لدى آني تيفل أسباب كثيرة كي تقوم برحلة نهرية. الموظفة الهولندية المتقاعدة حضرت مع زوجها الى مدينة ماستريخت، لاسترجاع ذكريات رحلة نهرية قديمة. لكنها تحضر أيضاً بناء على نشاط تنظمه إحدى جمعيات المتقاعدين التي هي عضو فيها. تبدو آني أكثر المتحمسين، وهي تنتظر ان تعبر الأماكن ذاتها التي زارتها منذ اكثر من 30 سنة. تقول انها تتذكر كل شيء، لكن أولادها الذين اصطحبتهم آنذاك"لا يذكرون انهم قاموا بالرحلة من الأساس". ستمضي 4 ساعات على متن سفينة متوسطة الحجم، وتراقب المتغيرات على ضفاف نهر الماس طوله ألف كيلومتر وينبع من فرنسا ليصب في بحر الشمال والقنوات المتفرعة منه. وماستريخت القريبة من نقطة التقاء حدود هولنداوبلجيكا وألمانيا، والتي استقي اسمها من اسم النهر الذي يمر فيها نهر الماس، ليست بالميناء مقارنة بأمستردام أو روتردام. لكنها ذات أهمية تاريخية خاصة، إذ استخدمها الرومان مرسى لسفنهم الغازية للشمال الأوروبي قبل ألفي سنة. وهي تستخدم الآن ميناء سياحياً. وقبل ان تنطلق السفينة، يقف مصوّر على الرصيف الموصل إليها، ليلتقط صوراً لجميع الركاب. الربان لعب دور الدليل السياحي. وكلما عبرت السفينة مكاناً يستحق الحديث عنه، لتاريخه أو لطرافته، كان صوت الربان يحضر من مكبرات صوت موزعة داخل الصالة المغلقة وعلى المتن المفتوح للسفينة. تعبر السفينة بعض المساكن الطافية في طرف النهر، فتعلّق تيفل:"تلك البيوت كانت موجودة، لكنها الآن صارت فيلات". تبدو ملاحظة الموظفة المتقاعدة ذات مغزى. في هولندا التي تعد من اكثر البلدان سكناً في العالم تقريباً 400 ساكن في الكيلومتر المربع الواحد لجأ الناس الى النهر ليحمل بيوتهم. هناك قوانين تحد من إمكانية البناء على اليابسة، للحفاظ على المساحات الخضر والأرض الزراعية، لكن صدر النهر بقي أرحب، والمباني العائمة التي ابتدعت لسد حاجة السكن صارت الآن من علامات الرفاهية. معظم ركاب السفينة كانوا هولنديين، والبقية من البلجيكيين. وكالعادة، لا يوفر أي من الطرفين أي فرصة للسخرية من الآخر. فالحساسيات التاريخية بين الطرفين الناطقين باللغة ذاتها الهولنديون والقسم الفلامنكي من بلجيكا لا تخفي ذاتها. وعلى السفينة كان الربان الهولندي هو المبادر. يلفت انتباه الركاب الى مجسم خشبي لرجل أُجلس على مقعد. يقول ان عاملاً بلجيكياً كان يجمع الأخشاب التي يأتي بها النهر، ثم ركّبها على هيئة رجل. يطلق الربان جملة تثير ضحك معظم الركاب، وتترك امتعاضاً في ملامح الأقلية، إذ يقول مشيراً الى المجسم الخشبي بتهكم وسخرية:"في بلجيكا يعتبرون هذا فناً". والنقاط الأبرز في رحلة السفينة، بين النهر والقنوات المائية، هي عبور"الساس". هذا الابتكار القديم هو الذي يؤمّن حركة الملاحة النهرية، ولولاه لكان الأمر شبه مستحيل."الساس"عبارة عن منفذ على هيئة حوض مغلق من الطرفين ببوابتين. تدخل السفن والقوارب إليه لينقلها الى مستوى آخر للنهر، يكون منسوب الماء فيه إما أعلى من المنسوب السابق أو أخفض، أحياناً بنحو 15 متراً. تعبر السفينة"ساسات"بنجاح. وبعد ساعتين من التجوال، تصل الى"ساس"بارتفاع 9 امتار. تدخل اليه، تنغلق البوابة الخلفية، وتبدأ الأمامية بتسريب الماء. لكن السفينة لا ترتفع الى المستوى المطلوب للعبور الى النهر مجدداً. يكتشف عمال"الساس"، بعد معاينة، ان احدى البوابات معطلة، في الجزء الذي يفترض ان يبقى محكم الإغلاق ليحبس الماء. تعاد العملية: ملء وإفراغ، لكن من دون جدى، ويجب الانتظار حتى تأتي الصيانة... قبل أن تأتي الكلمة الفصل من الربان: سنعود ولن ننتظر، فربما يأخذ الإصلاح وقتاً طويلاً. الخيبة على وجوه البعض كانت واضحة، وآني كانت أكثر الخائبين، ربما. تقول ان الجزء الأجمل من الرحلة فات الركاب، وتفسر ان خيبة أملها ليست شخصية"بل هي خيبة أمل عن الآخرين". يحاول طاقم السفينة مواساة الركاب، ويقولون ان هناك مشروباً سيوزع على حساب الشركة"وهذا أكثر ما يمكننا فعله"، يعلّق الربان قاطعاً الطريق على من يفكر في استرجاع ثمن التذاكر. في طريق العودة، كانت الأحاديث عن العطل المفاجئ لا تزال منتشرة، لكن آني ترفض الإذعان لفكرة ان الحادث كان هدية أثمن للمتقاعدين، والذين، بحسب ترجيح الملاحظة، لن يجدوا ما هو أكثر إثارة للحديث عنه في حال سارت الرحلة كما كان مخططاً لها. تصل السفينة من حيث انطلقت، يأتي صوت الربان مجدداً ليقول انهم اتصلوا بالصيانة، وعرفوا ان الإصلاح سيستمر حتى ساعات متأخرة. هنا لا تملك آني إلا ان تسرب انتماءها لما كانت رفضته قبل قليل، فتعلق على الخبر الجديد:"لو بقينا لكنا قضينا وقتاً مثيراً". يهبط الركاب الى البر، يستعرضون الصور المعروضة على لوح كبير، والتي التقطت قبل الانطلاق. كانوا يصورون على مدار اللحظة، والآن، على رغم ذلك، بيعت تقريباً كل الصور التي التقطها مصور الشركة. صور ليست احترافية، وثمنها باهظ، لكنها ذكريات إضافية تواكب مزاج المتقاعدين.