قبل أيام جابت"مسيرة النعوش"شوارع العاصمة اللبنانيةبيروت. اخترقت سكون المنازل والمحال التجارية المستيقظة لتوّها من"سكرة"أعياد نغّصتها مشاهد"السادية"الاسرائيلية في غزة. شبان وشابات حملوا النعوش السود على أكتافهم وهتفوا صوتاً واحداً"كلنا غزة"في مشهد رمزي عكس صورة الموت"المجاني"الذي يتعرض له أطفال غزة. شقّت المسيرة طريقها في منطقة فردان، أحد شوارع بيروت الراقية، حيث تصطف المقاهي على الجانبين ويستسلم روادها لأشعة الشمس الدافئة. التفت الجميع الى تلك الاصوات الصاعدة من الحناجر الملتهبة، وتأهب البعض لملاقاة التظاهرة في نصف طريقها تاركاً فنجان قهوته على الطاولة تضامناً... ولو لبضع دقائق فقط. أمتار قليلة فصلت بين من حمل"القضية"على أكتافه فشارك في مسيرة النعوش، وبين من لم يقطع برنامج يومياته المعتاد مكتفياً بمشاهدة الحدث"من بعيد"، على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد، من دون أن يدخل طرفاً في معادلة"التأثير الاحتجاجي على الأرض". أحمد 49 عاماً ونجله وليد 13 عاماً كانا من الذين استغنوا عن جلسة الاسترخاء الصباحية من أجل الالتحاق بالتظاهرة، هي بمثابة وقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء غزة ودعوة"شخصية"الى وقف حمام الدم. بكلمات بسيطة شرح أحمد لنجله الغاية من المشاركة في المسيرة، والسبب في عدم مواكبتها حتى مبنى"الاسكوا"في وسط بيروت والسفارة المصرية في بئر حسن. ولم تكن مهمة الشرح صعبة كثيراً لأن وليد، برأي والده، لم تُمح من ذاكرته بعد مشاهد المجازر التي نقلتها شاشات التلفزة خلال الحرب التي شنّتها اسرائيل على لبنان في تموز يوليو 2006 ولا الرعب الذي عاشه أطفال لبنان كما كبارهم على مدى 33 يوماً. قال له ببساطة:"ما حصل في لبنان في السابق يتكرر اليوم في فلسطين، وواجب علينا أن نقف ضد قتل الأبرياء". أما قرار أحمد عدم المشاركة في التظاهرة حتى نقطة النهاية، فالاعتبارات احتفظ بها الوالد لنفسه من دون أن يضطر الى سردها أمام ابنه، فالتصادم مع القوى الأمنية احتمال وارد بالنظر الى منسوب الغضب لدى المشاركين في التظاهرات، لذلك اكتفى بالمشاركة"الرمزية". ويؤكد أحمد أن تجربة حرب تموز علّمته ضرورة اعتماد رقابة قاسية على أولاده في ما يتعلق ب"النقل المباشر"والأخبار التي يبثها التلفزيون عند أحداث من هذا النوع. في حرب تموز كان عمر وليد 11 عاماً وشقيقته مايا 13 عاماً، وفي تلك الأيام السود تشاركا مع أهلهما في معايشة الحرب بكل لحظاتها القاسية. ويعترف الوالد بأن مشاهد المجازر والعنف المفرط أثّرت في تصرفات ولديه بعدما دخلت مفردات الحرب الى قاموس كلامهما وتصرفاتهما. وتجاه ما يحدث اليوم في غزة يفرض أحمد"حظراً"كاملاً على المادة الإعلامية"الدموية"التي يساهم النقل المباشر في تأجيج تداعياتها السلبية على طفليه، لكن مع اعتماده سياسة"عصب العينين"لا يغفل جانب إفهام وليد ومايا، بالقدر الذي يناسب عمرهما، أن الحرب هي رمز الحقد والبشاعة، وأن الظلم هو أكثر ما يؤلم الشعوب. وإذا كان أحمد تمكن من إبعاد عائلته عن معايشة"كأس"غزة"المر"لحظة بلحظة، فإن غالبية اللبنانيين وقعوا أسرى"مسلسل"الدم هناك، وشريحة كبيرة منهم باتت معنية في شكل كامل بقول كلمتها في الشارع، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً. هذا ما ظهر، إن من خلال المتابعة الدقيقة لمجريات الأحداث في غزة عبر وسائل الإعلام والانترنت، أو من خلال المشاركة في الاحتجاجات اليومية التي تشهدها الأراضي اللبنانية. لكن أبعد من المشهد الإعلامي والاحتجاجي العلني، ثمة روايات تخرج من بيوت اللبنانيين وتتفاعل بين ناقليها وقد تنتهي بمبادرة خجولة تحتاج فقط الى من يتبناها. بإلحاح كبير يسأل روني 15 عاماً شقيقه الأكبر عن سبب مطالبة اللاعب البرازيلي كاكا بحماية أطفال غزة. وبما أن كاكا هو اللاعب المفضل لروني، فإن السؤال اكتسب قيمة مضافة:"لماذا يتحدث لاعب كرة قدم عن أطفال غزة؟". كل ما يعلمه روني أن الحرب تدور في غزة، وقد تسنى له قبل انطلاقه الى المدرسة صباحاً وبعد عودته منها مشاهدة التلفزيون وأعطاه فكرة عن مكان يقتل فيه الأطفال والناس من دون أن يعلم السبب. يجيبه شقيقه:"الأطفال في غزة يتعرضون للقتل على يد الاسرائيليين، ونظراً الى أهمية هذا اللاعب البرازيلي، فإن صوته قد يكون مسموعاً". يتحمّس روني للفكرة ويقترح على شقيقه الأكبر مبادرة على شكل سؤال:"هل يمكن أطفال لبنان أن يتظاهروا من أجل أطفال غزة؟"، بالنسبة الى روني، مشروع كهذا يحتاج الى تنظيم"من الكبار"والتنفيذ"على الصغار". نشر في العدد: 16722 ت.م: 15-01-2009 ص: 25 ط: الرياض