إنه يوم جمعة، ومسجد أبو عبيدة يكتظ بالمصلّين. لا تقل الخطبة التي يلقيها إمام المسجد غضباً وانفعالاً، أو حتى معاداة لإسرائيل، عن أي خطبة أخرى تُلقى هذه الأيام في أرجاء العالم الإسلامي. لكن مسجد أبو عبيدة يقع في أم الفحم، وأم الفحم بلدة تقع داخل إسرائيل. أكثر من مليون فلسطيني ممن لم يرحّلوا عام 1948، هم اليوم مواطنون في الدولة العبرية يتباهى المدافعون عن إسرائيل في الخارج بوجودهم فيها، في حين أنه بالكاد يرحب بهم في الداخل. ويناقش المفكرون والسياسيون علناً احتمال ترحيلهم أو"نقلهم"الى دولة الضفة الغربية. ويشكّل هؤلاء 20 في المئة من سكان إسرائيل، غير أنّ وضعهم القانوني هو الأسوأ مقارنة ببقية السكان، ما دفع بأورين يفتاشل، وهو أستاذ جامعي إسرائيلي، الى نعت إسرائيل ب"الدولة الاثنوقراطية"التي تقوم على نظام غير ديموقراطي تمسك فيه مجموعة إثنية واحدة بمقاليد الحكم. ويحل التمييز الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المنتظم مكان فترات الحكم العسكري الأولى، فأراضي الفلسطينيين تُسرق في شكل مطرد، وحقهم في امتلاك معظم الأراضي التابعة للدولة مهدور، وحصة بلداتهم وقراهم من الموارد العامة ضئيلة جداً بالنسبة الى حصة جيرانهم اليهود، إضافة الى أنهم يعيشون تحت مراقبة جهاز الأمن العام الذي يتدخل حتى في تعيين الأساتذة في المدارس الفلسطينية. في تشرين الأول اكتوبر من عام 2000، تظاهر المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل ضد القمع الوحشي للانتفاضة الثانية. وأطلقت الشرطة الإسرائيلية ذخائر حية على المتظاهرين، فأسقطت 13 منهم. ودانت لجنة التحقيق عقب الحادث معاملة الدولة"المهملة والتمييزية"لمواطنيها الفلسطينيين. وفي عام 2003، سنّ الكنيست قانوناً، يُجدَّد سنوياً، ويحظّر على فلسطينيي الضفة الغربية أو غزة، الذين يتزوجون من مواطنين إسرائيليين، العيش داخل إسرائيل. وكتب آموس شوكن، ناشر صحيفة"هاآرتس"في هذا الشأن"إن إدراج هذا القانون في المراجع الرسمية يحوّل إسرائيل الى دولة تمارس سياسة الفصل العنصري". ويستحيل أن تكون الهوة بين المواطنين الإسرائيليين من اليهود والفلسطينيين أوسع مما هي عليه اليوم، ويظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة تل أبيب أن 94 في المئة من اليهود الإسرائيليين دعموا الحرب الأخيرة على غزة، و70 في المئة منهم دعموا الاجتياح البري، في حين أن 90 في المئة منهم رأوا أنه ينبغي على إسرائيل مواصلة حربها حتى تحقق أهدافها، أياً كانت هذه الأهداف. وعلى نحو غير مفاجئ، عارض 85 في المئة من الفلسطينيين الإسرائيليين الحرب منذ البداية، ودان نوابهم بشدة تلك الحرب. وفي الأسبوع الماضي، منعت لجنة الانتخابات المركزية الإسرائيلية الأحزاب السياسية الفلسطينية في إسرائيل من المشاركة في الانتخابات فيما قال أفيغدور ليبرمان، النائب في الكنيست والذي كان عضواً في حكومة إيهود أولمرت حتى مطلع عام 2008، يوم الثلثاء الماضي:"ينبغي أن نعامل بعض النواب العرب في الكنيست كما عاملنا حماس". وتماماً كما هي الحال بالنسبة إلى معظم البلدات الفلسطينية الموجودة داخل إسرائيل، وقعت أم الفحم ضحية الإهمال. فالنفايات متناثرة في شوارعها، لأن البلدية لا تجمعها كما تفعل في البلدات اليهودية. وتقع أم الفحم على تلال منحدرة، وفي أعلى نقطة فيها، على مقربة من حديقة عامة للأطفال، اعتاد الصبية اللعب مع حصان عربي نحيل. وعلى المنحدر باتجاه الغرب، أقيم سياج شكل الحدود بين أم الفحم والضفة الغربية. وعلى عكس أي مكان آخر، لم تكن الحدود هنا من الإسمنت، ما دفع أحد ممثلي الحركة الإسلامية الى التساؤل:"لماذا هذا المكان بالتحديد؟ يبدو الأمر غريباً ومثيراً للشك". لكن كلانا استنتج أن الأمر يعزى الى رغبة إسرائيل بإخراج البلدة من نطاق السلطة الإسرائيلية ونقلها الى داخل الضفة الغربية، سعياً الى تقليص عدد السكان العرب داخل حدودها. كانت مستوطنة شاكد تطل من الناحية الأخرى من السياج. وعند النظر الى البلدة، يمكن تحديد مواقع المساجد ال25 لحظة تعلو أصوات المآذن. لم يضيّع الشيخ رائد صلاح إمام مسجد أبو عبيدة ورئيس الحركة الإسلامية المثير للجدال، وقته في المقدمات المطولة أو الأساطير الدينية. فالجملة الأولى من خطبته كانت عن الحرب على غزة، وتابع كلامه حول الموضوع نفسه. بدأ الشيخ بالحديث عن الهجوم الصهيوني الهمجي والاحتلال الإسرائيلي الوحشي، مؤكداً لحشد المؤمنين أن"حقهم كفلسطينيين وعرب ومسلمين وبشر سينتصر". وأخبرهم أيضاً أنّه رأى الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، الذي فاز بجائزة"نوبل"، يبرر قصف الإسرائيليين للمساجد ومن يصلي فيها، ثم صرخ بأعلى صوته قائلاً:"لقد برر تلك الجرائم وأعمال التدمير المريبة!". وشرح قائلاً إن موقف بيريز لم يكن جديداً، ذاك أن سلفه اليهودي سلام ابن أبي الحقيق، كان أحد زعماء قبيلة بني النظير التي قاتلت النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين في معركة خيبر. وقال الشيخ:"على رغم أنه كان يحمل اسم"سلام"، إلا أنه حرّض على الحرب ضد النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم". وقارن الشيخ صلاح الإسرائيليين بتلك الجيوش التي حاربت النبي محمد في الأيام الأولى لبروز المجتمع الإسلامي، مؤكداً أن"هؤلاء الأعداء أنفسهم يحاولون اليوم تدمير مشروع المقاومة والصمود الذي يجرؤ على قول"لا"لبوش، وباراك، وأولمرت، و"لا"لليفني، و"لا"للاستسلام"، و"لا"للخيانة". وأضاف وقد ارتفع صوته كثيراً:"الشعار الصهيوني الوقح يبرر اليوم الهجمات نفسها التي تشن على المجتمع الإسلامي. يقولون إنهم يريدون وضع حد للإرهاب الفلسطيني والإسلامي في غزة، لكن غزة محاصرة وكل شرايين الحياة فيها مقطوعة". ووجد الناس في غزة أن الحل الوحيد هو نفسه الذي لجأ إليه النبي وأتباعه عندما وقعوا تحت الحصار. ففي تلك الحقبة، أقام المسلم سلمان الفارسي خنادق للدفاع عن المسلمين المحاصرين، واليوم أيضاً، بنى سكان غزة الخنادق. لقد أراد الإسرائيليون تدمير كل الأنفاق كي يتمكنوا من محاصرة القطاع. كانت المقارنة بين سلمان الفارسي وسلام ابن أبي الحقيق مرجعاً ناجحاً وذكياً لجذب الحضور وتأكيد أن الحرب"لم تكن ضد اليهود، بل ضد الخيانة". وكما انهال العدو بالسهام على أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ذاك الزمن، ها هو اليوم التاريخ يعيد نفسه في غزة، التي تتعرض للهجوم على مدار الساعة كما حصل في المدينةالمنورة. وتساءل الشيخ صلاح في هذا السياق:"ما كان ميزان القوى في تلك الحقبة؟ أتى 10 آلاف جندي لتدمير المدينة التي كانت تضم ما لا يتعدى الألف جندي في الصفوف الإسلامية. كان الوضع اختباراً للمقاومة فانقسمت الى قسمين". حافظ القسم الأول على إيمانه بالله، فيما أصبح القسم الثاني مجموعة من الخبثاء. وأتى الشيخ صلاح على ذكر رجل من غزة، بقي يؤكد بالفم الملآن أن الإسرائيليين يعجزون عن القضاء على قناعات الأهالي وقلوبهم، على رغم أنه فقد كل أفراد عائلته. كما تحدث عن امرأة من أهالي غزة فقدت أبناءها، لكنها شددت على أن السكان حافظوا على صمودهم وأنهم سينتصرون على الاحتلال، على رغم الصمت. وهنا، علت نبرته فصرخ مذكراً حشد المؤمنين بأن البيت الأبيض يرتكب المذابح في حق المسلمين في الصومال والعراق وأفغانستان وفلسطين. وقال:"اغتال الإسرائيليون الشيخ أحمد ياسين، كما اغتالوا عبدالعزيز الرنتيسي، وغيره وغيره، حتى إنهم قالوا إن المقاومة ستنتهي لا محال، وما زالوا حتى اليوم على طريقة تفكيرهم السخيفة تلك القائمة على تصفية قادة المقاومة. في الأمس قتلوا نزار ريان، وما زالوا يستهدفون غيره من القادة، مستمرين على النهج الغبي ذاته". لكن كل ذلك لم يضعف المقاومة على الإطلاق. في المدينة، سعى بعض أتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم الى التفاوض، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم أكد أن الرد الوحيد على أعدائه يكمن في حدّ السيف. وفي السياق نفسه، تابع الشيخ صلاح:"اليوم، تعج الساحة بالمفاوضات، وبأبطالها"، غير أن أهالي غزة يملكون الحق في رفض أي مفاوضات لا تليق بكرامتهم ولا تتماشى مع حقوقهم. لقد خضع العالم الإسلامي الى الاختبار، لكنه سينتصر. لن يبقى الاحتلال الى ما لا نهاية، كما أن الضفة الغربيةوغزة والقدس ستكون حرة، تماماً مثل بقية المناطق الفلسطينية. سيأتي يوم يضع فيه الله حداً لذلك الاحتلال وينتصر فيه الحق على الباطل"، ودعا الجميع الى المشاركة في التظاهرة التي ستقام في بلدة باقة الغربية المجاورة، سائلاً الله أن ينتقم لشهداء غزة. عند الدخول الى باقة الغربية، وهي بلدة فلسطينية كبيرة في إسرائيل، يستقبلك شبان ينظمون التظاهرة، ويعملون على توحيد وجهة السيارات والمشاة. وفي حلقة وسطية تشكلت بالقرب من أحد المساجد الأساسية في البلدة، شبكت مجموعة من الشبان أياديها لتشكل الصف الأمامي من المسيرة. طُلب من الرجال البقاء في الواجهة، فيما النساء والأطفال بقوا في الصفوف الخلفية حرصاً على سلامتهم. ورفرفت آلاف الأعلام الفلسطينية فوق الرؤوس، ورُفعت صور للأطفال الفلسطينيين الذين ذبحوا على يد الجيش الإسرائيلي، وسارت الحشود المتظاهرة على وقع الدعوات الى محاكمة قادة إسرائيل لارتكابهم جرائم حرب. كما عبّرت لافتات أخرى، كتلك التي حملت شعار"علم واحد. شعب واحد"، عن القومية الفلسطينية. واختار الآلاف من النسوة ارتداء حجاب يعتليه العلم الفلسطيني، في حين غطى آلاف الشبان وجوههم بأوشحة تيمناً بإخوانهم في الضفة وغزة. وهتف الجميع بالشعارات نفسها التي ترددت في أرجاء العالم العربي ذلك اليوم وفي أيام التظاهر السابقة وأبرزها"بالروح، بالدم نفديك يا فلسطين!"،"غزة لن تركع للدبابة والمدفع!"،"اضرب اضرب يا قسام... لا تخلي صهيوني ينام"،"الانتقام الانتقام يا كتائب القسام!"،"يا صهيوني يا خسيس... دم المسلم مش رخيص!". سار الشيخ صلاح جنباً الى جنب مع بقية رجال الدين الفلسطينيين، في حين سار محمد بركة، النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي الى جانب مجموعة من السياسيين. لم تكن إسرائيل تشن حرباً ضد الإرهاب، كما قال بركة، بل كانت تمارس الإرهاب في حق الشعب الفلسطيني. وفي تلك الليلة، لم تذكر القنوات الإخبارية الثلاث الأهم في إسرائيل النبأ، ولم تأتِ على ذكر عشرات آلاف المواطنين الإسرائيليين الذين قاموا بمسيرة ضد الحرب ودعماً لفلسطين. وبقي الخبر مجهولاً من قبل الإسرائيليين اليهود عن قصد، تماماً كما بقيت الجرائم التي ترتكبها حكومتهم في حق الشعب المحاصر والمجوّع والمجرّد من كل ما يملكه في غزة، مجهولة بالنسبة إليهم، هذا الشعب الذي يتألف في غالبيته من لاجئين طردوا من منازلهم خلال نكبة عام 1948. نشر في العدد: 16737 ت.م: 2009-01-30 ص: 21 ط: الرياض