ماذا حصد العرب من الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي؟ تفاوت الحصاد من بلد إلى آخر بحسب الأولويات الأوروبية وجاهزية البلدان العربية للإصلاحات الاقتصادية والسياسية. واتسم الأداء العربي باستمرار التشتت، بل التنافس لكسب مغانم على حساب"الشقيق"، فيما كان الأوروبيون منسجمين وموحدي المواقف. ويمكن القول إن تحسين العلاقات السورية - الفرنسية الذي كرسته زيارة الرئيس ساركوزي إلى دمشق بعد توليه رئاسة الاتحاد الأوروبي، شكل العنصر الجديد الذي عبّد الطريق أمام معاودة المفاوضات بين سورية والاتحاد في شأن الشراكة. وبدفع من الرئاسة الفرنسية أخرج الجانبان الوثيقة التي وقعا عليها بالأحرف الأولى في العام 2004 من الأدراج، بعدما كانا علقا الحوار في شأنها في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005. وفي أعقاب زيارة نائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية السيد عبدالله الدردري إلى بروكسيل والاجتماع الذي عقده مع مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد بنيتا فريرو فالدنر اتفق الجانبان على التعديلات التي تعلقت بالتعريفة الجمركية وميقات تفكيكها بالنسبة الى المنتوجات الأوروبية، كذلك عُدلت الحصص الزراعية من الصادرات السورية إلى الاتحاد. ورمت التعديلات إلى المواءمة بين النص القديم والأوضاع الجديدة في سورية خلال السنوات الأربع الأخيرة، علماً أن السوريين كانوا متخوفين من كون اقتصادهم ليس جاهزاً للانفتاح، خصوصاً في ظل خضوع الجهاز المصرفي بالكامل للقطاع العام وغياب المناخ التنافسي من البيئة الاستثمارية المحلية. ورأى محللون أن موافقة الاتحاد الأوروبي على الصيغة المعدلة للاتفاق أتت ثمرة لمفاهمة سورية - أوروبية على الملفين اللبناني والعراقي. لكن ثمار الجهود الفرنسية في هذا المجال والتي تُوجت باتفاق في تشرين الثاني نوفمبر الماضي في بروكسيل، لن تظهر سوى في ظل الرئاسة التشيخية التي تسلمت الرئاسة الأوروبية من فرنسا مطلع العام. فاتفاق الشراكة يحتاج الى تصديق الأعضاء السبعة والعشرين عليه كي يصبح نافذاً. ومع الجزائر حققت الرئاسة الفرنسية نصف تقدم، إذ أعطت دفعة لتنفيذ اتفاق الشراكة، لكنها اعترضت مع بقية الأعضاء على مراجعة بعض بنوده التي اتضح أنها تُضر بالمصالح الجزائرية. وشكل ضمان استمرار تدفق الغاز والنفط الجزائريين إلى أوروبا، وسط الأزمة التي اندلعت مع مجموعة"غازبروم"الروسية العملاقة، بيت القصيد في العلاقات الجزائرية - الأوروبية في ظل الرئاسة الفرنسية. وتأتي الجزائر في المرتبة الثالثة بين مزودي أوروبا بالغاز الطبيعي وفي الثالثة عشر بين مزوديها بالنفط. وفي نوع من الترضية غير المتناسبة مع حجم الخسائر، أعلنت بنيتا فريرو فالدنر في أعقاب زيارة أدتها للجزائر أن الاتحاد يضع في تصرف المؤسسات المحلية ذات الحجمين الصغير والوسط 40 مليون يورو لمساعدتها على اعتماد التقنيات الحديثة في مرحلتي الإنتاج والتسويق. لكن الأهم من ذلك هو مذكرة التفاهم التي توصلت لها مع السلطات الجزائرية والتي خصت ضمان تزويد بلدان أوروبية الغاز الجزائري المُسيل، إضافة الى تعزيز التنسيق الأمني في مكافحة الجماعات الإرهابية والإدارة المشتركة لملف الهجرة، وبخاصة مجابهة الهجرة غير الشرعية نحو بلدان جنوب أوروبا. كذلك حصد الجزائريون من تلك الزيارة موافقة أوروبية على تمويل برامج تعاون في مجال التربية وإصلاح وحدات الجمارك، التي تراجع دورها مع إزالة كثير من الحواجز مع أوروبا في إطار اتفاق الشراكة بين الجانبين. لا للمراجعة وأظهر الأوروبيون حرصا واضحا على دعم"الإصلاحات الاقتصادية"في الجزائر بما يعزز الحرية الاقتصادية ويدعم المؤسسات الخاصة ذات الحجمين الصغير والوسط. وهم ما زالوا يأملون بالتوصل إلى اتفاق أمني خاص ما زالت بنوده محل مفاوضات بين الجانبين منذ فترة طويلة، والأرجح أنه يُتيح تبادل المشتبه بضلوعهم في الإرهاب ومعاودة إدماج التائبين منهم. لكن ما ينبغي تسجيله في شأن العلاقات الجزائرية - الأوروبية أن فالدنر استبعدت بكل صرامة فكرة مراجعة بعض بنود اتفاق الشراكة مع الجزائر الذي دخل مجال التنفيذ في العام 2005. وعلى رغم أن المسؤولين الجزائريين طلبوا تعديل بعض بنوده في المجال التجاري بعدما لاحظوا أن بلدهم يخسر 600 مليون دولار سنوياً جراء التزام تلك البنود، وعلى رغم أن مفوض التجارة الخارجية في الاتحاد بيتر مندلسون أعلن في اختتام زيارة أداها للجزائر في شباط فبراير من العام الماضي أن الاتحاد موافق على ضرورة إدخال تعديلات على بعض بنود الاتفاق، أكدت فالدنر أن الملف طُوي نهائياً بعدما صدقت البلدان الخمسة والعشرين الأعضاء في الاتحاد على صيغته الأولى ... والأخيرة. ويجدر التذكير هنا أن خبراء جزائريين توقعوا أن ترتفع خسائر الجزائر جراء الإلغاء التدريجي للحواجز الجمركية مع أوروبا إلى 3 بلايين دولار من الآن حتى 2017 تاريخ استكمال إزالة جميع الحواجز التجارية بين الجانبين. وانتهزت مصر مشاركتها فرنسا رئاسة الاتحاد المتوسطي لتطلقا معاً اجتماعات في القاهرة لكبار المسؤولين في الدول الأورومتوسطية، بغية وضع خريطة طريق للعلاقات على ضفتي المتوسط حتى 2010 وإزالة معوقات تحرير التجارة بين دول الضفتين، وصولاً إلى إقامة منطقة التجارة الحرة الأورومتوسطية في 2010. وتناولت المناقشات أيضاً المفاوضات الجارية بخصوص إجراء مزيد من التحرير للمنتجات الزراعية والزراعية المصنعة والسمكية، وسبل تقوية التكامل الاقتصادي الجنوبي - الجنوبي، إلى جانب تشجيع الدول المتوسطية على إنشاء نظام للتجارة الإلكترونية والمشاركة في البرامج الأوروبية لنقل التكنولوجيا الحديثة وحماية حقوق الملكية الفكرية. شريك مفضل أما المغرب فاستطاع في ظل الرئاسة الفرنسية أن يكون البلد العربي الأول الذي فاز بمنزلة"الشريك المفضل"للاتحاد. غير أن الأوروبيين أهدوا إسرائيل المنزلة نفسها بدفع من باريس ومباركة من بقية أعضاء الاتحاد. وينبغي التمييز بين المسارين، فالمغرب نفذ إصلاحات اقتصادية منذ الثمانينات جعلت الجهاز المصرفي منفتحاً على الخارج والاقتصاد يتمتع بدرجة متقدمة من المرونة والقدرة على استقطاب الاستثمارات الخارجية. وتعزز هذا الخيار بالإقدام على إصلاحات سياسية بعد رحيل الملك الحسن الثاني، على رغم الحدود التي اتسمت بها في بعض القطاعات وبخاصة الإعلام. وتجاوب الاتحاد الأوروبي، الذي وضع حوافز للطلاب النجباء في استيعاب درس"الإصلاحات"، مع الخطوات المغربية، فمنح الرباط طبقاً لمعايير سياسة الجوار الجديدة التي اعتمدها، منزلة"الشريك المفضل". أما إسرائيل فتجر وراءها سجلاً غير ناصع من دوس الاتفاقات والمواثيق الدولية وانتهاك حقوق الفلسطينيين، بمن فيهم السكان الذين يقطنون داخل الخط الأخضر ويحملون الجنسية الإسرائيلية، ولذلك أثار منحها مرتبة"الشريك المفضل"، برغبة جامحة من ساركوزي، موجة من الاستغراب والاستهجان في كل العالم العربي. حتى السلطة الفلسطينية التي تجد في العادة أعذارا للدولة العبرية أبدت"قلقها الشديد"من الخطوة الأوروبية في غياب أي تقدم في التسوية السياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وفي نوع من التهدئة لردود الفعل العربية التي لم تستطع ممارسة ضغط حقيقي على الأوروبيين عقد الاتحاد مطلع الشهر الماضي في رام الله أول جلسة للحوار السياسي مع السلطة الفلسطينية المنبثق من سياسة الجوار الأوروبية. غير أن الجلسة اقتصرت على ترديد عبارات فضفاضة عن الدفع الذي يمكن أن تُعطيه أوروبا لعملية السلام والدور الذي ينبغي أن تلعبه في اللجنة الرباعية. ولم يستطع التونسيون الفوز بالمكانة التي حصل عليها المغاربة على رغم كونهم أول من توصل إلى اتفاق شراكة مع الاتحاد في السنة 1995. وعزا مسؤولون في المفوضية والبرلمان الأوروبيين حجب الجائزة عن تونس إلى بطء الإصلاحات السياسية، وهذا ما حمل التونسيين على الطلب رسمياً من الاتحاد منحهم مرتبة"الشريك المفضل"خلال اجتماعات مجلس الشراكة في بروكسيل. إلا أن مسؤولين أوروبيين سلموا الجانب التونسي لائحة بالإصلاحات التي ينبغي استيفاؤها كي يستأهلوا تلك المرتبة. اختراقان ويبدو من عرض هذه النماذج التي لم تتسع لإلقاء الضوء على مستجدات مهمة في العلاقات مع ليبيا والأردن ولبنان، أن الرئاسة الفرنسية لم تُحقق اختراقاً سوى في العلاقات مع المغرب وسورية، فيما طغى الكلام المعسول على التعاطي مع البلدان الأخرى. وربما يتناسب هذا مع أسلوب ساركوزي الباحث دوماً عن الأضواء الإعلامية، على عكس بلدان أوروبا الشمالية البراغماتية. ومن المهم الإشارة هُنا إلى أن فرنسا أنفقت خلال ستة أشهر من رئاستها للاتحاد 160 مليون يورو أي ثلاثة أضعاف ما أنفقته الرئاسة السلوفينية التي سبقتها، و16 ضعف ما أنفقته بريطانيا، لكن أقل مما أنفق الألمان الذين صرفوا 180 مليون يورو لدى توليهم الرئاسة الدورية للاتحاد. وخصصت غالبية النفقات للاجتماعات واللقاءات التي تم غالبيتها في مدن فرنسية مختلفة وبخاصة باريس. والثابت أن الوضع سيكون أسوأ مع الرئاسة التشيخية الجديدة للاتحاد والتي وضعت لنفسها ثلاث أولويات هي الاقتصاد أي مجابهة آثار الأزمة المالية، والطاقة التي تعني ضمان التزود بالوقود من روسيا والشرق العالم العربي، وأخيراً علاقات أوروبا والعالم وهنا سيُركز التشيخ على تعزيز الترابط مع أوروبا الشرقية ودول البلقان على حساب الدائرة المتوسطية التي ركزت عليها فرنسا أثناء رئاستها الاتحاد. * صحافي من أسرة"الحياة"