الانقلاب الدموي البائس الذي حاولت "حماس" القيام به على "السلطة الفلسطينية" خلع عن حركة "حماس" شرعية المشاركة في الحكم وأعادها حصراً الى خانة الفصيل. ولا مكان في الحكم لفصيل يتطاول على سلطة في هذه المرحلة المصيرية من الحرب بين الدولة وبين الميليشيا في منطقة الشرق الأوسط كلها. لا مجال للحوار والمساومة بين السلطة والفصيل، أو بين الدولة والميليشيا، لأن الأولى هي الشرعية والثاني هو المعتدي على الشرعية. بكل بساطة وبمنتهى المنطق، احدهما بالضرورة ينفي ويلغي الآخر."حماس"فشلت فشلاً ذريعاً في الحكم وختمت الفشل على جبينها بانقلابها على سلطة كانت جزءاً منها. ذلك الانتصار الذي تزعمه قد يكون، في اقصى درجاته، الربح الذي حققته في المعركة المخجلة التي سفكت دماء الأهل وفي"الاستيلاء"على قطاع غزة. لكنه انتصار فارغ بلا معنى لأنه لف الحبال على أعناق"حماس"قاضياً على مستقبلها السياسي وجعلها في الوقت ذاته سجينة أوهام انتصار طوّقها في بؤرة. فهكذا هي ملامح الهزيمة مهما زعم زعيم"حماس"في دمشق خالد مشعل ان ما حدث هو"انتصار للإسلام"ومهما تجاهل قادة"حماس"في قطاع غزة ذلك الغضب الساطع الآتي عليهم من الناس في القطاع لمحاسبتهم على كلفة الفشل في الحكم وكلفة ارتهانهم في البؤس فيما تقوم الفصائل الفلسطينية بمغامراتها. الأسرة الدولية، بما فيها مجلس جامعة الدول العربية، تصرفت كما يجب بدعمها القاطع لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس باعتباره الممثل الوحيد للشرعية ولجميع الفلسطينيين، وعباس بدوره تصرف جيداً بإقالته حكومة اسماعيل هنية في أعقاب محاولة انقلاب"حماس"على السلطة الفلسطينية كما باختياره سلام فيّاض رئيساً لحكومة الطوارئ المكونة من تكنوقراطيين مستقلين وليس من رجال"فتح"الموالية للسلطة. وهو محق تماماً في رفضه الحوار مع الفصيل الذي انقلب على السلطة. سلام فياض ليس"فتحاوياً"ولا هو"حماسي"وانما هو رجل يفهم لغة التصرف كرجل دولة. يفهم ان المبدأ الأساسي لأي رجل دولة هو أن يضع الدولة في مرتبة عليا فوق الأحزاب والتنظيمات والفصائل والحركات والميليشيات. وهذا يستلزم بالضرورة رفض المساواة بين الدولة - السلطة وبين الحركة، سواء"حماس"أو أي فصيل آخر من الفصائل الفلسطينية. عندما فازت"حماس"في الانتخابات جاء فوزها بمسؤولية ضخمة عليها هي: مسؤولية الاختيار بين أن تكون حكومة أو أن تكون حركة."حماس"ظنت أنها قادرة على القفز بين الصفتين والمزج بين الخيارين. نظرت الى فوزها بالانتخابات ليس من زاوية ما عليها أن تقدمه الى الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي المنفى من زاوية هويتها الوطنية الفلسطينية. نظرت الى الحكم من زاوية هويتها كحركة اسلامية وكيف تتلاقى عقائدياً مع حركات مماثلة ومع دول تتبنى هذه الحركات لغاياتها الوطنية والسلطوية هي حتى على حساب فلسطين والتطلعات الفلسطينية. محمود عباس خدم"حماس"بموافقته على البقاء رئيساً للسلطة بعد فوزها بالانتخابات. أعطى حكومة"حماس"غطاء وحماية لأن استقالته من المنصب كانت ستؤدي الى انهيار أسرع لحكومة"حماس"بسبب المقاطعة الدولية لها. وهذه المقاطعة ناتجة عن رفض"حماس"الالتزام بالاتفاقات السابقة التي أبرمتها السلطة الفلسطينية الى جانب رفضها التخلي عن مبدأ تدمير اسرائيل وعدم الاعتراف بها. فلو تخرجت"حماس"من حركة الى حكومة لأقرت أولاً أن أصول اللعبة الديموقراطية والانتخابية هي احترام تواقيع الحكومات السابقة. اسرائيل استفادت الى أقصى الحدود ليس فقط من مواقف"حماس"وانما أيضاً من مواقف تبنتها"اللجنة الرباعية"المكونة من الولاياتالمتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا. هذه"الرباعية"فرضت ثلاثة شروط على"حماس"هي: احترام الاتفاقات السابقة ونبذ العنف والاعتراف باسرائيل، كشروط مسبقة للتعامل معها. تجاهلت"اللجنة الرباعية"عدم تنفيذ اسرائيل للاتفاقات وانتهاكاتها المستمرة لها وللقرارات الدولية وللقوانين الدولية ومنها المضي ببناء المستوطنات غير الشرعية وتشييد الجدار العازل على رغم تنافيها مع القانون الدولي، لكن عدم إبداء"حماس"أي استعداد لوضع هويتها الوطنية كحكومة فلسطينية فوق هويتها الاسلامية كحركة عقائدية هو الذي تحكم بها وهي في الحكومة. ثم جاء قرارها البائس بالانقلاب على مؤسسات السلطة الفلسطينية التي هي جزء منها والتي سمحت لها بالترشح الى الانتخابات ومكنتها من الوصول الى الحكم، جاء ليطرح تساؤلات جذرية. تساؤلات على نسق أين كان مركز ثقل"حماس"، هل كان في الحركة أو في الحكومة؟ فهناك من هو مقتنع بأن"اتفاق مكة"الذي رعته المملكة العربية السعودية وأدى الى قيام حكومة الوحدة الوطنية بموافقة"حماس"انما كان مرفوضاً من بعض أقطاب"حماس"كما من اسرائيل والولاياتالمتحدة. أي ان"حماس"في نهاية المطاف كانت في المربع الرافض لاتفاق مكة، ولذلك كان الانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية التي ضمتها. والسؤال يبقى: أية جهة في"حماس"اتخذت قرار الانقلاب ولماذا؟ لكن هذا السؤال ليس الأهم في هذا المنعطف، سيما أن اولئك الذين أرادوا انقلاب غزة أن يؤدي الى استيلاء"حماس"على السلطة قد فشلوا في هدفهم. السؤال هو ماذا ستفعل"حماس"بالانتصار - الهزيمة الذي حصدته في غزة؟ نعرف ان اسرائيل لا تريد قطاع غزة بل ان انسحابها الانفرادي منه كان هدفه التخلص مما اعتبرته عبئاً لا حاجة لها به. نعرف أن غزة قطاع معزول صلته الوحيدة جغرافياً هي بمصر التي لا تريد أن تكون في موقع يضطرها أن"ترث"هذا القطاع المفعم بالاسلاميين المتطرفين وغيرهم من الفصائل المتطرفة سيما وأن الأسلحة تتدفق اليهم عبر الانفاق لإقامة شبه"قاعدة"في ما بات يسمى ب"غزستان"الفوضوية. نعرف أيضاً أن الأسرة الدولية ستحرص على تقديم المعونات للفلسطينيين المدنيين الذين يبلغ عددهم حوالي 1.5 مليون نسمة انما الأسرة الدولية لن تقدم المعونات والمساعدات الى"حماس"لتحكم في غزة. فإذا ظنت حركة"حماس"أنها قادرة على ضبط الأمن والقيام بمهمات الحكومة في غزة، فإن عليها أن توجه الدعوات من أجل انقاذها الى دمشق والى طهران، ولنرى ماذا سيحدث حينذاك. فلا الحكومة السورية قادرة على تمويل أكثر من حركة وفصيل فلسطيني للقيام بمهمات لها هنا وهناك. ولا الحكومة الايرانية قادرة على تمويل"حماس"وهي تلعب دور الحكومة في قطاع غزة، لا سيما أنها تموّل"حزب الله"في لبنان وأن العقوبات التي فرضها مجلس الأمن عليها بدأت تكلفها غالياً اقتصادياً. فلا أموال آتية من ايران أو سورية ولا حتى من قطر التي طالما شجعت"حماس"على المغامرة. هذا اقتصادياً ومالياً. وهذا يعني أن الشعب الفلسطيني سيزداد غضباً في غزة وسيقول لرجال الأقنعة: ماذا فعلتم بنا؟ وسيحاسبون. سيحاسبون مهما حاول رجال"حماس"تحويل الأنظار عن مسؤولياتهم من خلال أمرين: الحرص على تفاقم المعاناة الانسانية تحت ظروف العزل للفلسطينيين والتي أتوا بها عليهم. واستدعاء ردود فعل اسرائيلية على اطلاق صواريخ تضع اسرائيل في واجهة الاعتداء بما يسمح بتحويل الأنظار عما فعلته"حماس"بغزة وبامتصاص الغضب الشعبي من"حماس". واقع الأمر، وحسب قول أحد العالمين بالوضع في غزة، ان ورطة"حماس"في غزة بعد الاستيلاء عليها هي كورطة الاميركيين في بغداد و"هات الطلعة من الحمام". أي ان غزة ليست مكاناً يسهل السيطرة عليه. حتى الصواريخ ضد اسرائيل لن تتمكن"حماس"من السيطرة عليها. فالآن ستأتي مرحلة المزايدات بين الفصائل. ثم هناك الحكم من دون شرعية."حماس"أعادت نفسها الى صفتها الأساسية كحركة وكفصيل ولا تتمتع اليوم بأدنى درجات شرعية الحكم والحكومة. هذه هي خسارتها السياسية الكبرى وهذه هي الهزيمة التي ألحقتها بنفسها. فلقد هزمت أدوات اضفاء الشرعية عليها. أولوية حكومة عباس - فيّاض ليست استعادة قطاع غزة الآن وانما هي ضمان عدم انزلاق الضفة الغربية الى مصير مشابه لمصير القطاع. هذا لا يعني التخلي عن غزة انما يعني ان هذه الحكومة تفهم تماماً عواقب فشلها في ضبط الحالة الأمنية في الضفة الغربية. هذه العواقب لا تترتب فقط على انهيار"السلطة الفلسطينية"كاملة وانما أيضاً المصير الفلسطيني تحت قيادة الحركة الاسلامية والفصائل الفلسطينية الأخرى. اذن، محمود عباس وسلام فياض في حاجة لجميع أدوات تثبيت السلطة الفلسطينية وتمكينها من الحكم أمنياً واقتصادياً وسياسياً. هذا الدعم يجب أن يأتي من الدول العربية ومن الولاياتالمتحدة ومن"اللجنة الرباعية"التي تضم روسيا وكذلك من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وكلذلك من اسرائيل. لا مساحة هنا لمحاولات انتشال"حماس"بذريعة وحدة الصفوف الفلسطينية. ان واجب الأسرة الدولية هو مساعدة الحكومة الشرعية للفلسطينيين وهي متمثلة حصراً في السلطة الفلسطينية برئيسها ورئيس حكومتها وطاقمهما. هذه ليست معركة عسكرية بين"حماس"و"فتح"ولا هي معادلة سياسية بين فصائل فلسطينية. المعادلة الوحيدة واضحة وهي انه يجب احترام الشرعية الفلسطينية من دون محاولات التوسط للحوار وللمساومات ومن دون مزايدات من أي طرف كان لا سيما التنظيمات غير الحكومية التي تدعي الديموقراطية وتجهل ما حدث أو المقالات الصحافية التي تعكس أجندة لطرف من الأطراف. بعض هذه التعليقات في الصحافة الاميركية يبدو عازماً على التشكيك بقدرات السلطة الفلسطينية لضبط الوضع الفلسطيني وذلك كي يبرر لاسرائيل تهربها من الاستحقاقات وما يجب عليها القيام به الآن. والتهرب هو أكبر خطأ ترتكبه اسرائيل لو أخذت بنصيحة التهرب لأن ذلك سيتركها وجهاً لوجه مع التطرف من دون المنطقة الفاصلة بينها وبين قوى التطرف. المنطقة الفاصلة المتمثلة في الاعتدال. أي، ان على اسرائيل اليوم أن تختار حقاً بين حل الدولتين وبين التملص من استحقاقات حل الدولتين. لا يكفي اليوم أن تفرج اسرائيل عن أموال الضرائب الفلسطينية أو أن تجمد بناء المستوطنات أو تتوقف عن تشييد الجدار العازل أو أن تطلق سراح سجناء. على رئيس وزراء اسرائيل ايهود اولمرت ان يعلن استعداد حكومته للجلوس مع حكومة عباس - فيّاض على أساس البدء من النهاية وليس على أساس البدء بالإقلاع من أول محطة في خريطة الطريق الى قيام دولة فلسطين بجانب دولة اسرائيل. باختصار، هذا يعني اتخاذ اسرائيل قراراً استراتيجياً بالتوقف عن مطالبة السلطة الفلسطينية بضبط الحالة الأمنية كشرط مسبق للشراكة في المفاوضات وللمفاوضات. العكس هو المطلوب والضروري وبمفهومين: عكس تقليد إثبات القدرة الأمنية كشرط للمفاوضات السياسية بحيث تصبح المفاوضات السياسية الواضحة الأفق عنصراً أساسياً لتمكين السلطة الفلسطينية من الضبط الأمني المطلوب. وعكس مفهوم المفاوضات بحيث تبدأ من منطلق الاتفاق على النتيجة، أي رؤية قيام دولة فلسطين في الضفة الغربيةوغزة والقدس الشرقية على أساس مبدأ تبادل الأراضي والتفاهم على المقدسات بأقرب ما يمكن الى حدود 1967. فإذا تلكأت اسرائيل في ذلك فانها ستحصد ما تزرعه بندم على هدر الفرصة المتاحة لها لا سيما أن حل الدولتين لن يأتي عليها بالطمأنينة حتى ان نفذت البديل عنه الذي يدعو اليه التطرف الاسرائيلي لمعالجة الأزمة الديموغرافية، وهو بديل الطرد الجماعي للفلسطينيين. ولأن هذا البديل خيار مطروح في ذهن قطاع من الاسرائيليين، على السلطة الفلسطينية ان تصعّد نوعياً كي تفرض على اسرائيل حل الدولتين وكي تستبق خطط الترحيل الجماعي. وهذا يتطلب من محمود عباس أن يسير الى نهاية الطريق بعدما قرر اختيار طريق الحزم والحسم تحت أي ظرف كان ومع كل فصيل فلسطيني وهو يترأس السلطة الفلسطينية لجميع الفلسطينيين. فلا خيار آخر أمامه وأمام حكومة فياض لأن هذه ليست معركة جانبية أو هامشية. انها المعركة المصيرية للشعب الفلسطيني وخياراته بين السلطة والفصائل وبين الدولة والطرد الجماعي.