منذ الحرب الروسية - العثمانية 1877 - 1878 حتى الحرب العالمية الثانية لم تختف رائحة البارود، بالمعنى الحرفي للكلمة، من جبال البلقان. وانطلقت شرارة الحرب العالمية الاولى من البلقان بالذات، حينما قام أحد الطلاب القوميين الصرب الذين كانوا يطمحون الى الاستقلال عن إمبراطورية النمسا - المجر باغتيال ارشيدوق النمسا في 28 حزيران يونيو 1914 في مدينة ساراييفو في البوسنة. خلال الحرب العالمية الثانية، وبسبب وجود أنظمة ملكية - بورجوازية، من جهة، وحركات ثورية قومية وإصلاحية وديموقراطية نشطة، من جهة ثانية، تميز البلقان، بسرعة سقوط حكوماته التقليدية في قبضة دول المحور النازي، أو بانضمامها الطوعي إليه، منذ بداية الحرب. لكن الميزة الأهم التي طبعت البلقان خلال الحرب العالمية الثانية هي ظهور مقاومة شعبية واسعة وشديدة المراس ضد النازية والفاشية. وقد اضطلع الشيوعيون، خصوصاً في ما صار يعرف باسم يوغوسلافيا الاتحادية السابقة، بقيادة جوزف بروز تيتو بدور رئيسي في المقاومة وقيادتها. وباستثناء تركيا، اسفرت هزيمة دول المحور وانتصار المقاومة الشعبية ضد النازية عن تسلم الشيوعيين وحلفائهم السلطة في جميع بلدان البلقان، بما في ذلك اليونان. لكن الملك اليوناني عاد من مصر، واستعاد السلطة من الشيوعيين اليونانيين، بمساعدة الإنكليز وبتواطؤ ضمني من ستالين، الذي كان يطبق اتفاقية يالطا، التي جعلت اليونان ضمن دائرة النفوذ الغربية، ونذكر هنا ان الجنرال ماركوس، القائد الاسطوري للثوار الشيوعيين اليونانيين، وبعد ان لجأ الى الاتحاد السوفياتي، مات كعامل بسيط في معمل احذية"غير مرضي عنه"من القيادة الستالينية. وبعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، انقسمت دول البلقان الى ثلاث فئات سياسية: 1 - تركيا واليونان، انضمتا الى الكتلة الغربية بقيادة اميركا والى حلف الناتو العسكري، على رغم التناقض الشديد التاريخي والراهن بين البلدين. 2 - بلغاريا وألبانيا، انضمتا الى الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، والى حلف وارسو العسكري. 3 - يوغوسلافيا السابقة بقيادة تيتو وكانت تضم: صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود ومقدونيا اليوغوسلافية، التي - على رغم وجود حكم الحزب الشيوعي فيها - انتهجت سياسة مستقلة عن موسكو الستالينية، وتبنت سياسة الحياد الإيجابي بين المعسكرين الشرقي والغربي، خصوصاً على مستوى المواجهة العسكرية بين حلف الناتو وحلف فرصوفيا. مع العلم ان الشعب الصربي، كشعب سلافي، وأرثوذكسي مسيحي شرقي، تربطه علاقات عنصرية race وحضارية وروحية - دينية، وثيقة وعميقة، بالشعب الروسي. إلا ان القائد الشيوعي التاريخي ليوغوسلافيا، الكرواتي الأصل، جوزف بروز تيتو، انتهج سياسة مستقلة ومختلفة تماماً عن سياسة ستالين. وكانت اتفاقية يالطا تقضي ان يكون النفوذ الغربي والشرقي في يوغوسلافيا بنسبة 50 - 50 في المئة. اي ان تعطي يوغوسلافيا أذناً صاغية لپ"الشرق"وپ"الغرب"معاً، وترضي الطرفين في آن واحد. لكن تيتو، مستنداً الى الدعم الشعبي، وقف بشدة ضد هذا التوجه الدولي، الذي كان من شأنه تحويل يوغوسلافيا الى"مكسر عصا"لسياسات الدول العظمى. ومنذ هزيمة دول المحور النازية والفاشية، فإن يوغوسلافيا"الشيوعية المستقلة"كانت المنطقة الوحيدة في شبه جزيرة البلقان خالية من القواعد العسكرية الاجنبية، الغربية او الشرقية، ومستقلة استقلالاً حقيقياً. ولإعطاء فكرة تقريبية عن الدور الخاص الذي اضطلعت به يوغوسلافيا تيتو في السياسة البلقانية والدولية بعامة، لا بد من ذكر الآتي: 1 - اضطلعت يوغوسلافيا بدور مميز في الموقف من القضية الفلسطينية، اذ انها صوتت ضد قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الاممالمتحدة في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947، وأيد الوفد اليوغوسلافي الى الاممالمتحدة مشروع انشاء دولة فلسطينية ديموقراطية موحدة، بعد جلاء الاحتلال البريطاني، تقوم على اساس"الكوتا الطائفية"على الطريقة اللبنانية مع الاحتفاظ بالطابع الوطني الاصلي - الفلسطيني العربي - لفلسطين. ولكن هذا المشروع رفضته الدول الغربية ومعها الصهيونية العالمية وكذلك القيادة الستالينية والدول الشيوعية الدائرة في فلكها. 2 - في أسبقية تاريخية على فكرة إنشاء"الاتحاد الأوروبي"، طرحت يوغوسلافيا التيتوية فكرة إنشاء"الاتحاد الفيديرالي البلقاني"، لتحويل البلقان من ساحة للنزاعات وتصفية الحسابات"الدولية"، الى بوتقة للتعاون والتفاعل الحضاري بين الشعوب، لكن هذه الفكرة لم تتحقق لمخالفتها"روح"اتفاقية يالطا. 3 - انتهجت يوغوسلافيا سياسة"الحياد الايجابي"بين المعسكرين الغربي والشرقي، ولعبت دوراً مميزاً في عقد مؤتمر باندونغ في اندونيسيا سنة 1955، وتأسيس حركة عدم الانحياز الدولية. بعد هدم جدار برلين وسقوط المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين، كان من اللافت ان الدول الاوروبية الشرقية بما فيها البلقانية الموالية للسوفيات، كانت سباقة الى الانضمام الى حلف الناتو والتحول 180 درجة الى مناطق نفوذ غربية، خلافاً ليوغوسلافيا التي تمسكت باستقلالها وحيادها، ورفضت الانجرار الى سياسة اقامة القواعد العسكرية المعادية لروسيا وللدول العربية وإيران. وهذا ما جعل يوغوسلافيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هدفاً للعداء الشديد من الدوائر الغربية والصهيونية، التي عملت المستحيل لمحاصرة ويوغوسلافيا. وتجندت لشن الحرب الظالمة على وحدة واستقلال ومصير شعوب يوغوسلافيا السابقة جبهة عالمية كبرى شملت: الحلف الاطلسي الذي زج بكل قوته العسكرية الجوية، خصوصاً ضد يوغوسلافيا في حرب 1999. ووقفت روسيا ما قبل البوتينية عاجزة عن ان تنجد الشعب الصربي وشعوب يوغوسلافيا بعامة. وبعد أن عملت الجبهة الغربية على تعميق النزاع القومي بين الصرب والالبان وايصاله الى نقطة اللارجوع، دعمت ومولت وسلحت فصل اقليم كوسوفو عن صربيا، واعلانه جمهورية مستقلة، وطبقت سياسة"الفوضى البناءة"ضد شعوب يوغوسلافيا. وتأسيساً على هذا نقلت التجربة لاحقاً الى"الشرق الأوسط الكبير". ويكفي ان نجري المقارنة الآتية: أ - استخدم شعار"حق تقرير المصير للشعوب"لتغطية فصل كوسوفو عن صربيا، وتحويلها الى قاعدة اميركية بكل معنى الكلمة توجد في كوسوفو اكبر قاعدة عسكرية اميركية في العالم هي قاعدة بوندستيل. ب -"اللعبة المسرحية"ذاتها تم نسخها وتطبيقها في العراق، إذ تحولت كردستان العراق الى قاعدة"يستريح"فيها الاحتلال الاميركي - الأطلسي المغطى بالشرعية الدولية وقرارات الاممالمتحدة واخيراً الاتفاقية الأمنية الأميركية - العراقية. ج - ومثلما تستخدم الان كردستان العراق، كقاعدة اميركية: عسكرية - سياسية - اقتصادية - ثقافية لأجل إعادة رسم خريطة العراق والمنطقة ككل، يجري استخدام كوسوفو قاعدة احتلال أميركي لإعادة رسم خريطة منطقة البلقان، والمنطقة المحيطة به وتحويله الى منطقة مواجهة مع روسيا، والى"حاجز اميركي - صهيوني"بين اوروبا وبين العالم العربي - الإسلامي. هذا هو أحد جانبي صورة البلقان المظلوم، ولكن في الجانب الاخر فإن التجربة التاريخية ليوغوسلافيا التيتوية، اي تجربة الاتحاد والتعاون والتآخي بين شعوب واتنيات المنطقة وتحويلها الى منطقة سلام وتفاعل حضاري، لا تزال تجد انصارها ليس في صربيا وحدها، او في كرواتيا موطن تيتو الاصلي، بل لدى ما يسمى"الاكثرية الصامتة"في بلدان يوغوسلافيا السابقة والبلدان البلقانية الاخرى بما فيها اليونان. وجرت الى الآن اجتماعات رسمية وشعبية تحت شعار توحيد البلقان. الا ان الاتحاد الاوروبي، والحلف الاطلسي، وبسبب من وقوعهما تحت النفوذ الاميركي يعرقلان هذا الاتجاه التوحيدي. وهذا يعني انه، على رغم سياسة الهيمنة الأميركية - الصهيونية، يوجد في البلقان اكثر من خيار واكثر من احتمال للتطور -، ولا يمكن الفصل بين مستقبل البلقان وبين المتغيرات الجوهرية التي يشهدها العالم. ويمكن ايجاز هذه المتغيرات في الآتي: 1- ان البنية الدولية ووضعية العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة والأحادية القطبية بدأت تتهاوى. 2 - تأثير هذه المتغيرات في اوروبا سيدعم عدم الاستقرار في كوسوفو وكل اقليم جنوب شرقي اوروبا. 3- الاتحاد الأوروبي يضعف ويصبح غير موثوق به. فالرقعة الجغرافية الكبيرة، واختلاف المصالح وتعدد"سرعات"التطور في الاتحاد تقود الى أن الإدارة، وأخذ القرارات، والمواءمة بين المصالح، كل ذلك يصبح اكثر تعقيداً، ومن حين الى آخر غير قابل للتحقق. 4 - حلف الناتو يشيخ، ففي الحرب الباردة، كان"ضرورياً"للدفاع عن الغرب، وهو يستمر في الوجود بقوة الاستمرار وبسبب عجز القادة الغربيين عن ايجاد نظام جديد للامن، يستجيب للواقع في القرن 21. 5 - ان روسيا في عهد فلاديمير بوتين ظهرت على المسرح الدولي من جديد كقوة مهمة. وعلى رغم ان العلاقات بين موسكو وبين اوروبا والولايات المتحدة تبدو أحياناً غير محددة المعالم، إلا انه من الواضح تزايد النفوذ الاقتصادي والسياسي والهيبة العسكرية لروسيا. والأخطر انها تحولت الى مغناطيس لجذب الدول والقوى، التي تجد نفسها على تناقض او اختلاف مع الغرب. 6 - تحسن العلاقات الروسية - الإيرانية والتعاون بين الطرفين على الصعد السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، يهدد بقلب"رقعة الشطرنج". 7 - إسرائيل التي كانت الاداة الرئيسة لتحقيق أهداف الغرب في الشرق الأوسط طوال اكثر من نصف قرن، بعد انهيار النظام الاستعماري القديم، كانت تمثل"نموذجاً ناجحاً"للقاعدة الامبريالية. اما الآن فهي تتحول الى عبء على السياسة والموازنة الأميركيتين 8 - احتمال تحسن العلاقات بين روسياوتركيا يحمل في طياته تغيير وجهة العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية ليس فقط في شواطئ البحر الاسود، بل من المحتمل في كل جنوب شرقي أوروبا أيضاً. في سياق هذه المتغيرات يتقرر المستقبل البعيد لكوسوفو. وهذه المتغيرات ستفتح إمكانات أمام صربيا والبلقان لم يكن في الإمكان التفكير بها قبل 5 - 6 سنوات. فالغرب، ولزمن طويل، كان يصر انه لا يوجد امام دول البلقان ككل، خصوصاً صربيا، أي خيار آخر غير الانضمام الى الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو، إذا أرادت أن تتقدم، ويبدو الآن بوضوح متزايد ان هذا الخيار ليس صحيحاً. * كاتب لبناني نشر في العدد: 16714 ت.م: 07-01-2009 ص: 30 ط: الرياض