استحقت رواية "الهجرة الأخيرة" لجاد الحاج، اهتماماً لافتاً من شخصيات فكرية وفنية اشتركت في ندوة حول الكتاب في "مسرح المدينة" في بيروت. وأطلقت فرقة الممثلين الشباب الندوة الى أبعاد روحية وفلسفية بعدما أدت بالصوت والجسد مقاطع مرهفة من محطات رئيسة في الرواية. وتحدث في الندوة عميد كلية الآداب في جامعة البلمند نديم نعيمة، وسفير لبنان السابق لدى استراليا والاستاذ في العلوم السياسية في الجامعة الأميركية لطيف أبو الحسن، والكاتبة والشاعرة حياة أبو فاضل، والصحافي في "دايلي ستار" رمزي شورت، والمخرجة المسرحية والممثلة نضال الأشقر التي اختارت مقاطع حوارية من الكتاب لتلقي ضوءاً على التزاوج الناجح بين عمق النص وعفويته، وعلى الامكانات الواسعة التي يقدمها الكتاب في مجالات المسرح والسينما. نحن أمام نص باللغة الانكليزية لكاتب لبناني هو شاعر وصحافي يفكر ويكتب باللغة العربية، ويتقن مداخلها ومخارجها. ويمكن القول هنا، كما ورد على لسان أحد المشاركين في الندوة، ان جاد الحاج يكمل مسيرة انطلق بها كتّاب لبنانيون من عصر النهضة، أقاموا في الولاياتالمتحدة الأميركية، وكتبوا باللغة الانكليزية وأجادوا أدباً وفكراً، أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني. الا ان الكتابة الأدبية بغير اللغة الأم مهمة صعبة. فاللغة الانكليزية الأدبية ليست لغة البيوت في لبنان حتى لو دخلها الكومبيوتر ولغته، بعكس الفرنسية التي ما انقطعت فيها الكتابة الأدبية لدى اللبنانيين. لذلك جاء كتاب الحاج بالانكليزية يملأ فراغاً واسعاً في الساحة الأدبية اللبنانية المهجرية. واستطاع كاتبنا ان يطوّع لغته الانكليزية بحذاقة العارف لتأخذ الشكل الأدبي والروائي الذي خرج به الكتاب. ولئن استشار، مثل كثيرين من الكتّاب، مستشارة متخصصة في الكتابة الأدبية، هي البريطانية ليديا سميث، التي حضرت الى بيروت للمشاركة في الندوة في "مسرح المدينة"، فالقصة قصته بامتياز، أكانت في الأفكار الخيالية المبتكرة أو في المضمون الحياتي المعاش، أو في أدنى شاردة وواردة، خصوصاً في الفاتحات الشعرية في رأس كل فصل من فصوله الغنية بحب الحياة وإن عبرت أودية المرض والحزن والموت والهجرة والعشق والانفصال والحنين. ف"الهجرة الاخيرة" قصة شيقة لمهاجر لبناني يمتهن الصحافة، نفته الحرب الى شواطئ استراليا مع زوجته وابنتيه، واكتسب في مسيرته الصحافية، ثقافة لغوية وحضارية ومعرفة في الفوارق بين الشعوب، ما أدى به الى اختزان حكايات وحكايات، حيثما حطّت قدمه. وكم كان مصيباً في وضع خلاصة تجربته في رواية باللغة الانكليزية، قد تنقصها عقدة البناء القصصي، كما أشار أحد المشاركين في الندوة، ولكن لا ينقصها التشويق القصصي والنبض السريع للكلمات والمفارقات التي تصل بالأحداث الى مواقع وأبعاد فكرية وجسدية ونفسية غير منتظرة. في "الهجرة الاخيرة" يدخلنا بطل القصة أشرف سعد مباشرة الى حزنه على الحب الكبير لامرأة فرنسية، يلتقيها في احد المؤتمرات الأدبية في أمستردام، ويخسرها أثناء بحثها عن معلومات لكتابها الذي تدور احداثه في المكسيك، اذ تموت في عاصفة هناك. يحدد الحاج في مطلع روايته بطليه الرئيسين، أشرف وكلير، والأمكنة التي تدور فيها الأحداث، لندنوأمستردام، والخلفية الموجودة دائماً، لبنان وأستراليا. البطلان عاشقان تجمعهما الكلمة الأدبية والانسجام النفسي. خرج كلاهما من زواج فاشل ثمرته بنات في سن المراهقة لهن مشكلاتهن ورغباتهن واللاإستقرار الذي يسبق مرحلة النضوج. وتدخل في الرواية حالات كثيرة تعيشها عائلات لبنانية في الوطن والمهاجر، منها مثلاً، تأثر زوجة بطل القصة بآراء دينية متشددة جعلت اهتماماتها العائلية ثانوية امام انتمائها الديني. ويتم الطلاق ويخرج أشرف من استراليا الى لندن، حيث مركز عمله، مروراً بلبنان، حيث تقيم أمه في "قانا" التي اختارها كاتبنا ليلقي ضوءاً على مأساتها. يظهر في الرواية فهم عقلية المرأة على اختلاف طباعها وشخصياتها. ففي الكتاب ثلاث نساء رئيسيات عشقن البطل أو هو عشقهن: كلير، المرأة المثقفة، الشاعرة، العميقة الاحساس التي تنتمي الى فئة النساء الفرنسيات الكاتبات اللواتي آمنَّ بمبادئ الثورة الفرنسية ومارسنها وشاركن في انتفاضة الستينات الطلابية في باريس من أجل مجتمع أفضل. جيني، المرأة البريطانية المرتّبة والمنظمة، اختصاصية العلاج الفيزيائي، لا تفهم من الحب غير حاجات الجسد والأحاسيس الخارجية، والتي تكاد تطيح أشرف عندما يدخل عالمها الخاص. وأخيراً أنّا، صديقته الايرلندية الواقعية، العملية في مهنتها وحياتها، لكنها مملوءة حباً وعطفاً وعناية، وهي التي تنقذه من ورطات حياته، ويسكن اليها كأي رجل شرقي يبحث عن المرأة. وهذه الفكرة استفاض فيها نديم نعيمة في ندوة "مسرح المدينة".