التعاطي الأوروبي مع الجارة الشرقية العظمى، على غموض قوتها وعظمتها، أي روسيا، يترك، للوهلة الأولى، انطباعاً باعتماد سياسة"العصا والجزرة"مع الدب الروسي في ما يخص قضية النزاع الأخير مع جورجيا وتوغل القوات الروسية في أراضيها. هذا الانطباع هو ما يتبادر الى الذهن لدى النظر في أعمال القمة الأوروبية الطارئة التي انعقدت في بروكسيل قبل أسبوع للبحث في النزاع المذكور واتخاذ تدابير كان الانقسام الأوروبي حول جدواها قد ظهر الى العلن قبل انعقاد القمة، خصوصاً ما يتعلق بفرض العقوبات على روسيا. ومع ان العصا تكون عادة لمن عصى، فإنّ صورتها جاءت هذه المرة على قدر لا بأس به من الليونة، كما يستفاد من المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي يتولى الرئاسة الدورية للاتحاد. فهو أعلن إرجاء كل الاجتماعات المخصصة للبحث في اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع روسيا. وأرفق ذلك بإدانة رد الفعل غير المتكافئ للروس حيال الاستفزاز الذي أقدمت عليه جورجيا، مع الحرص على إبقاء الحوار مع الجيران الروس. هذا هو تقريباً وجه العصا. أما الجزرة ففي تجاهل الدعوات الى فرض عقوبات على موسكو. بل حتى دعا ساركوزي الى"عدم شن حرب باردة واستعراض العضلات وعروض القوة وفرض عقوبات وعقوبات مضادة، فهذه الأمور لن تخدم أبداً". وشدد على ضرورة اعتماد الديبلوماسية والتعامل التدريجي. باختصار حاول الأوروبيون الربط بين انسحاب القوات الروسية من جورجيا وبين عقد المفاوضات حول الشراكة الاستراتيجية. صحيح ان البيان الختامي للقمة الأوروبية أدان الاعتراف الروسي بجمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، طالباً من الدول الأخرى عدم اتخاذ خطوة مماثلة، وطالباً من موسكو سحب ما تبقى من قواتها من جورجيا"من دون أي تأخير". على أن هذه الإدانة المرفقة بدعوة موسكو الى سحب قواتها، جاءت مشفوعة بتصريحات مطمئنة صادرة عن قادة دول أوروبا الغربية، بحيث لا تعود العصا عصا ولا الجزرة جزرة. فالمستشارة الألمانية ميركل اعتبرت انتهاك وحدة أراضي جورجيا أمراً غير مقبول، إلا أنها دعت الى اعتماد"الصراحة"في العلاقات مع روسيا من دون أن تصل الأمور الى قطع خيط الحوار معها. ونفى رئيس الحكومة الإيطالية بيرلوسكوني إمكان حدوث مواجهة بين أوروبا وروسيا على خلفية أزمة القوقاز. بل ذهب الى حد التذكير بأن روسيا ليست قوة عسكرية ونووية عظمى فحسب، بل مصدر بالغ الأهمية للنفط والغاز. ومن جهته، أعلن وزير الخارجية الإسباني موراتينوس رفض بلاده فرض عقوبات على موسكو، معتبراً أن الأمر يحتاج الى إعادة إنشاء الثقة المتبادلة. ويمكننا أن نضع على حدة الموقف البولندي الذي يتسم بنبرة أكثر تشدداً، ولا داعي للتذكير بأن الموقف البولندي هذا يضرب بجذوره في تاريخ مضطرب ومديد جداً للعلاقة بين روسيا وبولندا. المواقف الصادرة تحديداً عن قادة"أوروبا العجوز"، بحسب عبارة شهيرة أفصح من خلالها وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رمسفيلد عن رهان أميركي مستجد، وعابر على الأرجح، على نقل المركز الأوروبي من المجال الغربي الى المجال الشرقي الموعود ايديولوجياً بولادة جديدة، هذه المواقف تتسم إذاً بليونة كبيرة تجيز إعادة النظر في معادلة العصا والجزرة. توخي الدقة في تشخيص ردود الفعل على أزمة القوقاز، يتطلب بالتأكيد إدخال تعديل على عبارات المعادلة المذكورة. فالعصا، ها هنا وبحسب ما يستفاد من المواقف الأوروبية الغربية، تكاد كون عصا من قطن تصلح للتهويل والتهديد بالضرب. وهذا ما يدركه جيداً القادة الروس. فقد اعتبر الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف أنّ ما توصل اليه الأوروبيون في قمتهم هو"سلاح ذو حدين". وجدد اتهامه لواشنطن بدعم سياسة الرئيس الجورجي ساكاشفيلي واصفاً إياه بأنه"جثة سياسية"، بحسب ما قال لمحطة تلفزيونية ايطالية معروفة. وأعلن أن بلاده لا تخشى استبعادها من مجموعة الثماني، معتبراً أن الدعوات الصادرة في هذا الاتجاه تندرج في اطار"تكتيك انتخابي أميركي". وأبدى ميدفيديف أسفه لأن الاتحاد الأوروبي"لم يفهم تماماً دوافع روسيا حين قررت صد الاعتداء الجورجي والاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا"، لكنه أشار الى أن وجهة نظر منطقية وواقعية سادت أعمال القمة بالرغم من وجود انقسامات بين دول الاتحاد الأوروبي ومطالبة بعضها بفرض بعض العقوبات. ونحن نسأل: ما الذي لم يفهمه الأوروبيون تماماً، بحسب الرئيس الروسي، في ما يخص دوافع روسيا؟ يمكن العثور على جزء من الجواب في توضيحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أكد أن بلاده لن تسمح لأحد بجرها الى مواجهة وأنها ستضطر في حالة الضرورة الى التصرف بمفردها لحماية مصالحها. ما ينبغي التوقف عنده هو تشديد لافروف على أن روسيا"من خلال ردها على العدوان الجورجي، حددت نوعاً من معيار رد الفعل الذي يتماشى بشكل كامل مع القانون الدولي". ونصح لافروف واشنطن بالاعتراف بعالم ما بعد الهيمنة الأميركية. قصارى القول ان روسيا وضعت السياسة الأوروبية على محك الاختبار مع الإيحاء بأن التفاهم معها يشكل ضمانة لأوروبا الغربية نفسها ضد أي رهان أميركي على الإخلال ببنية العلاقات الدولية اخلالاً كبيراً بحيث تضطرب خريطة المواقع والأحجام داخل القارة الأوروبية. بعبادة أخرى تزاوج روسيا بين سلوك امبراطوري موروث من الحرب الباردة وبين سلوك دولة قومية قوية تريد الحفاظ على مجالها الحيوي اقليمياً ودولياً. وينبغي الكثير من الأدلجة والأبلسة للنفخ في صورة الشيطان السوفياتي الشرير العائد في صيغة قومية روسية. وإذا كان الدب الروسي يخشى منه أن يعيش فساداً في كروم الجغرافيا السياسية، فإن الفيل الأميركي كسّر ما يكفي من الصحون والأواني الزجاجية لدى دخوله الى البيت العراقي والأفغاني. وهذا ما يعطي وجاهة للسجال الدائر حول عودة الحرب الباردة والتعددية القطبية. وهو سجال مشتق من نقاش فلسفي وسياسي وأخلاقي حديث حول العلاقة بين القانون والقوة. وهذا ما سينعكس حكماً على سياسات منطقتا مع التمني بأن يتم التعاطي معه بعقلانية.