لم نقرأ بعد رواية الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان"امرأة تهرب من نذر الشر"2008، وهو الذي يوصف بأنه أحد ثلاثة"حكماء"في الأدب الإسرائيلي، الآخران هما عاموس عوز وأ. ب. يهوشع، وبأنه"ضمير صهيوني"، ومستنير وناضج. ويجعلنا هذا التقريظ ننتبه إلى ما سارع غروسمان إلى كتابته عن العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في غزة، قبل أيام في"هآرتس"وپ"الغارديان". إنه يرى ردّ فعل دفاعياً من جانب إسرائيل بعد ضبط كثير للنفس على استفزاز من حركة حماس بصواريخها، لكنّه يُطالب بأن تعضّ إسرائيل على أسنانها، وتوقف إطلاق النار، ولو من جانب واحد، لثمان وأربعين ساعة، لتعرف"حماس"أن ضربات أشدّ قد تلحق بها، وليتاحَ للوسطاء أن ينشطوا لتثبيت تهدئة، وربما لاتفاق أشمل. إنه يرى أن إسرائيل تصرفت حتى يوم بدء الغارات الجوية"ببرود أعصاب مدهش"، ويوصي بالحفاظ على حياة سكان قطاع غزة، وبأن تعرف إسرائيل بدقة متى لا تستخدم القوة التي تستعملها"للرد المشروع والناجع الذي يرمي إلى الردع وإقرار وضع التهدئة". ويلحّ على دعوته، وإنْ يخمّن أن"حماس"تستطيع في مهلة يومين، تحظى بها، بحسب تعبيره، تنظيم نفسها. ينشغل الروائي الإسرائيلي البارز هنا بما هو تكتيك حربي وسياسي، ولا يلحظ شيئاً آخر، وهو الذي يشدّد منذ سنوات على أن تبقى إسرائيل تتمثل ما يسميها"القيم اليهودية الكونية"، باعتبار أن وجود إسرائيل، بحسبه، معجزةٌ قوميةٌ وسياسية، وأن التاريخ أعطاها الفرصة النادرة لتكون كذلك، ولتتحقّق دولةً ديمقراطيةً مستنيرة، تتصرف وفق القيم والأخلاق. وبناءً عليه، يرفض الاحتلال، ويجد الفلسطينيين شعباً معذّباً، لا يقلّ عذابه عن عذاب الإسرائيليين، !، ويرى أن على الشعبين أن يتحليا بپ"الشجاعة والكرم مع بعضهما"، وأنّ على كلٍّ منهما"أن يتنازل عن اعتبار نفسه الضحية الحقيقية الوحيدة في النزاع". ومع أن غروسمان ذو سمة إنسانوية في كتابته، ولا يُرضيه العنف الإسرائيلي الذي يقضي فيه العزّل من أهل غزة، إلاّ أنه في مقالته لا يحذّر من حدوث هذه الجرائم، ولا يذكّر بقسوة الحصار على أهل القطاع منذ عامين، ولا ينتبه إلى أن نحو ثلاثمئة منهم ماتوا هناك جراء التجويع والمنع من السفر للعلاج وندرة إمكانات العيش. وقف غروسمان في كتابه"الزمن الأصفر"الذي حظي بترجمة عربية جيّدة فور صدوره قبل أكثر من عشرين عاماً، وهو نص سردي رشيق، على مظاهر عنف وعسف كثيرة يمارسها المحتل الإسرائيلي على الفلسطينيين. وكتب قبل ثلاثة أعوام أنه لا يلوم الفلسطينيين إذا انساقوا بعد أربعين عاماً من القمع وخيبة الأمل وراء وعود"حماس". وانزعج بشدة مما لحق بقيم إسرائيل وأسسها الأخلاقية ! من"عار"صورة الفتاة الفلسطينية هدى غالية على شاطئ غزة بعد مقتل عائلتها. وهو في مجمل مواقفه، كما في مقالته الجديدة، يبدو شديد التحسس مما يُؤذي"مكانة إسرائيل الأخلاقية ومعجزتها وقيمها اليهودية". ولم يأخذه شعوره هذا إلى التسليم بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، فهو يخشى على"الطابع اليهودي"لدولة إسرائيل، ويؤمن بفرادة"الشعب اليهودي"، وهو اليساري العلماني. وفي مطلبه التخفف من الاحتلال، لا يتبنى الانسحاب من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة في 1967، بل من"معظمها"، ويصف العرض على ياسر عرفات في"كامب ديفيد"بأنه كان سخياً. ويرفض أي أسف عن نكبة الفسطينيين في 1948، ولا يعترف بحدوثها، ويسارع إلى الاشتراك في احتفال معرض باريس للكتاب بالذكرى الستين لقيام إسرائيل. يصحّ إذاً، وصف الموسيقار الإسرائيلي جلعاد أتزمون لديفيد غروسمان بأنه صهيوني يساري من النوع الخفيف، ومخادع في حديثه عن اليهودية الكونية التي لا وجود لقيمها، بحسب أتزمون الذي لا يجد أي معجزة في وجود إسرائيل"العنصرية المبتذلة والقومية المتعصبة"، بتعبيره. إن غروسمان يخشى على إسرائيل، إذا ظلت تضرب"حماس"في غزة وتتلقى الضرب، من ورطةٍ تعجز عن الخلاص منها، لذلك يلحّ على نصيحته التي لم يكترث بها المستوى السياسي الإسرائيلي، ويكتب أنها نصيحته نفسها في تموز يوليو 2006 بعد اختطاف"حزب الله"جنديين. ومعلوم أن غروسمان أيّد العدوان على لبنان في أول أيامه، ثمّ طالب بوقفه بعد أسبوعين على بدئه، أما مقتل ابنه ضابط الاحتياط في سلاح المدرعات أوري قبل ليلتين من انتهاء الحرب في الجنوب اللبناني، فقد جعله ينتهي من روايته"امرأة تهرب من نذر الشر"التي قال لاحقاً إنه بدأ يكتبها قبل ثلاث سنوات على حادث مقتل نجله، وهو الحادث الذي جعله لا يصافح إيهود أولمرت في احتفال عام، وصف فيه إسرائيل بأنها هشّة ومريضة. لمّ نقرأ هذه الرواية التي لم تترجم بعد، وهي عن الآثار النفسية للحرب على أبطالها، وتذهب إلى حرب 1973 التي أُسر فيها عسكري يعود مهشماً نفسياً وجسدياً، تُحاول امرأة مساعدته فتتزوجه، ثم ينجبان ولداً ينتسب لاحقاً إلى الجيش، فتظلّ والدته مهجوسة باحتمال مقتله، فتتجول في إسرائيل لتتخلص من مشاعر الخوف والقلق واليأس... انها رواية عن التوتر إذاً، ربما عن توتر كاتبها، صاحب الالتباسات اليسارية الصهيونية التي تختلق لعذاب الفلسطينيين شبيهاً لها في عذاب الإسرائيليين الذي لا فائض من العواطف لدى الفلسطينيين ليعرفوه. إنها الالتباسات التي تجعل ديفيد غروسمان يكتب في"الزمن الأصفر"أن سرد فلسطينية في مخيم الدهيشة له عن طرْدها وعائلتها من فلسطين في 1948 ذكّره بحكايات جدّته في بولندا. سيُجهِد الروائي الحصيف نفسه هذه المرّة إذا عنّ له أن يفتش عن عذاب يشابه عذاب أيٍّ من أهل غزة وهم يغالبون محدلة التمويت الإسرائيلية، وهو الذي لمْ يكتب ما الذي على زملاء نجله القتيل من ضباط وأفراد"جيش الدفاع"أن يفعلوه إذا لم يفلح الأخذُ بنصيحته تلك عن هدنة يومين. نشر في العدد: 16714 ت.م: 07-01-2009 ص: 36 ط: الرياض