ما حدث في غزة مأساة. وهي ليست المأساة الأولى في تاريخنا القريب، ولن تكون المأساة الأخيرة ؛ في سياق هذا الوعي السياسي الأصولي، الذي بدأ يتسلل في مفاصل القرار العربي والإسلامي. ما بعد الظاهرة الصوتية العروبوية المضللة، توقعنا أن تدار حركات المقاومة بشيء من الواقعية السياسية، وأن تتراجع الأقوال لصالح الأفعال، وأن نعي الحدود الفاصلة بين الممكن والمستحيل. ولكن - للأسف - تلقف الراية من هو أشد من العروبوية راديكالية، وأرفع منها صوتا، وأقدر منها على الاختناق في أنفاق المستحيل. منذ الانقلاب الحمساوي على السلطة، والقضية الفلسطينية تسير في الاتجاه السالب. فليس الخلاف الانقلابي مجرد شقاق عابر بين الأشقاء، يخسر فيه هذا الطرف لصالح الطرف الآخر، وإنما هو ضرب - غير مسؤول - في مصداقية القضية الفلسطينية، بل وفي مصداقية القرار الفلسطيني. فلا يدري العالم، مع من يتعامل، ولا من يوكل إليه تنفيذ الاتفاقيات، ومن الضامن لتنفيذها. وهذا ما تزعمه إسرائيل منذ بدايات التفاوض، ويصدقه - للأسف - الواقع الفلسطيني الراهن، الذي صنعته حماس، ليس في الرسالة التي بعثت بها من خلال انقلابها الشهير، وإنما من خلال الرسائل الصريحة التي تصدرها في سياق هذا الانقلاب. لماذا تفعل حماس ما تفعل ؛ وهي تدرك أنها ليست بقوة إسرائيل ؟. هذا سؤال طرحه الدكتور: تركي الحمد، في مقاله هذا الأسبوع، المنشور في الشرق الأوسط، عن الأزمة الراهنة. وقد أجاب بأن المسألة لم تعد مسألة فلسطين، وإنما مسألة حماس، أي أن الأولوية لبقاء حماس في السلطة، وليست - في نظر الحمساويين - مسألة فلسطين، ولا رفع المعاناة عن الفلسطينيين. وهذا واقع منظور، تؤكده جميع الخطوات الحمساوية، بل ويؤكده لحن التصاريح الحمساوية أحيانا. لكن، في ظني أن هناك بعداً آخر ؛ يتفرع من هذا التحول في الرؤية الحمساوية الراهنة، التي تضحي بفلسطين، أرضاَ وشعباً من أجل حماس كحركة وإيديولوجيا، وهو أن القرار الحمساوي لم يعد بيد حماس، وإنما أصبح ورقة في يد قوى أخرى خارج الهم الوطني الفلسطيني. وحماس تضطر لرهن قرارها على هذه الدرجة التي تقدم فيها الضحايا من أبناء شعبها ؛ لأنها تريد ضمان الدعم من هذه القوى، وهو الدعم الذي سيبقي حماس قوية وصامدة، ليس ضد إسرائيل، فلم تعد إسرائيل قضيتها في العمق، وإنما ضد الفريق الآخر من شعبها. وهكذا تتراجع فلسطين أرضاً وشعباً، إلى أن تصبح أداة يلعب عليها - أو بها - الآخرون. كل هذا التأزم، والاضطراب في الوعي، والتيه في بحر الخيارات المصيرية، وعدم فهم الذات ؛ فضلا عن فهم الآخر، ليس بدعاً في الوعي السياسي العربي الراهن. فعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، شهدت الأوطان العربية فيضاناً من الانقلابات العسكرية. وهي الانقلابات المراهقة، التي رفعت شعارات: الثورة والبعث..إلخ. لكنها لم تكتفِ بالفشل التام في تحقيق الحد الأدنى من الشعارات الخادعة، وإنما - كما في الحال الحمساوية - تحولت الثورة أو الحزب إلى أولوية، وتمت التضحية بالأوطان والشعوب ؛ لصالح الثورة، ومن أجل تأمينها من كيد الكائدين وأعين الحاسدين!. ربما هذه طبيعة القوة المادية، أو العكسرة، عندما تجد نفسها في مقابل واقع يفرض عليها أولويات عقلية، لها حسابات خاصة، لا تنفع معها كثيرا القوة، سواء كانت قوة حقيقية أو مدعاة. إن تلك الثورات استطاعت - كما هي حال حماس - أن تقوم بالانقلاب، بفضل قوة الذراع، وتوفر أدوات البطش. لكنها بعد أن وجدت نفسها في كرسي الحكم، كان عليها أن تواجه أموراً سياسية وتنموية، تدار بقوة العقل وليس بقوة الذراع، وهي لا تملك غير الذراع العسكرية. وهذا هو واقع حماس اليوم، فهي لا تمتلك أكثر من الاستعداد للموت. عالم اليوم لا يدار بالقوة أو العسكرة، كما كانت الامبراطوريات تفعل. بل وحتى عندما تكون القوة حاضرة، فلا بد أن يكون هناك عقل/ وعي بإزائها، يتفوق عليها من حيث مستواه، ومن حيث طبيعة نفوذه. ولهذا كانت وزارة الدفاع في الدولة الحديثة، مجرد جزء من إدارة حكومية مدنية، يحكمها العقل بالدرجة الأولى، وتنجح بقدر ما تتراجع فيها أهمية الهيمنة المادية، لصالح هيمنة الممارسات العقلية التي تصنع الحياة. مأساة حماس، ومن جرائها مأساة فلسطين، أنها - في خضم خطاب المقاومة والصمود - جهلت أو تجاهلت هذه الحقيقة، وتصورت أن شعبيتها التي كسبتها من خلال المقاومة، ستضمن لها النجاح على المستوى السياسي، أي في مشروع الدولة الفلسطينية الواعدة. ما لم تدركه حماس، ولا مشايعوها، أن القضية لم تعد قضية قوة. فلا أحد يزعم أن حماس - كقوة معسكرة - تستطيع أن تؤثر في موازنة القوى، مع القوة الإسرائيلية، فضلا عن الصمود في مواجهتها. حتى حماس، تدرك أن ما تقوم به مجرد شغب، ولفت نظر، لا أكثر. ولو أن حماس تشعر أن قوتها شيء بإزاء القوة الإسرائيلية، لكانت - تحت ضغط الحصار - توجهت للهجوم على معابر غزة مع إسرائيل، بدل أن تهاجم معابرها مع أشقائها في الجانب المصري، وتوقعهم في حرج دولي كبير. إنها فعلت ذلك - أي توجهت في اتجاه مصر، بدل إسرائيل- لأنها تعي أن الجانب الإسرائيلي كان سيتعامل معها بمنطق القوة، وقوتها لاشيء في هذه الحال، بينما الجانب المصري لا يستطيع أن يتعامل إلا بمنطق الشقيق، حتى ولو اضطرت الظروف لاستخدام شيء من القوة المشروعة ؛ لحماية حدوده. حماس - وعت أو لم تع - اكتسبت وجودها من خلال تجنيدها الأتباع في سبيل الموت. وهذا الفعل لا يحتاج لوعي تراكمي ناضج، بقدر ما يحتاج لقدرة على استخدام الباعث الوجداني، المتمثل في شعار: الشهادة. مشروع حماس، كان يمكن أن يكون نافعا، لو كان الأمر مجرد مواجهة عسكرية شاملة ؛ لأنه مشروع: موت. فالمتاجرة بالموت أمر واضح منذ بداية المشروع الحمساوي. وما حملهم الجثث المكشوفة في مسيرات التشييع، في سلوك لا إنساني، يمتهن كرامة الأموات، إلا دليل على أن الرؤية الحمساوية قامت على أساس الاستعداد للموت، بينما يريده الفلسطينيون الآن، ليس الموت، وإنما الحياة. يريدون وطناً، يصنعونه لحياتهم وحياة أبنائهم، وليس الرهان على جواد الموت الخاسر. لكن، يبقى السؤال: لماذا صوت الفلسطينيون لحماس ؟. وهو الفوز الانتخابي الذي تتمسح به حكومة حماس المقالة، والذي انتخبت فيه على أساس الدستور الذي أقيلت بقوة مواده، فقبلت الفوز، ورفضت الإقالة. وكل ذلك في سياق تشبث ساذج بالسلطة، قبل أن تكون سلطة، فكيف لو كانت ؟!. لكن، يبقى السؤال: لماذا فازت حماس ؟. لا جواب على هذا، إلا بالرجوع لطبيعة التفكير العربي في هذا السياق. فطبيعة هذا التفكير، لا تميز بين تنوع المهارات، ولا ظرفية الاحتياج. فمن يتقن شيئاً، أو لديه الاستعداد الخاص لفعل خاص، يتم التعامل معه وكأنه يتقن كل شيء، ومستعد لأي شيء. وهذا ما نراه في كثير من المجالات، حيث يطلب من الناجح في مهارات التصنيع أن يدير المؤسسات الكبرى بنجاح مماثل، كما يطلب من الطبيب الناجح في تخصصه الدقيق، أن يدير مستشفى عام، وكما يطلب من كاتب الرواية أن يتقن التمثيل والإخراج، بل وإدارة الإنتاج. بينما هذه مهارات متباينة، وقدرات خاصة، كل منها في مجاله، ولا يعني النجاح في أي منها، حتمية النجاح في الجميع. لقد فازت حماس على أساس من الحماس النضالي، الذي كفلته لها، قدرتها على التجييش ضد المحتل، على درجة الاستعداد للموت. ونجحت حماس في صناعة الكوادر الراضية بتقديم أرواحها على مذبح النضال. لكن، هذا شيء، وإدارة علاقات، يراد لها أن تنتهي بالسلام شيء آخر. بل إن مجرد القبول بالسلطة، فضلاً عن التقدم لها، يعني أن التميز الحمساوي: الاستعداد للموت، لم يعد واردا في السياق، فلأي شيء تعمل حماس، وعلى أي شيء كان التصويت ؟. راديكالية حماس، نجحت في حشد الجماهير، ليس بسبب أن الجماهير تطرب لمثل هذا فحسب، وإنما لأن السياسة الإسرائيلية في المفاوضات كانت تقود إلى اليأس أيضا. لقد كان التصويت لحماس يشبه الهروب إلى الهاوية من الهاوية. ولكن الناخب الفلسطيني لم يكن يدرك - في البداية على الأقل - أن خطاب حماس مأساوي إلى هذه الدرجة، بل تصور مستقبلها السياسي على ضوء نضالها وتضحياتها ؛ عندما كانت في المعارضة. والمعارضة شيء، والحكم شيء آخر. بفضل حماس وسياسة حماس، تحولت غزة إلى جحيم، يحاول جميع من فيها الهروب منها. ومع هذا، وفي صورة عناد غير مسؤول، تأبى حماس الاعتراف بأنها سبب المأساة. وكيف لا يتم ذلك، وأمامها المشجب العتيد الذي يتحمل جميع الخطايا، لا خطايا حماس فحسب، بل إخفاقات العرب جميعا: إسرائيل. تقول حماس: إسرائيل هي السبب. لكنها لا تسأل نفسها: لماذا تحولت غزة على يديها إلى هذه الحال المأساوية، مع أن إسرائيل كانت موجودة من قبلها - إبان حكومة فتح - ولم يكن ثمة مأساة على هذا النحو الكارثي ؟. هذه الكارثة، لم تأت من مصادفات، وإنما هي نتيجة حتمية لنمط من التفكير الأصولي الراديكالي. فحين يتوقع أن تكون الكارثة قد حركت حماس ؛ كي تفيق من سباتها العميق، تحكي الأفعال والأقوال الحمساوية أن هناك دروشة في التفكير السياسي الحمساوي. فحين هاجمت حماس الحدود المصرية، صرح الزعيم الحمساوي: خالد مشعل، أن الهجوم ليس موجهاً إلى مصر. حقيقة، إنها عقلية ( صدام حسينية )، تهاجم مصر، وتقتحم حدودها، ثم تقول: إن مصر ليست المقصودة بالهجوم، كما كان صدام حسين يهاجم الكويت، وهو يدعي أنه لا يهاجم دولة عربية، وإنما يهاجم: إسرائيل!. للأسف، هكذا هو التفكير الأصولي والعروبوي. فكل شيء مباح، وإسرائيل عدو كبير، يستطيع تحمل كل أخطائنا وجرائمنا. ليس هذا مجرد وعي محصور في حماس فحسب، بل هو نمط الرعونة السائد في الوعي العربي ؛ بدليل أن المراقب للإعلام العربي، لا يجد محاسبة حقيقية لحماس، ولا أمثالها من القوى الأصولية التي تفكر بقوة الذراع، لا بقوة العقل، والتي تمتد من الجزائر حتى اليمن، مروراً بمصر ولبنان والعراق. بينما تتصاعد الأزمة في غزة، وتصل حد الكارثة الإنسانية المروعة، يطل علينا الإعلام العربي - في شقه الأكبر: الأصولي والعروبوي - طالباً من غزة الصمود، ومغررا بالزعامات الحمساوية التي تتراقص على إيقاع هذا الإعلام الشعاراتي الفاشل. بينما يتمتع هؤلاء الإعلاميون بغرف البث المكيفة، والاستضافة بآلاف الدولارات، وفنادق السبعة نجوم!، يؤيدون - بطريق غير مباشر - إزهاق البقية الباقية من رمق الحياة في غزة. ويزداد الأمر سوءاً، عندما ترفض حماس، إشراف السلطة الوطنية على المعابر، فتضحي بشعبها، لمجرد السيطرة، وعدم التضحية ولو بقليل من النفوذ. وهكذا تتصارع السلطة وحماس وإسرائيل، والضحية من بين كل هؤلاء، هو الشعب الفلسطيني الشقيق.