اللقاء الأول مع ميونيخ كان في مطارها الحديث Munich Airport الذي لم أشعر لحظة وصولي إليه انني في مطار أوروبي. بل على العكس، أحسست وكأنني في أي من مطارات البلدان العربية لأنني ما أن دخلت القسم الأول منه، حتى شدت انتباهي لافتات كتب عليها كلمات عربية إلى جانب اللغتين الألمانية والانكليزية. وقد علمت من أحد الموظفين الكبار الذي كان في استقبالي هناك، أن إدارة المطار تولي أهمية خاصة بالمسافرين العرب الذين يمثلون حصة كبيرة من حركة الركاب، ولذلك تم إطلاق خدمة"نحن نتحدث العربية"التي ترد على كافة استفسارات المسافرين العرب على مدار ساعات اليوم. وقال ان هذه الخدمة التي يقدمها مجموعة من الموظفين العرب أسهمت في زيادة حركة المسافرين من دول المنطقة على استخدام مطار ميونيخ خلال رحلاتهم إلى ألمانيا خصوصاً أن الغالبية العظمى من الناقلات الجوية العربية تسيّر رحلات يومية مباشرة إلى ميونيخ. قمت بجولة طويلة داخل أجنحة المطار لأتعرف عن كسب الى ثاني أكبر مطار في ألمانيا بعد مطار فرانكفورت، واعجبت كثيراً بهندسته الرائعة وديكوره المعاصر، الذي تزينه متاجر راقية تحاكي أصحاب الذوق الرفيع وتدعوهم لشراء الهدايا والتذكارات. عندها علمت لماذا حصد المطار العديد من الجوائز القيمة نظراً الى روعة تصاميمه وخدماته الراقية، كما وضع في العام الماضي على قائمة أفضل عشر مطارات في أوروبا من حيث حركة المسافرين التي وصلت إلى 30 مليون مسافر سنوياً. وما ان انهيت جولتي السياحية داخل المطار حتى كان في انتظاري في نقطة الإلتقاء سائق ألماني يرفع بيده لوحة بيضاء كتب عليها اسمي. ارتسمت علامات السعادة على وجهي عندما رحب بي في عاصمة بافاريا، وانطلقنا معاً إلى وسط المدينة وفي قلبي شوق كبير للقاء ميونيخ من جديد، فرحلتي الأخيرة إليها كانت منذ أكثر من سنتين. اليوم الأول توقف السائق أمام فندق"بايريشرهوف"Hotel Bayerischer Hof، الذي ما أن دخلته حتى شدنى الماضي إلى الوراء، وأرجعني إلى تاريخ إفتتاحه عام 1841. إنه بالفعل واحة من العظمة والفخامة، فندق يفوح بعطر الكمال، ومصمم بأروع ما توصل إليه فن الفندقية. وأثناء جولتي في الفندق برفقة احدى الموظفات أخبرتني عن الجوائز العديدة التي حصدها، منها افضل فندق في ميونيخ لرجال الأعمال عام 2008، كما حصل عام 2007 على المرتبة الأولى عن فئة أفضل الفنادق الكلاسيكية في"جائزة الفنادق العالمية". كما أخبرتني أن الفندق يضم 373 غرفة، بينها 60 جناحاً، لكل منها تصميمه الخاص والمميز. أما إقامتي فكانت في الجناح 705. إنه فعلاً جناح غني بألوانه الدافئة وتصاميمه العصرية. جناح فيه كل مستلزمات الراحة والرفاهية التي يحتاجها الزائر. وبينما كنت أتصفح المطبوعات المتاخمة لسريري، اندهشت بالكم الهائل من الوجوه المعروفة عالمياً التي جعلت من"بايريشرهوف"مكان إقامتها أثناء زيارتها للمدينة، بينهم ملوك وأمراء وشخصيات بارزة من العالم العربي. وعند الخامسة عصراً، كنت من أوائل الوافدين إلى مطعم"ترايدر فيكس"Trader Vic"s لتناول المأكولات التي تم تحضيرها على أيدي أمهر الطباخين المختصين بتحضير الأطباق الآسيوية، ومنه تركت الفندق قاصداً ساحة"مارينبلاتز"Marienplatz الجميلة. نسمات من الهواء البارد المحملة بعبير أشجار الأرز المقطوعة للتو من الغابات الألمانية لفحت وجهي وأنا في طريقي إليها. فالطقس كان بارداً، والثلج كان يتساقط بين الحين والآخر ليكسب معطفي الكحلي لوناً جديداً، والمدينة كانت تتزين لإستقبال عيدي الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة. وكانت ميونيخ تكتسي حلة العيد، فالأشجار المصطفة على جانبي الطريق كانت تتلألأ بالزينة الملونة والأنوار البهية لتعطي المدينة مسحة جمالية لا بد من الانبهار عند رؤيتها. وكنت عند كل منعطف القي نظرة على كل ما يدور حولي، وأستمع إلى الأناشيد الفرحة والموسيقى الشجية التي كانت تنبعث من كل حدب وصوب، فينتابني شعور وكأنني جئت لأشارك في تأدية أحد الأدوار السينمائية في فيلم يحكي عن جمال ميونيخ في فصل الشتاء. وصلت الساحة، فبرز أمامي تمثال للسيدة العذراء في وسط الساحة، ويرجع تاريخ تشييده إلى عام 1638 للإحتفاء بتحرير المدينة من القوات السويدية، وحوله تتعانق المباني العتيقة وتتناغم فيما بينها لتجعل من هذا المكان تحفة هندسية تعكس عظمة التاريخ والفن المعماري الذي ساد خلال حقبات مختلفة من تاريخ المدينة. الكل يجتمع في هذه الساحة التاريخية التي تعج بالحياة والحركة. حتى أعضاء فريق نادي"بايرن ميونيخ"الذي يعتبر أشهر نادي كرة قدم ألماني التقيتهم هنا، وأخبرتهم عن اعجابي الكبير بإتقانهم لهذه الرياضة، كما هنأتهم لأنهم يحملون في رصيدهم 4 بطولات في كأس الأندية الأوروبية كان آخرها عام 2001. تركت أعضاء فريق كرة القدم، متمنياً لهم المزيد من النجاح والتألق، ورحت أجول في هذه الساحة المشبعة بأجواء العيد، حيث كانت تحتضن في حناياها سوق عيد الميلاد المعروف"بكريسماس ماركت". أعجبت كثيراً بالأكشاك الخشبية المصطفة قرب بعضها، والتي كان يطل من كل منها أشخاص يستقبلونك بابتسامة عريضة علك تشتري شيئاً ما من منتجاتهم اليدوية. وتمر اللحظات والدقائق في هذه الساحة بكل شاعرية ورومانسية، فأجواء الفرح والغبطة بارزة في كل مكان. الثلج يتساقط، الأغاني تتعالى، والأنوار تتلألأ. هذه هي بعض من ملامح ميونيخ في فصل الشتاء التي تزداد دفئاً عندما تستمعون في دار الأوبرا إلى الموسيقى العالمية لأسياد الموسيقى الألمان. اليوم الثاني أطلت شمس الصباح بخجل، فالضباب كان يخيم على الأجواء، الا أنه مهما اختلفت مواعيد زيارتكم لميونيخ، فإنها تحافظ على صورتها البهية التي تستقبل بها زوارها. وتتربع المدينة إلى جانب برلين على قائمة أكثر المدن الألمانية جاذبية. كلتاهما مدينتان يقطنهما الملايين، غير أنهما تختلفان عن بعضهما اختلافاً كبيراًَ. فبرلين مدينة كبيرة لدرجة تجعلها غير واضحة المعالم، وتتسم بالتجديد لتتماشى مع تقدم العصر. أما ميونيخ فهي نقيض ذلك تماماً، فهي أصغر وأهدأ منها، ويخيم عليها نمط الحياة البطيء، ولذلك يطلق عليها البعض لقب"قرية الملايين". جولة في شارع"ماكسيميليان شتراسه"Maximilianstrasse جعلتني أقف وجهاً لوجه أمام أهم دور الأزياء العالمية، وأمام متاجر الصاغة حيث الذهب والماس والأحجار الكريمة تشع وتتألق في إطار مفعم بالترف والرقي، ولذلك لا عجب أن تكون"الفخامة ثم الفخامة ثم المزيد من الفخامة والترف"هي شعار الشارع. ليس التبضع من مميزات هذا الشارع فقط، بل انه يضم المسرح الوطني، ومجلس الشيوخ في مقاطعة بافاريا، ومبنى البرلمان الذي تسنى لي زيارته عند إنعقاده. ومن أجواء السياسة إلى الهروب إلى أحضان الطبيعة، ومحطتي الجديدة كانت في"الحديقة الانكليزية"English Garden الشاسعة المساحة التي انبسطت أمامي بكل مفاتنها ومحاسنها، فأعجبت به حتماً. إلا ان هذا الإعجاب سيكون رصيده أكبر في موسم الدفء. اختتمت ليلتي الثانية في هذه المدينة برفقة مجموعة من الأصدقاء الذين كانوا ينتظرونني في إحدى"حدائق البيرة"Bierg-rten لتناول طعام العشاء. وقد شرح لي أصدقائي أن هناك العديد من أهل ميونيخ لديهم خزائن حديدية صغيرة داخل كل حديقة لوضع مشروباتهم فيها. وقد توارثوها من آبائهم وأجدادهم، ويحق لهم إحضار مأكولاتهم لتناولها هنا أيضاً. إلى جانب ذلك يحق لهم العزف على الآلات الموسيقية لإدخال البهجة إلى هذه الأماكن التي لا تزال تحافظ على أجوائها السعيدة منذ القرن التاسع عشر. اليوم الثالث تحولت ميونيخ في اليوم الثالث إلى بساط أبيض ساحر. الثلج في كل مكان. كل ذلك لم يعرقل حب المغامرة والاستكشاف الذي ينبض دائماً في داخلي. وكان برنامجي في ذلك اليوم زيارة عدد من القصور الفاخرة التي تزخر بها المدينة. محطتي الأولى كانت في قصر"ميونيخ ريزيدانس"Munich Residenz الذي كان في السابق المقر الرسمي لحكام بفاريا، ومقر إقامة ملوكها، وامرائها، ونبلائها من عام 1508 ولغاية عام 1918. يتربع القصر على قائمة أعرق وأهم القصور الأوروبية، ويضم مجموعة من المتاحف التي تشرف عليها الحكومة، من أهمها"متحف ريزيدانس"Residenz Museum الذي افتتح أبوابه عام 1920 وفيه عدد من الكنوز التي لا تقدر بثمن. من إحدى شرفاته الواسعة وقع ناظري على حديقته الفسيحة، فقررت التعرج إليها رغم حرارة الطقس المتدنية. وكنت إستمع عبر جهاز التسجيل المخصص لتعريف الزوار عن القصر وملحقاته أن الدوق"ماكسيميليان الأول"قرر تشييد الحديقة عام 1613، إلا انها شهدت الكثير من التعديلات وفقاً لذوق كل من عاش في القصر من بعده. الزهور التي تتفتح في موسم البرد والصقيع موجودة هنا، وكانت تنبثق من بين الثلوج لترسم لوحات ملونة في منتهى الجمال. وأكملت جولتي على قصور ميونيخ وكان لي وقفة في قصر"نيمفنبورغ"Nymphenburg Palace الذي كان مقراً للحاكم البافاري"فيتلسباخ"لسنوات طويلة. ان أكثر ما لفت إنتباهي في هذا القصر حدائقه الشاسعة التي تضم عدداً من نوافير المياه، والجداول، وقلاع صغيرة متوارية في جنبات الحدائق الخلفية. كثيرة هي القصور والقلاع التاريخية المترامية في أحضان ميونيخ وفي المناطق المحيطة بها، من أشهرها قلعة"نويشفانشتاين"Neuschwanstein التي قررت زيارتها رغم بعدها عن وسط ميونيخ حوالي الساعتين بالسيارة. إنها قلعة الأحلام وتستحق عناء السفر. فعلى قمة هضبة ترتفع حوالي 300 متر فوق قرية هادئة، أطلت علي القلعة بأبراجها العتيقة، وهندستها التي أصبحت نموذجاً يحتذى في عصرنا الحالي. سلكت طريقاً ضيقة للدخول إليها، ورحت أجول داخل أروقتها التي تقدم نفسها للزوار بصورة مدهشة. هنا غرفة العرش التي في الواقع لا تحتوي على أي عرش، وهنا سرير الملك الذي استغرق بناؤه حوالي السنتين، وهنا أيضاً روائع فنية مرسومة على جدرانها، وبين هذا وذاك ستسمع من المرشد السياحي الذي يطوف بكم داخل القلعة قصصاً كثيرة منها أن هذا الصرح التاريخي بناه الملك"لودفيغ الثاني"ملك بافاريا الملقب ب"الملك المجنون"في نهاية القرن التاسع عشر. وقد إستغرق بناء القلعة حوالي 17 سنة. وبعد موته بطريقة غير معروفة، تم افتتاح القلعة للزوار. كما علمت من المرشد السياحي أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية، تم تخزين بعض من أموال الخزينة الألمانية في القلعة لحمايتها من القصف الجوي لدول الحلفاء. وتقول إحدى الشائعات، بأنه تم رمي الأموال في بحيرة"ألات"القريبة منها. ولكن مهما تعددت الشائعات والقصص الخرافية، فإن هذه القلعة هي مكان إسطوري لا تشبه غيرها من قلاع الأرض. من هذا المكان أنهيت زيارتي إلى ميونيخ، تركتها وهي مغطاة بوشاحها الثلجي الأبيض، وبأجواء العيد الفرحة التي تنبض في كل مكان. سجلوا في مفكرتكم! يمكنكم عبر هذا الموقع معرفة المزيد من المعلومات عن مطار ميونيخ: www.munich-airport.de يزود هذا الموقع الزوار بكافة المعلومات المطلوبة عن فندق"بايريشرهوف": www.bayerischerhof.de للمزيد من المعلومات عن ميونيخ تفضلوا بزيارة الموقع التالي: www.muenchen.de