ثمة من يرفض التصديق كعادته، كأنّ أمرا جيدا لن يقع، أو كأنّ المعزوفة المكرورة التي تقول ألا أمن مع الاحتلال، لا يمكنها أن تسقط في الفراغ فجأة، فما إن يتناهى إلى الأسماع أنّ ثمّة تقدما ملموسا في درجة تمكّن القوى الأمنية العراقية من توسيع رقعة الهدوء وفرض القانون، حتى تسارع ثلّة من المحللين والمراقبين والمتداخلين إلى التشكيك والانتقاص وكيل الاتهامات القاتمة. وعندما أراد مجلس النواب العراقي بخروجه من المنطقة الخضراء نحو هواء بغداد، إرسال رسالة إلى العالم، وإلى العراقيين، أنّ الأوضاع تمضي قدما باتجاه إيجابي، سارعت السوداوية المسلحة بالمنابر المستأجرة بإشهار هياجها في وجه ما سماه أحدهم"كذبة كبرى"وما أكّده آخرون أنّ الخطوة ليست سوى"محاولة فاشلة لتعويم الحزب الجمهوري الأميركيّ واستنهاضه في الانتخابات المقبلة"وكأنّ نواب الأمة العراقية نذروا حيواتهم للسيد ماكين بأريحية مدهشة. لا أريد الساعة أن أغوص في هذه السوداوية، لاستجلاء جوانبها وهضم بواعثها، لأنّ حفرا معرفيا منهجيا في بنيتها وجذورها، لن يقدّم فائدة كبيرة لأحد، ولن يستطيع اعتراض مسيرتها، وسيعجز غالبا عن التصدي لفعالها"القيّمة"في الغد المنظور لإنسان الشرق الأوسط، ولكنني أريد القول: إنّ مسلمة أنّ شيئا إيجابيا لن يحدث في العراق اليوم أو في الغد القريب، لا يمكنها الوقوف على قدمين"فغلبة السيكولوجيا المهزومة فيها على القراءة الموضوعية للواقع السياسي والأمنيّ ظاهرة وساطعة، وتوظيف ما تسبب به الاحتلال، وما رفع الغطاء عنه فحسب، في صلب اتهام الأميركيين دون سواهم، لا يعني إلا نوعا مقززا من الاتجار بالمظلومية، ولا أحد سوى المهزوم يستطيع أن يكون مقرفا إلى درجة كيل الاتهامات إلى غيره، عندما يدرك الجميع أن أسس الصراعات العراقية العراقية مجبولة بالدم العراقي وبالتراب العراقي وفي عمق التعايش المتكاذب والتاريخ الدامي، ولا أحد سوى المهزوم البكّاء يستطيع أن يكون غيبيا ووطواطا إلى درجة الجزم بتعذّر حدوث ما هو إيجابي في مجتمع ينشد أغلبه ما يعيد إلى الحياة زخمها ومسارها الطبيعيّ، وفي كنف حكومة تدرك أن مستقبلها السياسي على كفّ عفريت الأمن دون سواه. أما نظرية كون الاحتلال شرّا مطلقا، فلا تستطيع أن تصمد أمام وقائع تاريخية كثيرة، وهي أقرب إلى التعصّب العرقي والبيولوجي منها إلى الاستبصار العلميّ، ولقد حمل التواجد الأجنبيّ إلى بقاع عديدة نعما ملموسة في فترات هامة من التاريخ، الأمر الذي جعل من التشديد على قتامته القاطعة والجذرية خطابا عصبويا مخادعا، فمطبعة نابليون وعلوم شامبليون، والقفزة العالمية الكبرى لهونج كونج، وغيرها مما يتبتل به العربي عن نفسه، وما جلبه غير العربي من مفردات الحضارة التي يجهلها السكان الأصليون، ويفتقرون إليها بفداحة، تظل شواهد على عقم هذه النظرية. ولأنّ للسمعة الدولية، وللرؤى الاستراتيجية حضورا في الطبيعة الاحتلالية، فلا سبيل إلى إنكار حرص الولاياتالمتحدة على الخروج بأقلّ قدر من الخسائر المادية والمعنوية من المغامرة الشاقة التي أقدمت عليها في العراق، ولا يُعقل أساسا أن يكون الأميركيون حمقى فيما هو استراتيجي ومفهوم، فأحلامهم باستمرار إمبراطوريتهم ما زالت تشكّل هاجسهم الأول، وما زالوا يقبضون على عرشهم العالمي بكفاءة، والشواهد الاقتصادية والسياسية بما فيها الصين الصاعدة وجورجيا المهزومة وخطب التثوير والوعيد لا تشي حتى اليوم أنّ الشمس الأميركية على وشك الأفول. ولأنّ حال الاحتلال الأميركي للعراق يحقق نجاحات ملموسة في تقليص العامل الإيراني، وتمكين العراقيين من بسط متعاظم للأمن على امتداد بقاعهم، رغم ما يحدث من تفجيرات انتحارية يائسة أحيانا، وبرغم التوتر المتصاعد لأزمة التفاصيل العرقية في كركوك، فإنّ التوقيت الذي سيبدأ فيه هدير الخطب الشعبوية والقصائد العصماء بالخفوت، بدأ يعلن عن نفسه، حاملا معه تغييرات ذات شأن في النظريات المعلبة الجاهزة التي تاجر بها البعض لغايات في نفسه الموتورة ولمآرب سياسية فوق عراقية"ليكسب بأثمانها الدموية تأخيرَ عودة الوطن العراقي إلى رشده، وسيوجد منذ اللحظة مَن يتحدث عن السلبية السياسية التي قوبل بها الانعطاف العراقي من الديكتاتورية نحو التداول السلمي للسلطة، وسيظهر مَن يدافع عن هذا التحوّل الكبير، ويشبهه بالفضائل التي أشار إلى بعضها الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي فأثار من الغبار سحبا، عندما أكّد أن حملة نابليون على أرض الكنانة لم تكن شرا مطلقا. وإذ قدّر لليابانيين والألمان لأسباب بنيوية يتأخر ظهورها عند الشرق أوسطيين بفعل مآزق تكوينية راسخة، أن يمتلكوا من البراغماتية ما أعانهم على تجاوز حال الصدمة أمام الاحتلال نحو أفق إيجابي يحضر في منازلنا اليوم، فإنّ العروقيّة اليعربيّة التي تأبى الضيم كعادتها، وتعالج جراح الشمم والإباء بأخطاء متوالية في الحسابات وبقراءاتها غير الديموقراطية التي ألفت منذ دهور، ستنفق بعض الوقت قبل أن تهدأ هنيهة"لتتيح لبعض موضوعيّ أن يقول إنّ للاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين شرورا متوقعة وواقعية، ولكنه ليس شرّا صرفا، وإنّ عملا دؤوبا على عقد تفاهم سياسي متين مع الولاياتالمتحدة كان يجب أن يُبذل منذ زمن طويل. والولاياتالمتحدة الأميركية التي انعطف خطابها السياسي بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر انعطافا ملموسا - وإن أثبتت الأيام أنه لم يكن حادّا في حال - لا يمكنها الخروج من العراق هائمة على وجهها ترجو المخارج الآمنة، أو منكسرة تلعق جراحها باحثة عن مخلّصين، لسبب بسيط مؤثر ووجيه"هو: وعيها العميق بالآثار الاستراتيجية المترتبة على هذا الصورة المهينة، فالعواقب التي تنتظرها ليست كمية بحيث تقاس بالدولارات فقط، بل نوعيّة تقاس بالمدى الحضاري الأميركي برمته، والذين يغضون الطرف عن هذه الحقيقة، ويتجنّبون شرحها للعامة، ليسوا مغفلين بالطبع، ولكنهم يمثلون اللاعبين الشرق أوسطيين المقابلين للفريق الأميركي، الذين لا يسعهم أن يكونوا أقلّ نباهة إزاء النجاح الأميركي الملحوظ في تحسين القدرة العراقية على فرض الأمن وتحسين شروط الحياة، بعد أن تفوّق في وضع التداول السلمي للسلطة في صلب الحياة السياسية العراقية، وإذا كانت قواعد هذه السياسة قد تغيرت"لأنّ لاعبي الشرق الأوسط المهرة في حراسة الاستبداد وماكيناته عجزوا عن المجابهة والانتصار البارحة، فعليهم الحذر والتربص ومحاصرة البوابات اليوم، حتى لا يتسلل الهدوء والأمن إلى الساحة خلسة، فيخسروا مرتين. إنهم خير من يدرك أنّ صندوق الاقتراع لا يفقد سحره باضطراب المجتمع وفوضاه فحسب، بل يفقد مع السحر التمثيل السياسي الأصوب أيضا. وأفضل من يعرف أنّ أهدافه السياسية المتمثلة في شطب أهم مكسب حققه العراقيون منذ أكثر من ألف سنة بكثير، لا يمكن أن تتحقق إلا بالاتجار بالدم العراقي بالتنسيق مع المشترين المذعورين من عدوى التداول السلمي للسلطة أن تصيب شعوبهم. سيترنّح حرّاس الاستبداد، ولكنّ السادة لا يملكون إعفاءهم من مهامهم، فما زالوا خير من يمسك بتلابيب هذه الوظيفة. * كاتب سوري.