ربما كان الافتراض الذي يحمل مطابقة ما، في: أن فكرتنا عن أنفسنا أهم بكثير من فكرة العالم عنا"هو بالضبط ما تحيل عليه محاولة هذه الكتابة، في ما يخص الهوية السودانية. والحال أن هناك الكثير مما يمكن أن يمرر تساؤلات عن هوية ظن الكثيرون أنها تنطوي على بنية مكتملة وناجزة، فيما كان الواقع يشتق علامات فارقة في الحقل الدلالي والاستراتيجي الذي تكشفت فيه أزمات هذه الهوية وعللها. وعلى رغم أن هناك ما يدمج السودانيين في علل مشتركة أنتجتها الثقافة العربية الأوتوقراطية من ناحية، والفاعليات التاريخية والمعاصرة، التي حجبت آفاق الرؤية المفترضة لمؤشرات هذه الهوية من ناحية أخرى"فإن هناك أيضاً ما يحيل على علل ذاتية تخص الذات السودانوية، وصور استجاباتها لمعطيات التكوين الذي صاحب النشوء الدولتي الهش في السودان، والموقع الديموغرافي الملتبس ضمن ذلك التكوين. غني عن القول أن الالتباس يفضي دائماً إلى جعل الإشكالات المتعلقة بالهوية ثقافياً، وإثنياً، وتاريخياً، قضايا معلقة، ومعطيات قابلة للتذرر في ضبابية المعنى من دون أن تحيل إلى مفاهيم متماسكة عن تلك الإشكالات، فضلاً عن تأويلها في إبداع مواز يجعل منها مخزوناً تلقائياً عبر أدوات الإبداع المختلفة. وربما كان من أهم إشكالات السودانوية: الهوية الديموغرافية المشككة أثنياً في غالبها وعلاقتها الملتبسة بالثقافة واللغة العربية. ذلك أن الثقافة السودانية الغالبة حتى الآن لم تستطع أن تحقق فرزاً واضحاً بين صورتها العربية التاريخية الملتبسة بالتقاليد الأوتوقراطية، وبين تمثلها الإيجابي وإعادة إنتاجها كمعطى مستقل عن الإنشداد الفج إلى فضاء عربي مجاور، هو أيضاً يعاني من أزمة ومن حيرة عصية في إدراك ذاته وإدراك العالم من خلالها، لكنه ينحو بصورة ما إلى تقبل ما يتوافق معه في مستوى خام من مظهر شكلي يقترن شرطياً باللون، والفن فلنقل الغناء والزخم التاريخي لنشأة الحواضر العربية في المشرق والمغرب، من دون أن يكون واعياً، بسبب تلك الحيرة، للكثير من المعاني الثقافية القابلة للإندراج في وعي أعلى ناظم لمفاهيم قيمية في ما يخص مفهوم الأمة، بعيداً من المستوى الشعبوي الخام. والحال أن عدم القدرة على فرز تمثلات الثقافة العربية في السودان، عن ما ارتبط تاريخياً وعضوياً بها في نشأتها الأولى من عنصر بشري عرق - العرب - ونماذج تأويلية لخصائص الحياة القبلية العربية في صورتها التاريخية المرتبطة بالتقاليد أكثر منها بالقيم، هو الذي يجعل هذه الثقافة السودانية غير قادرة على إنجاز مصهر وطني لجميع السودانيين في مختلف أعراقهم ودياناتهم. ولعل في تجربة المشروع الحضاري الإسلامي للدكتور حسن الترابي الذي أسس، وما زال، صورة فجة وصارخة لعينة من تلك التمثلات، المرتبطة بالتأويل الايديولوجي للدين، عبر انقلاب"الإنقاذ"في العام 1989، ما يكشف جلياً تلك القطيعة التي أحدثها مع كل ما كان يمثله سودان ما قبل الإنقاذ على رغم إشكالاته القابلة للتعديل من رصيد لإمكانية تأسيس أو مواصلة تأسيس صورة ما، مدركة للسودان - ولو على نحو غير كاف - بعيداً عن الواقع الذي نعيشه الآن في حال أشبه بالمسخ منها إلى أي ملامح أخرى لسودانوية متعارف عليها ضمنياً بين الشعب السوداني، وإن لم تكن بمستوى عميق يفرز هوية ناضجة وفاعلة في الإبداع السوداني نقصد بالإبداع هنا معناه العام أي في كونه الرافعة الحقيقية للازدهار في جوانب الحياة المختلفة، لأن الإبداع هو الذي يجسد القيم العليا - الحق والخير والعدل والجمال - في تمثلات الأفراد لها عبر المبدعين سواء أكان ذلك الإبداع فنياً أو علمياً، أو سياسياً، اجتماعياً وبكلمة: إنسانياً. وعلى رغم أن خطايا"الإنقاذ"غيبت ملابسات محايثة لها في تفكك تلك السودانوية، كانهيار التوازن الدولي القطبي بين أميركا والاتحاد السوفياتي في العام 1989 الذي زامن بداية انقلاب الإنقاذ، وكذلك ظهور ثورة المعلوماتية والاتصالات مع بداية التسعينات، وما صاحبها من أفول تأثير البنيات الرسمية لإعلام الأنظمة والدول الذي كان يلعب دوراً مهماً في صياغة الهوية الجامعة على نحو ما وحرب الخليج الثانية التي كشفت هشاشة النظام الإقليمي العربي، على رغم كل ذلك كان يمكن للهوية السودانوية أن تستأنف صيرورتها، لولا مفاعيل الايديولوجيا الدينية ل"الإنقاذ"التي استمرت 16 عاماً، وجسدت قطيعة مع مرحلة سودانية أو مشروع لسودانوية كانت تستجيب لتفاعلات الحياة السودانية على نحو مقبول. وكان في الإمكان الإصغاء إلى الكثير مما حدث على هامش"الإنقاذ"من حفريات في الذاكرة التاريخية السودانية، كالمراجعات التاريخية والأكاديمية للدكتور جعفر ميرغني، وكتابات عبد الهادي الصديق، والصادق الفقيه، والدكتور عبد الله علي إبراهيم حول الهوية السودانية، وغيرهم. بيد أن هذه الكتابات كانت على نحو ما - ويا للمفارقة - انتباهاً متأخراً، وردود فعل على تحولات الواقع نحو أفق مجهول ومفتوح على كل الاحتمالات المأسوية لمفاعيل الايديولوجيا الإسلاموية ل"الإنقاذ"، أي أن ما كان مسكوتاً عنه، أو معلقاً من مقومات السودانوية معرفياً، وسياسياً، وتاريخياً، وتنموياً أصبح ينتج آثاره الخطيرة والمدمرة بعد أن تضافرت ظروف عدة في إطلاق شروطه الناجزة، وبفعل التناقضات الكامنة فيه؟ وهذا يحيل بالضرورة إلى أن التحديات أخطر وأكبر بكثير من الاستجابات في هذه المرحلة"فإذا كان دخان القنابل الزمنية لتلك التراكمات بدا واضحاً للعيان، سياسياً وثقافياً ووجودياً، فإن الرصيد الذي يمكن أن يكون جامعاً مشتركاً للسودانيين لا يزال يمتلك قابلية التجديد، بشرط إعمال النظر المعرفي العميق، والنقد الموضوعي لكل الأيديولوجيات والأساطير التي أسست لهذا الواقع الذي نعيشه، بثقافة نقدية صارمة تسعى الى إعادة صياغة هوية سودانوية موجودة، بالإمكان وبالقوة، وغائبة بالفعل - بحسب أهل المنطق - وعلى رغم أن مصادر الشرعية السودانوية تندرج بالأساس في ذاكرة تاريخية متعددة الأصول والمنابع، إلا أن الايديولوجيا التعليمية السودانية في مناهج التعليم جففت الكثير من تلك المنابع - من دون قصد ربما - وهي تستلهم لحظة الوعي الحديث الذي ارتبط مروره بجغرافيا ثقافية معينة، وتزامن مع فاعليات مؤثرة مرت بتلك الجغرافيا وأثرت فيها كالاستعمار التركي، والبريطاني، والجوار الثقافي لمصر، وما لزم من ذلك في نشوء طبقة من الشمال تعلمت وأسست التعليم السوداني على صورتها، وبنحو ظهرت معه الثقافة السودانية العربية على تلك الشاكلة التي ذكرنا، أي بذلك النحو الذي كرس عجزها عن فراق مثالها التاريخي الخام. لكن رحيل الوعي إلى وسط السودان الخرطوم تحديداً بعد الاستقطاب الذي أنشأته المهدية حول البقعة"أم درمان"لأغلب أهل السودان تحت عنوان:"قتال الكفرة"، وبعد تأسيس الإنكليز الإدارة الاستعمارية في المنطقة نفسها، بدا واضحاً أن هذا الوعي هو مركز الجذب لفاعليات أخرى تراكمت في ما بعد، وأسست ما يشبه حاضنة لكيان ثقافي تواطأ على استمزاجه جميع السودانيين، وكان هذا الكيان مفارقاً - على نحو ما - لأصوله الأولى الخام في الشمال، فيما ظل محتفظاً بالسمة العامة للثقافة العربية - على رغم عللها - ولعل الإمكانات المتعددة التي سمحت لنشوء حياة حضرية مستقرة في الوسط هي التي أفرزت سمات عامة لمشروع هوية - خصوصاً في الغناء - بمراحله المختلفة. ذلك أن الغناء هو الأيقونة الصافية لجماليات الهوية السودانوية وتحققها على نحو مثالي، وهو ما كان في الإمكان أن يتحقق في حقول أخرى لو تم إدراكها على نحو من التجرد والمعرفة والاستشراف، في الفكر والتاريخ والسياسة ألخ. ولا يعني هذا أنه لم يتحقق شيء في تلك الحقول، بقدر ما يعني أنه لم يكن كافياً، كما أنه نشأ هكذا اتفاقاً، ووفق صيرورة لم تحدق في ذاتها بما يكفي لنشأة هوية يتأسس عليها مفهوم الأمة، ومشروع الدولة - الأمة، على نحو ما تحقق للأمم الأوربية، وكان نتيجة لثورات حقيقية في كل الحقول المعرفية والفنية والفكرية التي أنتجت - في ما بعد - ثورات اجتماعية/ تاريخية أسست لمفهوم الدولة بوعي استراتيجي عميق -"ولذلك فإن الثورات التي قامت في تاريخ السودان لم تنجز شروطها، إما لتأسيسها على مفاهيم دوغمائية نتيجة لتأويل أيديولوجي غير معرفي، وبالتالي عدم قدرتها على الاستمرار والتجدد بفعل تناقضاتها الذاتية أنظر مراجعات الدكتور كمال الجزولي لايديولوجيا الثورة المهدية في جريدة"سودانايل"الإلكترونية، وإما نتيجة لضغوط منفعلة بواقع مضطرب، وشعور شعبوي مبهم لا تسبقه منظومات فكرية وقاعدة نخبوية واسعة وقادرة على التحكم الجذري بمسار الثورة بعد حركة الجماهير كما بدا ذلك في الحالة الثورية في تشرين الأول/أكتوبر 1964 وكل ذلك يرتبط بالمعنى الثوري في المفاهيم والأفكار للأسف كلمة"ثورة"تم ابتذالها على نحو نزع معناها الذي هو: التغيير الحقيقي الجذري الشامل والمتجدد. وعلى هذا لا تنفك الهوية السودانوية، في محاولة انبعاثها الجديد، بشكل ما، عن معنى ثوري يراكم معطياتها من كل تلك المنظومات الثقافية والفنية والفكرية التي تحدد أمة ما من البشر. ذلك حين تقع الأمة على صورتها، تكف عن الشعارات وإعادة إنتاج الوهم. وقد لا نبالغ لو قلنا أن التحديق في صورة عميقة للهوية وتجسيدها عبر علاقات ملموسة في وعي السودانيين، بحيث يكون إدراكها وتمثلها عبر الحواس، أي عبر يوميات الحياة السودانية في الحرية والكرامة والحقوق والواجبات، التي يكفلها الجميع للجميع عبر علاقات جدلية خلاقة، وعبر الفن والغناء وعبر القانون والدستور والخدمات وبكلمة عبر دولة حديثة تؤسس لكل ذلك في علاقة الحكم بالمحكوم. المفارقة في إشكالات الهوية السودانوية أنها تنطوي على وعي يوحي غموضاً لبعض مصادرها، حين تختزن هذه المصادر تعبيرات تستلهمها بوعي أيديولوجي لدى بعض القوى والتيارات فينتج منها نتائج مدمرة، وردود أفعال معاكسة لا بسبب ذلك المصدر الذي يعاد إنتاجه، بل بسبب التأويل الايديولوجي لذلك المصدر. وكثيراً ما يصبح ذلك التأويل بعد أن يتكرس في حركة تاريخية كالمهدية مثلاً، والتي هي بالقطع إحدى مصادر السودانوية إلى مصدر رديف من مصادر السودانوية، أي أنه في مثل هذه الحالات يصبح الفرز المعرفي للإسلام الذي هو مصدر أصيل من مصادر السودانوية أيضاً عن الايديولوجيا عملاً مركباً وشديد التعقيد، وقد يعاد أنتاج الأدلجة الإسلاموية مرة أخرى كما حدث ويحدث حتى الآن مع انقلاب"الإنقاذ". والحال أن الفرز المعرفي بين الايديولوجيا والإسلام هو ما يمكن أن يشتق تأويلاً جاذباً للإسلام في مصادر هذه الهوية، من دون أن يكون هذا الفرز ايديولوجيا معاكسة للأيديولوجيا الإسلاموية، أي تلك القراءات الأنثروبولوجية للغربيين، وتلاميذهم. وكذلك يمكن للثقافة العربية في السودان أن تنتج تأويلاً يفصل فيها بين القيم الإنسانية التي تنطوي عليها، وبين التقاليد الأوتوقراطية المتخلفة التي تختزنها الذاكرة الشعبوية لتلك الثقافة والممارسات التاريخية التي استندت عليها. في هذا الصدد لا بد من أن تجد الأفريقانية الصرفة أي الزنوجة التي هي مصدر أساسي من مصادر السودانوية، والمنعكسة - أحياناً - كرد فعل سلبي لأوتوقراطية الثقافة العربية، لا بد من أن تجد لها تأويلاً يرتقي ببعض صورها الشعبوية إلى مصاف تصغي لكل التراكمات الإيجابية في محيطها الإثني المشترك مع الثقافة العربية. ذلك أنه ربما كان مأزق الأفريقانية في السودان هو مأزق ملتبس بين حاجز اللغة الذي يحد من تناغمها في محيط الزنوجة خارج السودان، وبين الوهم والظلم الذي خلقته الذاكرة الشعبوية للثقافة العربية عبر انجذابها الفج أحياناً لكل ما هو عربي، فيما هي في الوقت نفسه، تخفي أو تحاول أن تخفي سمات ظاهرة لكيانها الهجين، مما أدى إلى ردود أفعال كانت الأفريقانية الشعبوية إحد آثارها التي كان لا بد من انبعاثها. * كاتب سوداني مقيم في السعودية.