفاقا الدوحة يفترض أن يضعهم على سكة الوفاق الوطني، على الأوضاع الفلسطينية الرخوة، مستفيدا من الغياب الجزئي للفعالية الأميركية الناجم عن المأزق المستحكم في العراق، والذي فرمل، على أرض الواقع، مشروع إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، ومهَد، وفق رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية ريتشارد هاس، لنهاية عهد القطبية الأحادية ودخول ما يسمى"اللاقطبية العالمية"التي تقيد حرية حركة الولاياتالمتحدة وتمنح القوى الإقليمية قدرة على الاستقلال الجزئي، وكذلك عن دخول الإدارة الأميركية في حال الشلل المعتادة خلال كل سنة انتخابية رئاسية. ما يلمس من التصريحات والتحركات التي أعقبت دعوة عباس يوم 4 حزيران يونيو الفائت لإجراء حوار وطني شامل، بهدف تحقيق المصالحة الوطنية، وإنهاء حالة الانقسام، والعودة إلى الوحدة الوطنية، وترحيب حركة"حماس"على لسان رئيس الحكومة المقالة في غزة اسماعيل هنية، بهذه الدعوة التي جاءت خالية من الاشتراطات المعروفة، هو أن الطرفين المتصارعين في الساحة الفلسطينية لم يصلا بعد، وعلى رغم الغطاء العربي والدولي المتوفر لإنجاز هذا الاستحقاق الملح، إلى المربع المعقََم الخالي من فيروسات العرقلة التي سبق وأن فتكت باتفاق القاهرة ووثيقة الوفاق الوطني واتفاق مكة واتفاق صنعاء، والتي يكرر الجانبان أن الحوار العتيد ينبغي أن يكون على أساسها. ويفيد التدقيق في المواقف المختلفة، أن أوساط الرئيس الفلسطيني التي لا تمل ترداد الجمل الإنشائية حول توفر النوايا الطيبة، والحاجة الملحة لإنهاء القطيعة ولم شمل جناحي الوطن، ما زالت تربط بدء الحوار الجدي والفعلي باتخاذ"حماس"خطوات فعلية للتراجع عن"انقلابها"في قطاع غزة، واعتبار أن مبادرة عباس هدفها"توفير سلّم ل"حماس"كي تتراجع عن الانقلاب، وتحفيز العرب على لعب دور في تطبيق المبادرة اليمنية التي تبنتها قمة دمشق"، وهي ليست استثاء في تصريحات ومواقف الرئيس المتكررة التي تصب باتجاه المصالحة ورص الصفوف لتدعيم الموقف الفلسطيني، سواء على صعيد التفاوض او المقاومة. أما في الجهة المقابلة، فالمرئي هو أن أوساط"حماس"التي أبدع قادتها في اجتراح العبارات المرنة، وتباروا في وصف محاسن الوحدة الوطنية المأمولة، تعتقد أن رئيس السلطة لم يدع الى الحوار الا بعد ان فشل في اقصاء الحركة حماس، وذاق الأمرَين من الإسرائيليين والأميركيين الذين لم يقدموا له سوى الخيبات المتكررة. وهو، في دعوته المرحب بها هذه، يريد توظيف ورقة الحوار مع حماس للضغط على واشنطن وتل ابيب لدفعهما إلى اتفاق سياسي خلال الأشهر المتبقية من ولاية الرئيس بوش، وربما تخفي وراءها محاولة للتنصل من المسؤولية السياسية عن الآثار التي ستترتب عقب أي اجتياح إسرائيلي واسع لقطاع غزة، أو التغطية على مواصلة جولات التفاوض العبثية مع الإسرائيليين، ولا سيما بعد إعلان رئيس طاقم المفاوضات الفلسطيني، أحمد قريع، أنه تم البدء بصياغة بعض بنود الاتفاق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وعرض الولاياتالمتحدة على إسرائيل والسلطة الفلسطينية إجراء لقاء ثلاثي، بهدف تسريع وتيرة المفاوضات على قضايا الحل الدائم، وجسر الفجوة الكبيرة بين مواقف الطرفين في هذه المرحلة. ويرى هؤلاء في حصول وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس على تأكيد من عباس بأنه لن يتخلى عن أي من الشروط المسبقة للحوار مع حركة"حماس"، وفق تصريح المتحدث باسم الخارجية الأميركية، دليل على العقبات الكبيرة التي تعترض مسيرة الحوار المأمول. تحت ظلال هذه الصورة الواقعية التي تبدو نافرة بعض الشيء في معرض التفاؤل الفلسطيني والعربي، تنتصب مطالب الفلسطينيين الذين يأملون من الحوار الفلسطيني الداخلي المتوقع انطلاقه جديا في منتصف تموز يوليو، بعد جولة داكار الاستكشافية بين ممثلي"فتح"و"حماس"، أن يشمل كافة القوى والفصائل الوطنية والإسلامية ومؤسسات المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والاجتماعية للخروج من نفق المحاصصة الفصائلية، وأن يبدأ وفقا لأجندة تستند بالأساس إلى اتفاق القاهرة 2005، ووثيقة الوفاق الوطني، كونهما محل إجماع وطني شبه شامل، ويكون تحت رعاية عربية متوافق عليها توفر متراسا لمقاومة وصد الضغوط الأميركية والإسرائيلية المتوقعة. هل يمكن تحقيق ذلك؟ وهل الاتفاق على هذه المبادىء والأسس يكفي للوصول إلى نتائج إيجابية تتيح العودة إلى سفينة الوحدة الوطنية، والاتفاق على شكل ومضمون الحاضنة السياسية والتمثيلية للشعب الفلسطيني منظمة التحرير وعلى مشروعها وبرنامجها السياسي، وكذلك على إعادة إنتاج السلطة الوطنية بطريقة ديموقراطية عبر انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة؟ ثم، هل بإمكان القوى الرئيسية المتحاورة فتح وحماس إنجاز هذه المهام، في الوقت الذي تعاني أولاهما حالة من الإرباك السياسي والتشظي التنظيمي، وينقسم أعضاؤها إلى محاور وكتل وتيارات متباينة الرؤى والأهداف والمصالح، فيما تنوس الأخرى بين أنماط من"البراغماتية السياسية"التجريبية المؤذية تحت وطأة استمرار الحصار وانحسار الخيارات، بدليل المضي في ملهاة التفاوض حول التهدئة، فيما سيف الاجتياح العسكري الإسرائيلي يهوي على رقبة أهل غزة، وبين رفع منسوب الشعاراتية المتخمة بالنبوءات والوعود الغيبية؟ وأخيرا، ما الذي يمنع إسرائيل من قلب طاولة الحوار على أصحابها عن طريق تنفيذ عملية عسكرية كبيرة في غزة بعد أن أجمع أولمرت وباراك وبن اليعيزر على اقتراب موعدها، أو تنفيذ التهديد بهدم 3000 مبنى فلسطيني في الضفة بحجة عدم الترخيص؟ ربما يشعر البعض بالاستياء حيال هذه الأسئلة وتوقيتها، ولكن ما يفرض طرحها والتشديد عليها هو تلك الخبرة التاريخية التي تفيد بأن أحد أهم الأسباب الذاتية لفشل المسيرة الفلسطينية، ورغم تجربة منظمة التحرير التي تعرضت، وما زالت،للتهميش والتهشيم، يكمن في عدم قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية على خلق إطار مؤسساتي، سياسي واجتماعي، يشكل البنية التحتية اللازمة لتجنيد المصادر البشرية والاقتصادية وزجها في معركة النضال الوطني، ما جعل الخلافات الداخلية حول الرؤى والبرامج ووسائل الكفاح تنحو، تحت ظلال الأوضاع الإقليمية والدولية الصعبة، باتجاه الاحتراب الداخلي. ولعلنا اليوم نعاني من هذه المشكلة بشكل مركَب بعد تهتك الإطار الجامع المسمى منطمة التحرير نتيجة استخدامه، بشكل فئوي، من قبل القوى المتنفذة طوال العقود الماضية، وبعد انقلاب"حماس"التي تعتبر نفسها الوريث الشرعي للحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، ما يضع مصير الفلسطينيين في كنف المجهول، حتى وأن استطاعت"فتح"و"حماس"توقيع وثيقة تفيد بأنهما استطاعتا تسوية الخلافات بينهما وفتح صفحة جديدة في التاريخ الفلسطيني. * كاتب فلسطيني