أخذت الذات الشاعرة في دواوين محمود درويش في الانقسام على نفسها منذ أن أخذ شعره يميل إلى التأمل الذاتي، ويستبدل بالعالم الخارجي العالم الداخلي الذي صار مرآة للذات، ومرآة للعالم الخارجي الذي ينعكس عليها في الوقت نفسه وانقسام الذات على نفسها نوع من المعرفة التي تتوجه إلى الذات بالدرجة الأولى، وذلك حين تنشطر الذات، فتغدو فاعلاً للتأمل ومفعولاً له، أو ناظراً ومنظوراً إليه، في العملية التي تزداد بها الذات وعياً بحضورها، وحضور العالم الذي تراه في داخلها وكان من الطبيعي أن يدخل محمود درويش إلى هذا الحال المعرفي مع شعوره باقتراب الموت ليس الموت الآتي من الخارج، غدراً، أو غيلة، أو برصاصة أو قذيفة من الرصاصات والقذائف التي انهمرت على بيروت، عندما حاصرها العدو الإسرائيلي، وإنما الموت المقبل من أعماق الجسد، حيث القلب العليل الذي يؤذن بالموت الذي نجا منه الشاعر في عمليات القلب المفتوح التي نجا من أخطرها، مسجلاً انتصاره في"جدارية"سوف تظل من عيون الشعر العربى، لكن الموت ظل متربصاً، يهدد استمرار الحياة وتواصلها وقد حدس به محمود درويش قبل موته في العملية الأخيرة، وظهر شبحه ملحاً كالهاجس أو الكابوس، وألح على القصائد والنصوص التي ضمها آخر عمل له، نشر بعد موته أعني"أثر الفراشة"حيث نتقرى تفاصيل المدار المغلق الذي تدور فيه الذات الشاعرة، يطاردها موت لم تكف عن مقاومته بشعر، ظل يرفرف حول الشاعر كأنه"أثر الفراشة"الذي أصبح عنواناً للعمل كله. وبديهي أن يغدو انشطار الذات، أو انقسامها على نفسها، حالاً معرفياً يتواصل في"أثر الفراشة"مؤكداً دوره الوظيفي داخل بنية الديوان ونصوصه، فيتسلل داخل شعور الاغتراب عن الوجود الذي يهيمن على العمل، وذلك ابتداء من نص"غريبان"الذي يغدو فيها كل غريب وجهاً على المرآة التي يتطلع إليها قرينه أو من هو إياه، على نحو ما نقرأ في المقطع الأخير يرنو إلى مرآته/ فيرى غريباً مثله/ يرنو إليه وهذا حال معرفي يؤكده نص"جهة المنفي"التي لا يخلو فيها دال المنفي من معنى الاغتراب، حيث لا يملك الغريب إلا اختراع ألفة ما مع مكان ما، وحيث التوحد الذي تتحطم فيه جسور التواصل مع الآخرين الذي يغترب المنفي عنهم، حتى وهو بينهم، فلا يبقى له سوى المدار المغلق للذات التي يفر منها ليعود إليها، مشدوداً إلى نقطة الابتداء التي هي نقطة الانتهاء، وليس ما بينهما سوى البعد عن الذات للاقتراب من الذات، في الحال الذي يصفه الشاعر بقوله"أترك الجانب الآخر من حياتي، حيث يريد الإقامة وأتبع ما تبقى من حياتي بحثاً عن الجانب الآخر منها"هكذا نصل إلى الثنائية التي هي تعبير عن الواحدية، والوضع البلاغي الذي كان القدماء يخصونه باصطلاح"التجريد"ويعنون به أن تشتق الذات، أو تجرِّدُ، من نفسها ما هو غيرها ظاهرياً، لكنه ليس إلا إياه لاعتبارات بلاغية عددوها في أمثال بيت المتنبي لا خيل عندك تهديها ولا مال/ فليُسعد النطق إن لم تسعف الحال وقبله الأعشى ودّع هريرة إنّ الركب مرتَحِلُ/ وهل تطيق وداعا أيها الرجُلُ وعرّفوه بأنه مخاطبة الإنسان لنفسه كأنها تقابله، أو مخاطبة الإنسان نفسه كأنه يقاول غيره، أو إخلاص الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك، أو أن تجرّد من نفسك ما تخاطبه كأنه غيرك وكلها تعريفات تنطوي، في النهاية، على معنى انشطار الذات، لكن خلال مخاطبتها غيرها والمقصود إياها، وهو ما نجده في قصيدة"ما أنا إلا هو"حيث نقرأ: بعيداً، وراء خطاه/ ذئاب تعضّ شعاع القمر/ بعيداً أمام خطاه/ نجوم تضيء أعالي الشجر/ وفي القرب منه/ دم نازف من عروق الحجر/ لذلك، يمشي ويمشي ويمشي/ إلى أن يذوب تمامه/ ويشرب الظل عند نهاية هذا. والأسطر تومئ إلى عتمةٍ يمضي فيها المتوحد، في طريق أغلب ما فيه لا يوحي بالاطمئنان، ابتداء من الذئاب التي تعض شعاع القمر، والدم النازف من عروق الشجر، والظل الذي يشرب الكائن، أو يذوب فيه الكائن فلا يبقى له أثر ويتأكد معنى التوحد بالاستعارة التي تنوس بين الترشيح تأكيد صفات المشبه به والتجريد تأكيد صفات المشبه وذلك في السياق الذي يؤكد ضمير الغائب المتكرر، ضمناً، عبر المقاطع الأربعة، بما يخلق نوعاً من التصديق بالواحدية، لكن تأتي المفاجأة الدلالية في المقطع الأخير، حيث تنكشف الواحدية عن ثنائية، فنقرأ: وما أنا إلا هو/ وما هو إلا أنا/ في اختلاف الصور. ويتكرر التضمين دالاً في"شخص يطارد نفسه"التي تبدأ بالتشبيه الذي يوهم الغيرية"كما لو كنت غيرك سادراً لم تنتظر أحداً"ثم تتأكد الغيرية كأنها نوع من مغادرة وهم المشابهة إلى واقع الثنائية لو كنت أنت أنا لقلت لك انتظرني عند قارعة الغروب وتمضي الأسطر في هذا الاتجاه الدلالي إلى أن ينقلب الاتجاه، فنقرأ: ومشينا خلفك حائراً والشمس غابت خلفنا ودنوت منك فلم أجدك أكنت وحدي دون أن أدري بأني كنت وحدي؟ لم تقل إحدى النساء هناك شخص يطارد نفسه والجملة الأخيرة ليست مفتاح دلالات القصيدة فحسب، ولكنها قرينة بلاغية على الحال المعرفي الذي أتحدث عنه، حيث الذات تطارد نفسها كي تعرف المزيد من أسرار حضورها، وأبعاد وجودها في كون اغترابها ومنفاها الذي يجعلها تنكفئ على نفسها، مرتحلة في وعيها دون كلل، كأنها تطارد ما هو بعيد في أعماقها كي يبين ويتكشف، وما هو مراوغ في شعورها كي تمسك به كما لو كان طريدة، من يمسك بها يفز بالمعرفة التي تغري بالمزيد من الكشف، لا يدرك من يبحر فيها سوى أنه على الأعراف، في نوع من الحيرة التي تدفع إلى الظن ظننت أني أحلم بأني هنا ولست هنا أو السؤال هل حصل فصام في ذاكرتي؟ هل انفصل وجودى لنفسي عن وجودي الفيزيائي؟ وما بين الظن والسؤال تبقى الحيرة قرينة الأسئلة التي لا إجابة عليها في الفضاء الداخلي للذات، حيث اللاانتباه قسيم الحيرة، خصوصاً حين نقرأ: أرى ما أرى دون أن أنتبه وإذ لا أرى ما أرى يورطني القلب به وأحيا كأني أنا أو سواي ولا أنتبه. والنتيجة هي وعي الوعي أنه اثنان، كل منهما يطارد الآخر، وكل منهما لا يكتمل له فهم الآخر الذي لا يعرف أهو قرين أو نقيض؟ ما يتم به الاكتمال أو النقصان؟ كل ما يعرفه هذا الوعي هو وضع المناصفة التي يحياها، متوتراً بها، ومصلوباً عليها، كأنها قدر وجوده وشرط حضوره، والمرآة التي ينوس ما بين نصفين فيها، والنصفان هما إياه في مدار كل ما فيه"مناصفة"يؤكدها التجريد تحيا مناصفةً لا أنتَ أنتَ، ولا سواكَ أين"أنا"في عتمة الشبهِ؟ كأني شبح يمشى إلى شبح فلا أكون سوى شخص مررت به خرجت من صورتي الأولى لأدركه فصاح حين اختفي يا ذاتي انتبهي"هل نحن إزاء رمزية"المرآة"بمعناها المعرفي في الفكر الصوفي وميراثه؟ الأمر ممكن في تفاعل الدلالات، شريطة أن نفهم رمزية المرآة بما لا يبعدنا عن لوازمها الصوفية من ناحية، والتجريد أداتها البلاغية من ناحية ثانية ودال البدء بالتجريد الذي يؤدي معنى الانقسام أو المناصفة، يؤكد مدى الاستدارة التي تنتقل من الشبيه إلى الشبيه، على مستوى ضمير المخاطب، إلى"الأنا"التي تغدو صورة لغيرها في التباس الشبه الذي يتقافز ما بين الذاتية والغيرية، في العتمة التي ترد كليهما على غيره، فيغدو كلاهما شبحين، خرج أولهما من ثانيهما، والعكس صحيح بالقدر نفسه، فنحن في حال ظاهرها هو باطنها، وباطنها هو ظاهرها وكلاهما خرج من صورة أولى، أوقعت بينهما اتحاداً في الجوهر لا المظهر، ولذلك يبحث كلاهما عن شبيهه الذي هو إياه، في دعوة إلى ضرورة انتباه الذات التي إذا انتبهت عرفت، وإذا عرفت خرجت من شرك المناصفة إلى ما يجعلها تتأملها في حضورها الذي قد يغتني بمحصلة تأملها. هكذا تغدو الذات الشعرية ذاتاً مرتحلة في المابين، هدفها الذي يربطها بغيرها هو المعرفة التي تتبادلها وقرناءها في الرحلة إلى المعنى ومطاردته على السواء ومرة أخرى، تتكرر دلالة المنفى والاغتراب لتقترن بدلالة السفر في الشعور واللا شعور، في صحبة الراحلين المبدعين إلى المعنى ولقد استخدم الصوفية رمزية الرحلة لتأكيد سعيهم وراء الحقيقة التي لا تتنزل إليهم من المحل الأرفع، بل يجاهدون في سبيلها، متحملين عذاب السفر، والسفر ارتحال في الشعور من أجل الوصول إلى الذي يبين أو لا يبين، يُسْفر عن وجه الحقيقة أو لا يسفر لكنه يجمع بين عشاق هذا النوع من السفر، ويملأ وعي كل مسافر بأنه ليس وحده في الطريق، وإنما هو ضمن كثيرين، وذلك على النحو الذي وصفه أحد مقاطع"بوليفار سان جيرمان"على النحو التالي جالساً مع بيتر بروك، تحلق فوقنا طيور أرسطوفان وفريد الدين العطار في رحلة مشتركة إلى تخوم المعنى وليس من الضروري أن تكون إشارة الجلوس مع بيتر بروك حقيقية، فمن الممكن أن نقرأها بصفتها مجازاً، ونصله برفيقه الساخر القديم، أرسطوفان، ونصل كليهما بفريد الدين العطار الذي يقودنا إلى"منطق الطير"في مدى الرمزية الصوفية، فيذكرنا بدلالة"الهدهد"الذي كان عنوانًا لإحدى قصائد محمود درويش، ولكن بما لا يبعدنا عن الدلالات المتجاوبة لكل من الرحلة والسفر التي تتحرك في علاقات تضم إليها الغربة والمنفى. * كاتب مصري نشر في العدد: 16722 ت.م: 15-01-2009 ص: 23 ط: الرياض