من الممتع أن نقرأ سير العظماء ونقترب من عوالمهم المثيرة، بخاصة إذا كانت من وضعهم واحتوت على لفتاتهم الفذة وملاحظاتهم الثاقبة. وإذا كان هذا العظيم من بناة الأمم وقادة النهضة فإن المتعة تكتسب أبعاداً فلسفية وثقافية فائقة. ولعل كتاب"قصة حياتي"الذي أملاه أستاذ الجيل"أحمد لطفي السيد 1872 - 1963"على طاهر الطناحي ونشر قبل عقود في دار الهلال، ثم أعادت الهيئة المصرية للكتاب نشره الآن يعد نموذجاً للسيرة الوطنية التي تنعش ذاكرة الأجيال وتخصب رؤيتهم الى جهود الآباء المؤسسين ومنظومة القيم التي أرسوها. وقد كان أبناء جيلي في معية صباهم يدهشون لهذا اللقب الذي يطلقه أمثال طه حسين وهيكل وغيرهما على لطفي السيد باعتباره"أستاذ الجيل"مع أن ما بقي منه في أيدينا لا يعدو أن يكون ترجمات عدة لأصول"أرسطو"ومقالات لم نقرأها في حينها. لكننا عندما أدركنا أنه شارك في تأسيس الحركة الوطنية المصرية منذ مصطفى كامل وفي تكوين الحزب الوطني الأول والحقيقي، وكان أحد سبعة أقطاب تشكل منهم"الوفد"برفقة سعد زغلول وعبدالرحمن فهمي، ثم كان العقل المدبر لأهم المؤسسات الصحافية والأكاديمية والمعرفية في تاريخ مصر الحديث، والحاضن الرؤوم للأدباء والعلماء والسياسيين، ينشر بينهم روحه السمح ويبث فيهم وعيه الليبرالي الأصيل بأهمية الديموقراطية والحرية في تشكيل مستقبل الشعوب، عندما ندرك كل ذلك نتبين أن الأستاذية المتوجة بالعرفان هي بعض ما يستحقه، ما يجعل قراءة صفحات حياته واجباً وطنياً ومتعة فكرية ودرسا أخلاقياً في المقام الأول. لعبة"الصدفة" ومع أنني أعرف أن كلمة الصدفة لا يطمئن إليها علماء اللغة لأنها لم ترد المعاجم القديمة، وأنهم يؤثرون عليها"المصادفة"، فإنني أحسب أنها قد اكتسبت حياة مشروعة بالاستعمال والبنية الرشيقة، مثلما يكتسب مدلولها كل يوم فاعلية جديدة، إذ نتبين خطورته في سير العظماء وصناعة الأقدار، ما يدعونا للتأمل في حكمتها وما تتضمنه قوانين الاحتمالات الفلسفية من معان عميقة. وقد بدأت رحلة لطفي السيد في كنف أبيه العمدة الذي كان يحمل أيضاً لقب باشا. ولما بلغ الصبي الرابعة من عمره أدخله كتاب القرية، وكانت صاحبته في ما يروي"سيدة تدعى الشيخة فاطمة، فمكثت فيه ست سنوات، تعلمت فيها القراة والكتابة ، وكنت أجلس مع زملائي على الحصير، ونصنع الحبر بأيدينا... وبعد أن أتممت حفظ القرآن الكريم رغب والدي في أن يبعثني للدراسة بالأزهر. وصادف في ذلك الوقت ان جاء يتغدى عندنا إبراهيم باشا أدهم - مدير الدقهلية حينئذ - فدخلت لتحيته ، فسأل والدي إلى أين يبعث بي للدراسة فأجاب"إلى الأزهر الشريف إن شاء الله"، فأشار عليه أن يبعث بي إلى مدرسة المنصورة الإبتدائية، وكانت المدرسة الحكومية الوحيدة في الدقهلية كلها. وقد عين المرحوم أمين سامي باشا ناظراً لها، وكان معروفاً بالدقة والنظام والشدة، وعدم التسامح في أي تقصير يبدو من أحد التلاميذ، ومع ذلك فقد كنا نحبه ونشعر بأبوته الرحيمة، وكان بالمدرسة قسم داخلي فالتحقت بالسنة الثانية". لولا هذه الزيارة العارضة التي قام بها مدير الدقهلية لبيت العمدة، ودخول الصبي لتحيته وسؤاله عن مساره التعليمي، لذهب لطفي السيد مثل الآلاف من أمثاله إلى الأزهر وأصبح أحد شيوخه، من دون أن يدرس الحقوق أو يسافر الى أوروبا، أو ينخرط بقوة ووعي في قيادة الحركة الوطنية والعلمية، وما كان له حينئذ أن يشتغل بالصحافة أو يؤسس فيها المنابر الجديدة، أو يلتفت إلى المعلم الأول"أرسطو"ليترجم أصوله الكبرى لبعث النهضة في الفكر الفلسفي وبناء الدولة على أساس ديموقراطي. كان سيصبح في أحسن الأحوال من تلاميذ الشيخ محمد عبده المحبطين في حروب الأزهريين الداخلية بدلاً من أن يكون صاحب مدرسة جديدة في الفكر والوطنية والصحافة والثقافة. تكشف لنا صفحات الكتاب عن الدور الحقيقي الذي قام به لطفي السيد في وضع المبادرات وتنظيم المؤسسات، ورعاية المشروعات النهضوية باستراتيجية متبصرة، تعرف كيف ترسم الخط الفاصل بين النضال من أجل الحرية والاستقلال، والتبعية السهلة للسلطة المهيمنة. وقد لعب دور العقل المفكر منذ مطلع عمله في الحياة العامة وشكل رؤية المثقف المصري المتميز، فهو من هذا المنظور"أبو"الأنتيليجنسيا المصرية الصميمة. وكانت أولى مبادراته الكبرى هي الدعوة منذ مئة سنة تقريباً الى تكوين شركة تنتج صحيفة وطنية حرة:"وضعنا الخطة التي نسير عليها، وعينا المباديء التي تقوم عليها جريدة حرة مستقلة، غير متصلة بسراي الخديوي ولا بالوكالة البريطانية، أخذنا نسعى في إقناع أصدقائنا ومعارفنا من أعيان البلاد، وألفنا شركة"الجريدة"، وانتخبت مديراً لها ورئيساً لتحريرها مدة عشر سنوات... وبعد تأليف هذه الشركة أخذت الجرائد المتصلة بالخديوي عباس تتهمنا بأننا متصلون بالإنكليز، وأننا نمالئهم ضد الخديوي، وقد كان لهم عذر في هذا الاتهام، لأنه كان بين شركائنا في الجريدة - عدا الأعيان - طائفة من كبار الموظفين المصريين في الوقت الذي سيطر الإنكليز على الحكومة ومنهم أحمد فتحي زغلول باشا رئيس محكمة مصر وعبد الخالق ثروت باشا، وقد بقيت هذه التهمة عالقة بالجريدة حتى ظهرت بعد ستة أشهر في 9 آذار مارس 1907، وقد افتتحتها بمقال تضمن أغراضها ومبادئها جاء فيه:"ما الجريدة إلا صحيفة مصرية ، شعارها الاعتدال الصريح ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقي الصحيح، والحض على الأخذ بها، وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبين ما هو خير وأولى، تنقد أعمال الأفراد وأعمال الحكومة بحرية تامة". ويكفي أن نلاحظ أمرين في هذا السياق، أولهما أن الاعتدال الذي يرفع لطفي السيد رايته ليس مجرد شعار، بل هو خلق أصيل ونبيل، تبدو دلائله في القول والسلوك، فهو يعطي لخصومه العذر في التشنيع ب"الجريدة"بموالاتها للاستعمار، لأن بين مؤسسيها من كانت لهم مصلحة وظيفية معه، ويكفي لنفي التهمة إعلان المبادئ الذي حرره بوضوح ودقة والتزم به بأمانة أمام الأمة - وهذا هو المصطلح الجديد حينئذ لميلاد الرأي العام لهذا الكيان الوطني المتخلق. الأمر الثاني هو هذا الفصل القانوني الصارم بين ذوات الأفراد وأعمالهم التي لا علاقة لها بالشأن العام، وممارساتهم التي ينبغي أن تخضع للرأي والنقد والتقويم ما دامت متعلقة"بجسم الكل"أي بكيان المجتمع، ونلاحظ اجتهاد لطفي السيد الذي شغل مقاعد مدير جامعة القاهرة، ووزارات عدة، قبل أن يستقر عقدين من الزمان في مقعد رئيس مجمع اللغة العربية، في صوغ المفاهيم الجديدة بعبارات واضحة دقيقة، وأسس بكلماته تلك مبدأ رئيساً في دستور الصحافة الذي يعتمد على حرية النقد وضرورته للأفراد والحكومات من دون مساس بالأشخاص، ويتفهم مواقف الآخرين ويعرف كيف يواجهها بالتحليل والرأي السديد. نستخلص من قراءة الكتاب أيضاً صورة لما قام به لطفي السيد بتلقائية شديدة من مبادرات تجعل اسمه يقترن دائماً بأنه"أول"من فعل كذا في مرحلة النهضة المصرية، لكنه يسرد ذلك من دون أي شعور بالفخر. فهو مثلاً أول من دعا إلى أن تكون مصر للمصريين المولودين فيها أو المستوطنين لها من دون تمييز، وهو مثلاً أول من دعا إلى ضرورة انسلاخها من التبعية العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى. أرسطو والنهضة يجيب لطفي السيد في هذه المذكرات عن سؤال ضمني"لماذا ترجمت أرسطو؟"قائلاً:"نشأت منذ الصغر ميالاً إلى العلوم المنطقية والفلسفية، وقد لفت نظري في أرسطو أنه أول من ابتدع علم المنطق، وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب. ولما كنت مديراً لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائي في وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث في النهضة الأوربية، فقد عمد رجال هذه النهضة إلى درس فلسفة أرسطو في نصوصها الأصلية، فكانت مفتاحاً للتفكير العصري الذي أخرج كثيراً من المذاهب الفلسفية الحديثة. ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة أرسطو فلا جرم أن أراه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقاً مع مألوفاتنا الحالية. والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها، رجاء أن ينتج في النهضة الشرقية مثل ما أنتج في النهضة الغربية". هذا كان دأب لطفي السيد في ما يشرع فيه من أعمال، حيث يؤسس القواعد التي يبنى عليها العلم وتقوم بها المعرفة، من دون أن يكتفي بالممارسة التلقائية، فهو يلتقط دعوة الشيخ محمد عبده الذي كانت تربطه به صداقة متينة لإصلاح التعليم وتأسيس الجامعة الأهلية فيمضي بها إلى مداها المقدور من وضع النظم والتقاليد، ويطبق على نفسه ما كان يراه بالنسبة الى غيره في ما يتعلق بالوظيفة"وفلسفة الاستقالة"حينما يستشعر أنه قد تعرض لموقف يمس استقلال الجامعة أو كرامة أبنائها، وذلك حين أقيل تلميذه طه حسين من عمادة كلية الآداب ونقل من الجامعة، فقدم استقالته احتجاجاً على ذلك ولم يتراجع عنها على رغم إلحاح عدد من الوزراء عليه، وعندما تغيرت الحكومة قبل مرة أن يعود الى الجامعة شرط تعديل القانون بحيث لا يجيز فصل الأساتذة، وكان له ما أراد من تعديل هذا القانون بالفعل. على أن ما كان ينقص هذه الطبعة هو مقدمة وجيزة يشرح فيها الأخ العالم الموسوعي الكبير الدكتور محمد الجوادي المشرف على النشر في هيئة الكتاب مصادر الكتاب وتاريخ إملائه وتوثيق نصوصه عطفاً على ما يعرفه من أسرار هذه الشخصية الفذة والمرحلة التاريخية التي يحكي عنها. وهي تشمل قرابة خمسين سنة حاسمة في تشكيل المجتمع المصري ومناخه الفكري والثقافي.