لم يعرف القراء العرب خليل تقي الدين القاص والروائي اللبناني كما يجب، بل كما يستحق أن يعرفوه. هذا الكاتب الذي كان أحد صانعي"المدرسة اللبنانية"في الأدب بدءاً من الثلاثينات، عرف ما يشبه الانقطاع عن المعتركات العربية لا سيما خلال الأعوام الطويلة التي قضاها في الديبلوماسية متنقلاً من بلد الى آخر سفيراً لوطنه. عندما عيّن سفيراً في القاهرة خلال حكم عبدالناصر اشتدّت أواصر الصداقة بينه وبين الزعيم المصريّ، لكنه لم يسع الى ترويج اسمه أدبياً في القاهرة. وعلى غرار رفاقه في المدرسة اللبنانية التي تجلّت في الأربعينات والخمسينات المنصرمة لم يركب موجة"العروبة"و"القومية العربية"على رغم عروبته المعتدلة التي لم يفرّق بينها وبين لبنانيته المعتدلة أيضاً. ليس من شاعر أو قاص أو روائي في لبنان لم يقرأ خليل تقي الدين خصوصاً في البدايات. لكن أدبه لم يكن يوماً وقفاً على القراءات الأولى التي سرعان ما يتخطاها الزمن. فالعودة اليه ما برحت تحسن فترة تلو أخرى، ليس لاستعادة عالمه القصصي الجميل ولغته البديعة فقط، بل لمقاربة المعالم الأولى للحداثة الأدبية والتحديث الذي كان واحداً من روادهما. فهذا الكاتب الذي خبر الأدب القديم والأدب النهضويّ وأجاد الفرنسية تمام الإجادة نجح في ترسيخ أفق جديد للأدب من غير أن يتخلّى عن جذوره القروية. كان خليل تقي الدين ابن القرية والمدينة في آن واحد، كان لبنانياً ولكن في حال من الانفتاح على العالم، فهو عاش ردحاً طويلاً في روسيا وأميركا اللاتينية وبعض الدول العربية والأوروبية، وتمكن من خلال هجرته"الديبلوماسية"أن يتعرّف الى ثقافات العالم وآدابه. في ريعان حياته الأدبية كتب خليل تقي الدين يدافع عن جبران ضدّ أحمد حسن الزيات صاحب"الرسالة"المصرية الذي كان انتقد الأديب المهجري بشدة لاستخدامه مفردتين غير فصيحتين في قصيدة"المواكب"هما:"تحمّمت"و"تنشّفت"وكان حرياً به - بحسبه - أن يستخدم"استحممت"وپ"استنشفت". وكانت حجة المتأدّب الفتيّ خليل ان اللغة هي ابنة الحياة أولاً وأخيراً. وفي فورة حماسته تلك لم يتورّع عن نقد المنفلوطي آخذاً عليه ترجمته أعمالاً عن الفرنسية من غير أن يجيد هذه اللغة. إلا أنّ حبه لطه حسين لم يضاهه حبّ لأديب آخر في العصر الجديد، ما عدا جبران وميخائيل نعيمة وبعض الكتّاب الفرنسيين الذين تأثر بهم مثل أناتول فرانس وغوستاف فلوبير وغي دوموباسان... ودفعه حبّه لطه حسين الى أن يرشحه لجائزة نوبل عام 1952 عندما كان سفيراً في السويد. وقد ناقش حينذاك هذا الأمر، مع الأمين العام لجائزة نوبل خلال عشاء دبلوماسيّ، آخذاً على الأكاديمية السويدية تجاهلها العالم العربي والشرق أو آسيا أرض الحضارات والأديان، التي تمثل ثلث سكان العالم. وكان، حتى ذاك العام، لم يفز بالجائزة إلا كاتب آسيوي أو شرقي واحد هو الشاعر الهندي طاغور. ورشح أيضاً ميخائيل نعيمة للجائزة، وأسرّ للأمين العام أن جبران وأمين الريحاني كانا يستحقانها قبل رحيلهما. وإن شرّعت حياة خليل تقي الدين الديبلوماسية أبواب العالم أمامه فهي ربما أثرت سلباً فيه أيضاً إذ"قضمت"الكثير من حياته الأدبية، حتى غدا مقلاً في ما أبدع. فأعماله القصصية لا تتعدّى الكتابين وتجربته الروائية تمثلت في ثلاث روايات كتبها تباعاً خلال حياته المديدة. لكن قصصه كانت فتحاً في عالم القصة اللبنانية سواء من الناحية الأسلوبية أو"التقنية"أم من جهة المادة القصصية والشخصيات. وقد شاركه في هذا"الفتح"توفيق يوسف عواد ثم فؤاد كنعان لاحقاً. وقد يعبّر عنوان مجموعته القصصية الجميلة"عشر قصص من صميم الحياة"عن نزعته أو هويته الأدبية. وقد كتب مرّة يقول:"أكتب لأصوّر الحياة كما تراها عيناي لا عينا غيري". لكن تصوير الحياة لم يعن له اهمال الخيال تماماً ولا الإغراق في القصّ الطبيعي الخالص ولا الإعراض عن البعد النفسي الذي يعتمل في داخل الشخصيات. قصة"السجين"لا تُنسى البتة وكانت من أولى القصص التي تضيء هذا العالم القاتم الذي دفع السجين المجهول الاسم والتهمة الى الانتحار داخل"الزندان"مضرماً النار في نفسه. وأذكر أنني عندما قرأت هذه القصة على مقاعد الدراسة فاجأتني مفردة"زندان"التي استخدمها الكاتب في معنى"زنزانة". وقد لا تُنسى أيضاً تلك اللقطة الرهيبة في قصة"سارة العانس"عندما تقف الفتاة العانس التي قاربت الأربعين عارية أمام المرآة وتكتشف جمال جسمها وقبح وجهها الذي جعل حياتها جحيماً. وأذكر أيضاً أنني عندما قرأت رواية"العائد"على مقاعد الدراسة لم أستطع النوم خائفاً من فكرة"التقمص"التي تدور الرواية حولها. ولم تخلُ هذه الرواية من البعد الفلسفي والديني المتمثل في مبدأ التقمّص. كان على خليل تقي الدين أن يؤسس، من غير أن يدري، المعالم الأولى لما يمكن تسميته"الأدب البوليسي العربي". وقد أفاد من اقامته خمسة أعوام في موسكو ليكتب رواية"تمارا"الفريدة بجوّها المعقّد والبوليسي والاستخباراتي. ثم كتب رواية"كارن وحسن"التي تجري أحداثها على خريطة الحرب العالمية الثانية وترسم أجواء التجسس التي سادت هذه الحرب لا سيّما في المانيا النازية وفرنسا ولبنان... وفي هذه الرواية يقرن الكاتب بين التاريخ والسياسة وفن التجسس... هاتان الروايتان يمكن وصفهما بپ"المدماكين"الأولين لنهوض أدب بوليسي حقيقي لا يتخلى لحظة عن ضروب الأدب الصرف، لغة وأساليب. كان خليل تقيّ الدين ناثراً كبيراً، في ما قص وروى، وفي ما كتب من مقالات أيضاً وخواطر ومذكرات.