تبْرع حركة حماس، ومثلها"حزب الله"، وكلاهما تلميذ نجيب للنظامين السوري والايراني، في قلب المفاهيم وعكس الحقائق واستخدام التعابير على نقيض مدلولاتها. فيصبح مجرد عدم الفناء"انتصاراً"، وارتفاع عدد القتلى والجرحى دليل قدرة على"الصمود"، و"خدش"المدن الاسرائيلية ببضعة صواريخ"توازناً استراتيجياً"، ويصير عدم الاستعداد للمعركة والتقصير في رصد نيات العدو والتفاجؤ بحجم رده"غدراً"- علماً ان الغدر صفة تطلق على اسرائيل منذ بدء الصراع معها، لكنها لم تجعل التحسب منه بين الأولويات - وتتحول الشعارات الخطابية المرحبة بالإبادة والموت برنامجاً سياسياً للمستقبل، ويصبح العاقل"عدواً"والوسيط"مخادعاً"والمجتمع الدولي"متواطئاً". ولهذا يطمئن خالد مشعل"الأهل والأحباء بأن المقاومة في غزة بخير وبناها التحتية بخير ولم تخسر إلا القليل القليل جداً"، وكأن كل الدمار الذي وقع والشهداء الذين سقطوا والجرحى الذين لا يجدون علاجاً لا يدخلون في حساب"حماس"الممسكة قسراً بمصير قطاع غزة والتي لم تجد حرجاً في ملاحقة الموقوفين من حركة"فتح"لإعادتهم الى السجون بعدما دمرها القصف الاسرائيلي. واذا كانت"حماس"بخير كما يؤكد زعيمها، فلماذا كل هذا الضجيج والاحتجاج والاتهامات؟ يفضح مشعل هدف حركته من وقف العمل بالتهدئة الذي ادى الى اندلاع الحرب الحالية، عندما يؤكد انه مستعد للمشاركة في اتفاق جديد للمعابر تكون"حماس"طرفاً فيه. اي انه يريد استكمال الانقلاب الذي أدى الى ابعاد السلطة الوطنية من غزة، واعترافاً عربياً ودولياً به كطرف مستقل عن السلطة، اي فرض الازدواجية الفلسطينية أمراً واقعاً لا عودة عنه، ودفع العالم الى القبول بها، والافشال المسبق لأي حوار يستهدف اعادة الوحدة الوطنية بحجة"عدم الانشغال بمعارك جانبية لأن الأولوية لوقف العدوان". وهذا ما يفسر الحملة العنيفة على مصر من جانب سورية وإيران و"حماس"و"حزب الله"وسائر أطراف جبهة"الممانعة". فموقف القاهرة يشدد على ان هناك سلطة فلسطينية شرعية وحيدة يمكن ل"حماس"ان تشارك فيها لكن ليس ان تستقل عنها، لأن هذا يضعف الجانب الفلسطيني والعربي في أي حل. ويحول موقف مصر ايضا دون استخدام اسرائيل ورقة الثنائية الفلسطينية للضغط على سلطة محمود عباس في مفاوضات السلام، ذلك ان الدولة العبرية تجد في الانقسام الفلسطيني الذي تشجع عليه ذريعة للتهرب من الالتزامات والتنصل من الاتفاقات والقرارات الدولية. وتندرج في الاطار نفسه، دعوة الفصائل الفلسطينية بعد اجتماع لها في دمشق امس، الى"سحب مبادرة السلام العربية من التداول في المحافل الدولية"، بحجة ان"هناك استغلالاً لها من قبل القوى المعادية لشطب حق العودة والنيل من الحقوق الوطنية الفلسطينية". هذا المنطق المعكوس الذي يأتي مباشرة بعد وصول أمين المجلس الأعلى الايراني للأمن القومي سعيد جليلي الى دمشق واجتماعه بالقيادات الفلسطينية، هو ايضا وجه آخر للانقلاب"الحمساوي"بعدما اخذت المبادرة العربية تشق طريقها بثبات وتلقى مزيداً من التأييد الدولي، وهجوم مضاد قد تكون الادارة الاميركية الجديدة احد المستهدفين برسائله، لإبلاغها بأن"مستقبل"المنطقة في أيدي أطراف أخرى عليها التفاوض معها. نشر في العدد: 16711 ت.م: 2009-01-04 ص: 15 ط: الرياض