عاد القاصّ اللبناني جورج شامي الى الحياة الأدبية بعدما انقطع عنها زهاء خمسة عشر عاماً. إلا أن تواريه عن المعترك الأدبي بُعيد هجرته لبنان وسكناه في باريس لم يعنِ انقطاعه عن الكتابة القصصية. فها هو يطلّ عبر مجموعة قصصية جديدة حملت عنواناً غريباً هو "قديشات آلوهو" وهي عبارة يردّدها الموارنة في القداس. وشاء جورج شامي أن يعيد طبع مجموعاته القصصية السابقة التي رسّخت موقعه في الحركة الأدبية اللبنانية المعاصرة، كقاصّ طليعيّ ومجدّد. وفي قصصه التي باشر في نشرها منذ منتصف الخمسينات بدا جورج شامي صاحب صوت أصيل وحديث وصاحب لغة خاصّة تضرب جذورها في أديم الأدب اللبناني من غير أن تنوء بأيّ ثقل أدبيّ صرف. فالقاصّ عرف تماماً كيف ينفتح على تقنيات القصّة المعاصرة انطلاقاً من خلفيّته الأدبية وثقافته. أما المجموعة الجديدة والمجموعات السابقة فصدرت جميعها عن دار الجديد. هنا حوار مع جورج شامي خلال زيارته بيروت: في مجموعتك الأولى "النمل الأسود" التي صدرت عام 1956 بدوت تنتمي الى أدب القصة اللبنانية، أو الى تراث هذه القصة، سواء في لغتك الأدبية أم في أجوائك القصصية. كيف ترى الى علاقتك برواد القصة اللبنانية من أمثال توفيق يوسف عواد ومارون عبود وخليل تقي الدين وفؤاد كنعان وسواهم؟ وهل تعتبر أن لك آباء في حياتك الأدبية؟ - لا أنكر أنني فتحت عيني على من ذكرت، وتفتّح ذهني على من هم أبعد منهم: الريحاني زنبقة النور وجبران الأجنحة المتكسرة وكرم ملحم كرم ألف ليلة وليلة واختلطت الجماليات عند هؤلاء الكبار مع الجماليات والصنعة عند أولئك الكبار أيضاً الذين اختلفت مضامينهم وتنوعت أساليب معالجتهم، يضاف اليهم ما أخذ يتسرب إليّ من الأدب العالمي والإقليمي، وأخص ما كنت اطالعه في "الهلال" وفي مجلة "القصة" التي كانت تصدر في مصر ولم تعمّر طويلاً وقد دلتني على ينابيع كثيرة من نجيب محفوظ الى يوسف إدريس، الى عبدالرحمن الخميسي، الى محمد عبدالحليم عبدالله، وتوفيق الحكيم، وطه حسين وتطول اللائحة بهم وتكبر... وهكذا تعددت المشارب وبرزت التململات والتلمسات في لغتي الأدبية وفي أجوائي القصصية التي كانت اقتباساً من الحياة العامة وحياتي الشخصية وأجوائي العائلية والتربوية، دون أن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بواحد من هؤلاء الرواد الذين يعتبر كل واحد منهم مدرسة قائمة بذاتها. من هذا المنطلق، باستطاعة كل واحد منهم أن يدّعي أنه أبي وأن يقدم عصارة من الأدلة على أنني أشبهه، ولكنه لا يستطيع ولا بأي شكل من الأشكال أن يثبت بالدليل القاطع انني من صلبه، وجينات قصص بكليتها من جيناته. وعلى هذا فأنا يتيم الأب أو ابن سفاح بفعل تعدّد الآباء وما أكثرهم! بدءاً من "أعصاب من نار" وربما من "ألواح صفراء" رحت تؤسس لغتك القصصية الخاصة وعالمك الموزّع بين الواقعية الشعرية والواقعية النفسية من دون أن تتخلّى عن النسيج اللغوي ذي المنحى الجمالي والمنقى. هل تعتقد أن تجربتك بدأت حقاً من هنا؟ وكيف تنظر الى خصائص مشروعك القصصي منذ انطلاقته؟ - تجربتي بدأت، مع "النمل الأسود" وقبل "النمل الأسود" في قصص لم تنشر في المجموعة الأولى، واستمرت تترسّخ فعلاً، لغة ومضموناً، بعفوية أخذت تنمو وتتنامى وتكتسب رونقاً من صفاء خالٍ من الهلع في المواجهة والتردد في تحمل عبء المسؤولية. "النمل الأسود" كانت مجموعة الاستطلاع، بينما "ألواح صفراء" كانت مجموعة الدعم، وكانت "أعصاب من نار" مجموعة الاقتحام! وهكذا اكتملت في الثلاثة تجربة مضيئة بواقعيتها الشعرية لأنها صدرت في مناخ شعري ثوري، وبواقعيتها النفسية لأنها واجهت تطلعات بعيدة الآفاق والأبعاد الحياتية والسياسية والإيديولوجية، وتأنقت فيها جمالية اللغة لأن في جمالية اللغة رومانسية خاصة ترفض روحي الشاعرة أن أتخلى عنها، وإذا تخليت ارتكب ليس فقط ما يسمى مغالطة أو حماقة، بل خيانة لقسم الشرف بيني وبين نفسي ألا أخون نقاء لغتي. لم تخلُ قصصك في "أعصاب من نار" مثلاً من الجو العبثي الذي ساد مرحلة الستينات فبدت شخصياتك تعاني خيبة وجودية وميتافيزيقية وتصطدم بجدار الحياة والموت والأسئلة الصعبة التي لا أجوبة عنها: كيف تحدّد أثر التيار العبثي والوجودي على قصتك في فترة من الفترات حين كان هذا التيار رائجاً سواء في فرنسا أم في أوروبا عموماً؟ - لم يكن الجو العبثي وقفاً على قصص "أعصاب من نار" وحدها، فهو مهيمن على قصص المجموعات الثلاث التي نحن في صدد الكلام عنها وعليها، فشخصياتي أو شخوصي في هذه المجموعات عانت من خيبات وجودية وميتافيزيقية واصطدمت بجدار الحياة والموت والأسئلة الصعبة التي لا أجوبة عليها، لأنني أنا بالذات كنت كل هذه الشخوص، وأنا هنا لا أنفصل عن أبطال قصصي كلها، فحياتي حياتهم، وحياتهم تعبير عن حياتي. وجوديتي وجوديتهم، وعبثيتي عبثيتهم، وهنا يلعب الصدق في الأداء دوراً مهماً في تسليط الاهتمام على المنبوذين والمقهورين والمسحوقين والمهمشين والساقطين من لوائح الشرف في الاهتمام العالمي، شخوصي ليست شخوص سارتر، ولا همنغواي، ولا كامو، ولا تشيخوف، ولا غوغول، ولا موباسان، ولا ششانيبك، ولا أوسكار وايلد، ولكنها في إنسانيتها تلتقي معهم بعيداً عن التسميات والتيارات في زحفها نحو تحقيق ذاتها ومضامينها. أنا لست كاتباً ذهنياً يقرأ ويقتبس ويكوّن شخوصاً وأشخاصاً وعالماً يستوعبهم، أنا أجسد ما هو واقع وما هو موجود تمجيداً للإبداع الأكبر الذي هو ابداع الخالق الذي لا يسمو ابداع عن ابداعه مهما تعددت الطرق والتيارات والاستفزازات والادعاءات. أنا انسان أعيش عارياً في عين الشمس! لهذا لم أقف يوماً عند رائج، ولم يشدني تيار ما، ولم أنتسب الى مدرسة بعينها، وكنت دائماً أقيم عازلاً بين ما هو تحت سيطرة الرؤية والمشاهدة وبين ما هو في داخلي الواعي واللاواعي أنفعل به وينفعل بي، كما البركان المتأجّج الذي لا يلبث حين يكتمل فورانه أن يثور وينفث حممه. خلال الحرب برزت كواحد من أبرز القصّاصين الذين تناولوا جو المأساة اللبنانية في طريقة واقعية حارّة وشعرية في الحين عينه: كيف كانت مقاربتك للحرب أدبياً وقصصياً؟ وهل تعتقد أنك استطعت أن تعبّر حقاً عن الأثر المأسوي العميق للحرب؟ - أولاً، أود أن أسجل أن مقاربتي للحرب كانت مقاربة المناضل لا مقاربة المرتزق، لهذا كانت حادة لأنها كانت شريفة، وحرصت أن تترافق مع رومانسية شعرية لأن الشعر كان رفيق الحروب والمحربين على مرّ العصور، ورفيق الإنسانية منذ بداية الخلق الى اليوم، ورمزانيتها من الهمم، والحافز على ايقاظ الروح الوطنية. ولقد عبّرت عما عشته ورأيته وأحسسته. أنا قاربت الحرب بالقلم لا بالرصاصة، ولم أحرّض لا على القتال الطائفي، ولا على القتال المذهبي، ولا على القتال الحزبي، أنا لمت الغريب على ما فعله في بلدي واستنكرت عمله وغدره وتنكّره، وحين ألقى سلاحه وخرج، خرجت بدوري وابتعدت، وكان من حسن حظي أنني لم أشهد حرب "الأخوة". ولا حرب "الإلغاء". أنا لا أدعي أنني استطعت في تلك الفترة الزمنية القصيرة أن أعبّر حقاً عن الأثر المأسوي العميق للحرب، ولكنني بدأت والآثار ما زالت ترافقني وأعيشها وأستعيدها في ذاكرتي وفي ذهني وعلى الورق. وأنا أشكرك على استعمال أفعل التفضيل في اعتباري "أبرز" القصّاصين الذين تناولوا جو المأساة اللبنانية التي لم تكتمل فصولها بعد وأرجو أن تكون نهاياتها لمجد لبنان الذي أفخر بانتمائي اليه. ألم تكن كتابتك عن الحرب قريبة من رد الفعل تجاهها إذ أنك كتبت في جحيمها مباشرة؟ ألا تعتقد أن الكتابة عن الحرب تتطلب بعض الوقت أو بعض الابتعاد عن جحيم الحرب، كي تستقيم وتكون حقيقية أو موضوعية في معنى ما؟ - أنا لا أؤرخ ولا أوثق في قصصي عن الحرب، سواء في تلك التي صدرت، أو في تلك التي ستصدر، أنا تعاطيت مع الحرب التي عشت في جحيمها مباشرة ومع هذا حرصت ألا يكون لرد الفعل الأثر الطاغي. أنا قدّمت مادة ساخنة وملتهبة أحياناً، لا مادة باردة، باهتة، ناحلة، فيها اجترار وعلك ومداورة لأنها مسكونة بالخوف وبالهروب وبنضالية ذات مخزون مبني على معادلات ومناظرات وتنظيرات. أنا كتبت عن الحرب في لبنان لا عن الحرب في بيروت فقط وتنكّرت للبنان، وكأن بيروت مدينة مفصولة عن جسد لبنان، كتبت دون ما الخضوع لمعادلات حسابية ومنبرية. أنا قاتلت الغريب، والقتال بطبعه وبطبيعته ساخن. في حرب المصير لا معنى للموضوعية، والحرب بدأت حرب مصير. أما البعد الذي اتخذته في ما بعد وجُرّ اللبنانيون اليه، فكانت الغاية منه تشويه النضال الشريف وإضفاء صفات غير شريفة عليه. وهذا لا يعنيني، وما كان ليعنيني في تلك المرحلة التي كانت الحرب فيها تتميّز بنبل البكارة وطهارتها. وتفّ على الكذبة والمرائين والمرتزقة وتجار الحروب! قصصك في "أبعاد بلا وطن" و"وطن بلا جاذبية" تتخطى القصة القصيرة وتقترب بعض الاقتراب من الجو الروائي من غير أن تطمح الى أن تكون رواية: لماذا لم تكتب الرواية، علماً أنك لست غريباً عنها؟ هل هي قضية محض تقنية أم أنك آثرت القصة القصيرة تبعاً لنزعتها الأدبية عموماً؟ - طموحي أن أبقى متميزاً بقصصي الصغيرة التي أحاول أن أحقق من خلالها تجارب فنية تتفرّد بخصوصية معينة وبعفوية في الأداء لا تختلف عن عفوية السلوك الذي يتميز به الإنسان في حياته العامة. في كل قصة قصيرة كتبتها تجربة لا تشبه سابقتها وتختلف في مساحتها ومضمونها تبعاً للحاجة الإبداعية التي أحاول صبّها في قالبها. في الحقيقة شحنت قصص "أبعاد بلا وطن" و"وطن بلا جاذبية" بمفهوم مغاير لما سبقها لأن المناخ الذي كتبت فيه والمضمون يحتملان سلوكاً فيه نفس ملحمي، لكنني لا أغرق، في الملل الذي يشكله البعد الأسطوري في الحروب. الواقعي لا يحمل والتجربة بحد ذاتها تفرض عدم الاغراق في الاشطرار. ولكن التجربة حفزتني على الخروج من الكتابة المسنّنة بنت الومضة الى الاستغراق في الأداء الروائي. وأنا في صدد اعادة النظر في رواية مكمّلة لنظرتي الى جحيم المأساة اللبنانية في مفهوم مختلف عن كل ما كتب عنها حتى اليوم، وما قاربها، سواء في الإطار، أو في المضمون، أو في الأداء، أو في الرؤية، لا بحثاً عن موضوعية معيّنة ولا لكي تستقيم الحقيقة، بل لأنني أشعر أنه لا بد من التكفير عما ارتكب وما شوّه صدقية النضال. أنا لا أدين كي لا أدان. ولكنني لا أتخلى عن نضالي الذي يجب أن يأخذ شكلاً آخر ويثمر وطناً نظيفاً. أنا لا أتنصل من مسؤولياتي ولا أقول كغيري من الشعراء والأدباء، نحن براء من دم الوطن، والحرب لا تعنينا، الحرب تهمني كل نملة في لبنان، ومستقبل الوطن في أعناقنا لأني اعناق الشذاذ. في قصصك الأخيرة التي حملت عنوان "قاديشات آلوهو" تبدو أقرب الى جورج شامي الصحافي، إذ غدت تلك الأقاصيص الصغيرة جداً أشبه بالمقالات الأدبية أو اللوحات أو الصور، هل تعتقد أن هذه الأقاصيص تمثل الوجه الصحافي من شخصيتك الأدبية؟ - أنا جئت الى الصحافة من رحم الأدب، والصحافة كالأدب فعل كتابة وهما يلتقيان في الكثير من الخصائص التي تكاد تكون واحدة، ويختلفان في بعضها. فالإثارة والتشويق خاصتان مشتركتان، ولكن الأسلوب مغاير ومتغيّر وفق معطيات يفرضها الخبر أو الحدث أو التحليل أو التعليق أو التحقيق. في الغالب الكتابة في الصحافة مسطَّحة بينما هي في الأدب معمّقة، وهي في الصحافة آنية، بينما هي في الأدب أبدية، وان كان كل إبداع في النهاية باطل الأباطيل! أنا في "قاديشات آلوهو" قدّمت تجربة تعتبر بحد ذاتها لوناً قصصياً مشحوناً بكثير من الخصائص والمميزات التي تجعله مقارباً لروح العصر دون أن تفقد ديمومتها. الوجه الصحافي لجورج شامي سيظهر في القطوف التي اقتطفها من مسيرة كتاباتي الصحافية على امتداد ما يقارب النصف قرن من العمل الصحافي، وهذه تختلف عن مسيرتي الأدبية القصصية. لقد حاولت في احدى اقاصيص مجموعتي "أعصاب من نار" أن أقدم قصة "خطوات على الماء" وهي مستوحاة من تحقيق صحافي كتبته ونشرته آنذاك أي منذ ما يقارب الأربعين سنة، في جريدة "الحياة" التي كنت أنتسب اليها، ثمت حوّلته الى قصة من دون أن يفقد روح التحقيق، وكان محاولة "تطعيم"، بحيث ينبت من العوسج تين! وكررت المحاولة في قصة "نسر فوق الصمت" في مجموعة "قديشات آلوهو" بحيث حوّلت التحقيقات الصحافية حول نزول أول إنسان على القمر منذ ما يقارب الثلاثين سنة الى قصة. فعلت ذلك عمداً في محاولة اختبار جديدة. أما ما تسمّيه مقالة أو لوحة أو صورة وهو في الحقيقة ومضة فيها خروج عن المألوف والاغراق في التفاصيل فقد وجد فيه كثيرون من كتّاب القصة، ذروة الاحتراف في الأداء المكثّف. وهنا يلتقي الصحافي بالأديب ويشكلان واحداً أحداً لا يتجزأ ويبقى فن كتابة القصة العنوان الأبرز في إرثي الأدبي. لا تخلو بعض قصصك من النفحة الغنائية ولا سيما قصص الحرب، وهي غنائية تذكر بنفس لبناني وسم الأدب اللبناني أو المدرسة اللبنانية في النثر" الى أي حد تعتبر نفسك تنتمي الى هذه المدرسة الجمالية التي بات روادها نادرين؟ - ليس ضرورياً أن تكون الجمالية في الأدب وقفاً على خاصة الغنائية! وغنى المدرسة اللبنانية في النثر بهذه النفحة، يغني النثر والشعر معاً، أنا لا أنكر أنني أنتمي الى هذه المدرسة، التي أرجو أن تنشط من جديد دون ما اغراق في الإنشائية، هذه الغنائية هي التي أنقذت اللغة من الهرطقة التي تتعرض لها وصانت حصانتها. قلت في جواب سابق أن الغناء رافق الإنسان منذ البدء، رافقه في أفراحه، وفي أتراحه، وفي هزائمه وفي انتصاراته، في كفره وفي تعبّده، في وحدانيته وفي شموله، في تطلعاته وفي تطوره، في معاناته ومآسيه وانتكاساته، وما زالت الأناشيد والغنائية صفة ومادة ملازمة للإنسان كلما انفرد في مصلاه لمحاكاة خالقه. قليل من الغنائية يحيي روح النص إذا نزلت تنزيلاً سليماً... وكلنا مفتونون بالجمال!