هناك مفاهيم حديثة كثيرة ارتبط معناها ضمن سياق خام في وعي الناس. وأصبح الالتباس في دلالة معناها لا يأخذ صورته فقط من تداولها على ألسنة الناس، بل ربما كانت طبيعة المعنى وبعده أو قربه من المفهوم لا تظهر بصورة واضحة إلا في سياق الجدل الذي يدور في كتابات النخب العربية ونزاعاتها الفكرية والسياسية وسجالاتها الذكورية والحربجية حول الكثير من تلك المفاهيم التي ظهرت مع تحولات المجتمعات العربية في العصر الحديث إبان المد الاستعماري. والحال أن مفهوم الوطنية ودلالة معناه يقعان دائماً في ذلك الحيز الملتبس والمعبر باستمرار عن أن حال الجدل البائس في سجالات النخب العربية إنما هو بمثابة إعادة تعريف سلبي مستمر لذلك المفهوم. سنجد هنا أن طريقة السجال وفضاء النزاع في قضية ما لبعض الناشطين في أي بلد عربي لا تخلو من تلك العلامات التي تغيب ضمن إطارها القيمة المعيارية لمفهوم الوطنية، وبطريقة تحيلنا في العمق إلى ذهنية نسقية مضمرة في طبيعة تلك السجالات. فالكثير من قضايا الخلاف في الشأن الفكري والسياسي يتم الحديث عنها ضمن رؤية أوتوقراطية أحادية، وبطريقة مانوية لا مكان فيها للنسبية والتعدد واحتمالات الظن التي تمليها طبيعة تلك القضايا وما يكتنفها من تركيب وتعقيد. هذا الأسلوب في تناول القضايا الشائكة، لا شك في أنه ينبع من طريقة التفكير التي يحكمها سقف التخلف في العالم العربي، وبالتالي فإن إمكان السجال المعرفي والبعيد من مفاهيم التخوين والتكفير سيكون آخر وسيلة للتداول والحوار حول تلك القضايا. وهنا بالتحديد سيبدو لنا كم هو بعيد مفهوم الوطنية الحقة، وكم هو ملتبس عبر ذلك التداول بطريقة مطلقة ومجردة، لا مكان فيها لتمثلات الإجماع الوطني وما يعنيه مثلاً في سجالات القضايا العامة. والحقيقة أن هذا الالتباس يعود إلى غياب الدلالة الفلسفية للمفهوم ونشأته منذ قيام الدولة القومية في أوروبا كنقيض وبديل لفكرة الإجماع المركزي التي كان محورها الدين منذ العصور الوسطى. لقد تم تحويل مفهوم الوطنية إلى فكرة دنيوية متعالية حلت محل الدين في الفضاء العام لحياة الشعوب الأوروبية، مع التحولات المتراكمة لمسيرة الحداثة السياسية والفكرية على مدى قرون إلى أن استوى ذلك المفهوم بمعناه الإيجابي في أوروبا كما نراه اليوم. والحال أن التأمل في سطح السجالات العربية البائسة والتي يتردد فيها هذا المفهوم بمناسبة ومن دون مناسبة، يعكس فقراً وجهلاً بهذا المفهوم يدل بذاته على ضرورة الانتباه إلى الكثير من مفردات حياتنا السياسية في الواقع. ذلك أن الاسترسال في تجويف تلك المفاهيم لا يعني بالضرورة إمكان وعيها بتلك الطريقة الفجة في وقت لاحق، بل سيؤدي في النهاية إلى تفريغ ذلك المفهوم تماماً حتى من محمولاته الرمزية الظاهرة. وإذا كانت مجتمعاتنا الذكورية في العادة تعكس مفاهيمها للوطنية والقومية في حالات الشدة والحروب لتتغنى بها على رغم التجويف الذي ضرب تلك المفاهيم، فإن طبيعة تلك الاستجابة إلى التغني بالمفهوم في سياق تلك الحالات الحربجية هي أيضاً صورة من صور الجهل بمعانيه الحقة. إذ يبدو الأمر كما لو كان إعلان الولاء الوطني جزءاً من شروط العيش في حالة من الاحتقان، وبصورة لا يبدو معها ذلك المعنى بادياً في الحياة الطبيعية من ناحية، وفي السجالات التي تدور حول المفاهيم الفكرية والسياسية من ناحية ثانية. هكذا نجد مثلاً مفارقات غريبة لدى البعض في استخدام معنى الوطنية بطريقة تجعل من التعبير عنها يحتمل نقائضها ويتجاور معها أيضاً، ويمكن المرء أن يتابع أي سجال سياسي أو فكري أو حتى حوار في الساحة الإعلامية ليعرف إلى أي مدى تم تجويف هذه المفاهيم. في حوار صحافي للدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية السوداني ووزير الخارجية السوداني الأسبق، نجد مثالاً لمثل هذه التعبيرات الهوائية في النظر إلى مفهوم الوطنية وتجاوره مع مفهوم الخيانة الوطنية في وقت واحد. فقد وصف المستشار في ذلك الحوار، مؤتمر أحزاب المعارضة السودانية مع الحركة الشعبية المنعقد في جوبا في أيلول سبتمبر الماضي، والقرارات التي صدرت عنه بأنه"موقف يرقى لمرحلة الخيانة في الحفاظ على الوحدة"، أي أن هذا الاجتماع لقوى المعارضة مع طرف شريك أساسي في حكومة الوحدة الوطنية، مع حزب المستشار هو بحسب وجهة نظره"خيانة وطنية"! ثم يقول في الحوار نفسه:"أؤكد أن تعاملنا مع نتائج مؤتمر جوبا، هو تعامل يعتمد على دراسة تقدم مصلحة الوطن"! وهكذا يتجلى ذلك الوعي الفقير بمفهوم الوطنية في متن السجالات السياسوية ويتم تمريره من دون أي حرج أو حتى التفات إلى التناقض في قول الشيء وضده. وضمن هذه الرؤى الملتبسة لا يرقى الخلاف السياسي إلى سوية وطنية ظاهرة وقابلة للثبات والتمظهر في الأداء السياسي ضمن سقف صلب لوطنية ملموسة ومنضبطة عبر توافقات وسلوكات بديهية، فهي إذ تتعرى من مضمونها يتذرر معناها النقيض منعكساً في أقنعة متعددة من الطائفية والقبلية والعصبيات الصغيرة المنعكسة بدورها في الأداء الحزبي بالميكانزمات الأوتوقراطية نفسها وما قبل الحداثية في آن. وهذا الفهم الملتبس والنقيض لمعنى الوطنية إذ يعكس معناه ذلك حتى في مواقف هي في العادة تتضمن معنى الخيانة الوطنية في صورة من صورها، إلا أنه يلعب ما يشبه التأويل المضلل لجهة الاصطفاف وراء إحدى العصبيات الطائفية أو القبلية بصفتها حالة من حالات الولاء الوطني كما يجرى تعريفها في الكثير من المواقف الحزبية التي تمرر مواقفها عبر ذلك الإدعاء. وهكذا يبدو أن ليس مجرد غياب تلك الألعاب البهلوانية بالمواقف الوطنية في أوساط النخب الفكرية والسياسية في أوروبا هو ما يستوي دليلاً على الفرق في المعنى المنضبط والمؤسس لمفهوم الوطنية، في واقعنا فحسب، بل وأيضاً في تلك"الهويات القاتلة"التي تنفجر يوماً بعد يوم، في الأصولية والطائفية والقبلية وتتزاحم في سباق محموم تعبيراً عن التخلف الذي أصبح يتكشف عن هاوية سحيقة في هذا الجزء العربي والأفريقي من العالم. وغني عن القول في ظل هذا المعنى البائس لمفهوم الوطنية إن ليس ثمة معنى يرتقي إلى سوية موضوعية إنسانية. وهكذا تظل الروح الحربجية هي السقف الذي يعيد تعريف الوطنية حصرياً، مستمداً حقيقته من ثقافة ذكورية ضاربة الأطناب. وبحسب هذا التعريف الحسي البائس، فإن التعبيرات الفنية تأخذ سمتها أيضاً من ذلك المعنى، إذ لا يمكن أن تنفصل عن ذلك التعريف، فالشاعر الحقيقي برسم الوطنية هو الشاعر الفحل البطل الجسور الذي يغني للحروب والدماء! أما ذلك الشاعر الذي يغني للحب والورود والجمال، فليس شاعراً وطنياً بالطبع! إنها وطنية العقيرة والعشيرة والنخوة بعيداً من أي تمثلات عقلانية وجمالية قادرة على تفجير أعمق ما في الإنسان: إنسانيته؟ * كاتب سوداني مقيم في الرياض نشر في العدد: 17008 ت.م: 28-10-2009 ص: 26 ط: الرياض