ليس نوعاً من أنواع الإرهاب الثقافي وليست حالة من العصف الفكري الدموي أن تقول ما يمكن أن يجول في ذهن الكثيرين العاديين، خصوصاً تلك الفئة التي انهمرت عليها النار من السماء واشتعلت الأرض تحت أقدامها وذاقت مرارة الحرب والحصار وعرفت معنى الجوع والتعب وعاشت أقصى درجات الفقر الكافر وقسوة العيش، على أرض غزة التي اكتظت شوارعها بجثث الشهداء، شاليت ... دخلت بيوتنا فرحاً مهندماً مرتباً مرتاحاً كما في رحلة استجمام قضيت فيها وقتاً ممتعاً، على رغم الحرب التي لم تخف منها لأن حياتك كانت الأهم من حياة سكان القطاع، وكانت روحك محط اهتمام من قبل خاطفيك يحافظون عليها على رغم جثث الأطفال والنساء. كنت في أيد أمينة جلبت إليك هذه الابتسامة التي قابلتنا بها بالأمس، كانت ملامحك محط انزعاج لنا، لأنك ظهرت ليس كما يظهر معتقلونا مكبلين ومعصوبي الأعين وهم في أقصى درجات القهر والعذاب الذي يُمارس عليهم من قبل إدارات السجون الإسرائيلية وأجهزة الإستخبارات. ولم تكن كمن يحرمون يومياً من الزيارة على أبواب السجون الإسرائيلية بعد رحلة عذاب شاقة وطويلة لذويهم، وسط إرهاصات نفسية ومسلسل قهر يطول الحديث عنه. فظاعة المشهد ... أبكتنا فكم هو مؤلم أن ترى ذلك الجندي الذي أُحرقت غزة لأجله ودكت بالحديد والنار حياً جميلاً كما لو كان بين أهله، كم هو مؤلم أن تراه بكامل رتابته وبزته العسكرية وقد ظهر علينا بعدما ذبحت غزة وفقدت كل شيء على مقصلة شاليت. أبكيتنا وأنت مبتسم لشاشة التلفاز تلك الابتسامة التي سرقتها من على شفاه أطفال غزة، وربما بكينا لأننا دفعنا ثمناً كبيراً وذبحت غزة ليخرج شاليت منها حياً، وليس هذا فحسب بل ومبتسماً ومبتهجاً لأنه أصبح أكثر الأشخاص شهرة في العالم. ولأنه ينتمي الى جيش بربري نازي لكنة أمين على جنوده وعلى حياتهم حتى ولو لم يكونوا من حملة الأوسمة والرتب المتقدمة. وها هو شاليت الجندي الذي شنت إسرائيل لأجله حرباً من دون هوادة، أكثر من ألفي شهيد ومئات آلاف من الجرحى وعشرات الآلاف من البيوت التي هدمت ودمرت على ساكنيها والجامعات والمدارس التي ضربت والأشجار التي احترقت وطوابير من البشر في العراء. صبروا صبر الأولين الثابتين، وذاقوا حسرة فراق الأحبة المدفونين تحت الركام، كل هذا وخرج شاليت حياً يبتسم! تُرى من يعيد الشهداء لذويهم بابتسامتهم، من يعيد للطفلة هدى غالية فرحتها بعائلتها لتتنزه معها من جديد على الشاطئ بعدما تناثرت فرحتها وتطايرت على رمال البحر؟ من يُعيد لآلاف الأسر بيوتها التي هدمت وعادت الى خيام وكالة الغوث - وكأن الخيمة والنكبة قدرٌ محتم - تفترش الأرض وسط العراء؟ تُرى لو قسنا كل ما حدث لوجدنا ما خسرناه مع شاليت يفوق بأضعاف أضعاف ما ربحنا إن كان هناك ربح على مقياس بعض الذين يرون النصر عبر جماجم الأطفال، ويتراقصون فوق الخراب. ليس عيباً أن تقول الحقيقة وسط محاولات التضليل لكن العيب أن تظل صامتاً. بهاء رحال - بريد إلكتروني