ثلاثة وأربعون رئيساً مرّوا على الولاياتالمتحدة منذ عام 1789 وحتى الآن، بيد أن قليلاً منهم هم الذين يذكرهم التاريخ سواء بمآثرهم أو كوارثهم، كما أن قليلاً منهم هم الذين تركوا أثراً بارزاً على السياسة الخارجية الأميركية من خلال إرسائهم لمبادئ رئاسية تركت بصماتها على شكل النظام الدولي لعقود. ومن بين ما يقرب من إحدى عشر مبدأ رئاسياً، فإن عدداً محدوداً منها لا يزال محفوراً فى ذاكرة الأميركيين لما كان لها من تأثير مهم على رؤيتهم للعالم الخارجي وبالعكس. من هذه المبادئ على سبيل المثال لا الحصر،"مبدأ مونرو"، ولعله الأشهر والأطول عمراً بين المبادئ الرئاسية اللاحقة، وهو المبدأ الذي أصدره الرئيس الأميركي الخامس جيمس مونرو عام 1823 وكان يقضي بمنع أي تدخل أوروبي استعماري فى شؤون الأميركتين، وهو أول مبدأ يرسّخ الطموح الخارجي للولايات المتحدة فى مرحلة مبكرة من التاريخ الأميركي. كذلك أيضاً"مبدأ روزفلت"أو بالأحرى"تعديل روزفلت"، وهو لم يكن مبدأ رئاسياً بقدر ما كان تعديلاً أصدره الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت عام 1904 من أجل التأكيد على"مبدأ مونرو"ليس فقط بمنع الاستعمار الأوروبي لدول أميركا اللاتينية، وإنما بشرعنة التدخل الأميركي فى شؤونها بحجة حمايتها من الأطماع الأوروبية. وكان هذا التعديل بمثل إعلان صريح على بداية التوسع الخارجي للولايات المتحدة التي اعتبرت أميركا اللاتينية فناء خلفياً مشروعاً لها. أما المبدأ الثالث الأكثر أهمية فى التاريخ الأميركي فهو مبدأ ترومان وهو المبدأ الذي استوحاه الرئيس الأميركي هاري ترومان عام 1947 من أفكار وكتابات السفير الأميركي الأسبق لدي الاتحاد السوفياتي"جورج كينان"المشهور ب"مستر x"، وهو مبدأ ترك بصمته علي حقبة الحرب الباردة، وكان يقوم على احتواء الاتحاد السوفياتي من خلال مساعدة البلدان التي ترفض الهيمنة الشيوعية مادياً وعسكرياً، ومن رحمه خرجت مبادئ رئاسية أخرى بدءاًً من مبدأ"مبدأ إيزنهاور، 1957"لحماية الشرق الأوسط من الخطر السوفياتي وانتهاء بمبدأ ريغان 1985. في حين دشّنت أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001"مبدأ بوش"الذي أنهى سياسة الردع وأعلن سياسة"الضربات الوقائية"ضد"محور الشر"فى إطار ما أطلق عليه مسمى"الحرب على الإرهاب". الآن ينتظر كثيرون المبدأ الذي سوف يحمله الرئيس الرابع والأربعون للولايات المتحدة معه إلي البيت الأبيض فى يناير المقبل. وبالرغم من صعوبة حسم السباق الانتخابي الراهن بين كلا المرشحيَن الديموقراطي باراك أوباما والجمهوري جون ماكين، إلا أنه يمكن القول بأنه ليس ثمة اختلاف كبير بين هذا الأخير وسلفه الحالي جورج دبليو بوش، على الأقل على مستوي الأفكار والمبادئ، وإن اختلفا فى الاستراتيجيات والتفاصيل. لذا يصبح من المجدي التفكير فى أي المبادئ سوف يختار الديموقراطي باراك أوباما إذا ما أصبح رئيسا للولايات المتحدة، خصوصاً في ظل اتهامات البعض له بضعف خبرته في مجال السياسة الخارجية. ولن يكون ضرباً من الودع، أو تنجيماً سماوياً، إذا ما قلنا بأن"مبدأ أوباما"لن يكون بعيداً عن شعار"أميركا.. دولة قوية وصورة جيدة"، وهو بذلك لن يتنصل فحسب من الإرث الثقيل للرئيس الحالي جورج بوش، وإنما أيضا سيسعي لترك بصمته على السياسة الخارجية الأميركية من خلال إعادة الاعتبار للكثير من مصادر القوة الناعمة التي ركلها الرئيس بوش طيلة سنواته الثماني، ما أساء لصورة الولاياتالمتحدة ومكانتها مادياً وأدبياً. وعلي الرغم من صعوبة تحقيق ذلك، خاصة فى ظل الغموض الذي يهيمن حالياً علي المسرح الدولي بعد الأزمة الروسية ? الغربية، وصعود قوى اقتصادية مهمة كالصين والهند، إلا أن أوباما يبدو مهموماً بتحسين صورة الولاياتالمتحدة خارجياً، ويثق فى قدرته على تحقيق ذلك مستتداً على صفاتٍ ومواهب فردية يرى كثيرون أنها لم تجتمع فى رئيس أميركي منذ اغتيال جون إف كينيدي عام 1963. وفي سبيل ذلك فمن المتوقع أن يقوم أوباما بإعادة تعريف أولويات السياسة الخارجية لبلاده إذا ما أصبح رئيساً للولايات المتحدة انطلاقاً من ثلاث نقاط أساسية، أولها يتعلق بإعادة النظر فى استراتيجية الحرب على الإرهاب، وقطعاً سيكون من السذاجة التوقع بأن تتراجع الولاياتالمتحدة فى حربها على الإرهاب، التي باتت، فى مرحلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، إحدى ركائز الشرعية لقاطن البيت الأبيض. وإنما المقصود هنا أمرين، أولهما إعادة تعريف مصادر الإرهاب وجبهاته، وهنا يبدو أوباما مقتنعاً تماماً بأن أفغانستان هي الجبهة الحقيقية للحرب على الإرهاب، وليست العراق كما يرى غريميه بوش وماكين. وثانيهما، إعادة بناء التحالف الدولي ضد الإرهاب، ليس من خلال توسيع جبهته ومطاردة الإرهابيين أينما كانوا، وإنما من خلال زيادة الدعم المعنوي واللوجيستي للحلفاء المشاركين فى الحرب على الإرهاب، وتقليل التورط الأميركي المباشر فى مناطق الصراع مع المتطرفين. وثانياً، إعادة النظر فى"الوزن الدولي"للولايات المتحدة على الساحة الدولية، حيث سيسعي أوباما إلى إعادة تعريف دور الولاياتالمتحدة ومكانتها سواء فى الصراعات الدولية والإقليمية، أو فى القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك، مثل منع انتشار الأسلحة النووية، وتغيّر المناخ، ومكافحة الجريمة والمخدرات، ومواجهة الأوبئة والأمراض الفتّاكة. ومن المتوقع أن يحاول أوباما أن يرسم لنفسه طريقاً مختلفاً عن كل من بيل كلينتون، الذي كثيراً ما اتُهم من قبل الجمهوريين بالضعف والتورط فى نزاعات لا تخدم المصلحة القومية الأميركية كما حدث في الصومال وهاييتي والبلقان، وبين جورج بوش الذي يُتهم بترسيخ الأحادية القطبية وتوسيع نطاق الهيمنة الأميركية بما يضر بالمصلحة الأميركية ويخلق أعداء كُثْر لها حول العالم. وهنا ينطلق أوباما من إعادة تعريفه للمصلحة الأميركية ذاتها من خلال منظور واقعي يقوم على حسابات التكلفة والخسارة. فعلى سبيل المثال يربط أوباما دوماً بين فتح حوار مع إيران وغيرها من الدول"المعادية"للولايات المتحدة مثل كوريا الشمالية وفنزويلا وبين المكاسب التي يمكن أن تجنبها الولاياتالمتحدة من وراء ذلك. وهو هنا له مقولة شهيرة مفادها"أن التاريخ الأميركي كثيراً ما شهد إما رئيساً قوياً ولكن بسياسات خاطئة أو رئيساً ضعيفاً بسياسات قوية، وأنه قد حان الوقت كي يأتي للسلطة رئيس قوي ينتهج سياسات صحيحة". وتبدو الشراكة الدولية إحدي روافع أوباما فى إعادة تعريف الوزن الأميركي على الساحة الدولية، فمن جهة يؤكد أوباما على أهمية تقوية علاقات بلاده مع الشركاء الدوليين مثل الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، ولاحقاً روسيا التي من المتوقع أن تلقى اهتماماً خاصاً من الرئيس الأميركي المقبل بغض النظر عن هويته. ومن جهة ثانية، سيسعى أوباما لتأكيد قدرة الولاياتالمتحدة على قيادة نظام عالمي يقوم على التعاون والشراكة أكثر منه على الصراع والهيمنة. وثالثاً، إعادة النظر فى سياسات دعم الديموقراطية خارجياً، وهنا يبدو أوباما أكثر واقعية من غريمه ماكين، وذلك على عكس ما يرى كثيرون. فمن جهة يرى أوباما أن دعم الديموقراطية وإنهاء الظلم والاستبداد فى العالم، بقدر ما هو هدف نبيل، فإنه أيضا مهم لحماية الأمن القومي الأميركي. وهو يردد دائماً أن ذلك يجب أن يتم من خلال التخلص من سياسات الخوف التي رسخّتها إدارة الرئيس بوش، وزرع بدلاً منها"سياسات الأمل". وهو هنا يريد أن تقدم بلاده نموذجاً يحتذى لبقية دول العالم الراغبة فى التحرر من الظلم والطغيان. ومن جهة ثانية، سيحاول أوباما الاستفادة من خلفيته الإيديولوجية وأفكاره الليبرالية من أجل إعادة صوغ استراتيجية تقوم على دعم الديموقراطية خارجياً، ليس عبر صناديق الاقتراع وإنما من خلال استيفاء شروط الديموقراطية الليبرالية وأهمها بناء المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي يمكنها أن تحمي أي تجربة ديموقراطية. ومن جهة أخيرة، يؤمن أوباما بأن أهم سلاح يمكن أن يواجه به تنظيم القاعدة هو خلق مقاومة ثقافية ومجتمعية لأفكاره وهو ما يمكن تحقيقه من خلال بناء مجتمعات متحررة من الخوف والاستبداد، على ما يكرر دوماً. قطعاً لن تكون مهمة أوباما سهلة فى"تحويل"بوصلة السياسة الخارجية الأميركية، أو الانقلاب الجذري على إرث الجمهوريين، بقدر ما ستكون مهمته محاولة التوفيق بين متناقضيَن هما القوة والحكمة وهذا هو التحدي الحقيقي. * باحث مصري بمعهد"بروكينجز"للأبحاث، واشنطن.