كلنا متفقون على أن مجتمعنا لا يعرف من ثقافة العمل الطوعي، سوى ما أملته عليه التعاليم الدينية في حالات الأزمات والمصائب والكوارث الإنسانية حرائق- حوادث- الخ... وجرت العادة أن يتعرض كل عمل طوعي خارج الإملاء الديني، إلى الهزء والريبة والسخرية، فاسحاً المجال لخيال الكسالى والمحبطين من المثقفين المتوسطي العقول، لشن حملات التشكيك بنوايا ودوافع العمل الطوعي النبيل وتتفيهه، وبخاصة أن معرفتهم بالعمل الطوعي لا تتعدى خبرتهم بما علمتهم إياه السلوكيات السوفياتية والاشتراكيات الممسوخة عنها، سواء كان ما يسمى بيوم"العمل الطوعي الإجباري"، أو القيام بأعمال طوعية نبيلة لكنها ارتجالية وغير مدروسة تبوء بالفشل، فتنعكس خيبة مريرة على القائمين بها وتبث الفرقة بينهم. فيتحولون إلى عدوانيين، متجاهلين أن أفراداً وجمعيات أهلية، لا زالت تأمل وتجهد بما أوتيت من طاقة وجهد، للبناء والتغيير والترقيع لحالات استفحلت من التخلف والظلام والجهل والفساد والإستبداد الشعبي والرسمي. للعمل الطوعي سحر خاص وفوائد طيبة، فهو يخفف من النظرة العدائية أو التشاؤمية تجاه الآخرين والحياة، ويحد من النزعة المادية والفردية، ويزيد الثقة بالنفس ويهذب الشخصيَّة، ويقوي الأمل والتفاؤل، ويتيح للفرد اكتساب معلومات ومهارات جديدة، أو تحسين مهارات يمتلكها أصلاً، قد تعينه على اختيار حقل يتخصص فيه، كما يتيح للإنسان التعرف عن كثب على مجتمعه والتَّماس مع قضاياه وإنشاء صداقات عملية جديدة مع أناس يختلفون عنه في السن والقدرات والخبرات. لكن العمل في"الصناعة"الثقافية الطوعية في مجتمعاتنا المتخلفة عمل مجهد وصعب، وهو مغامرة بحاجة إلى عناصر ضرورية من عزيمة ومعرفة وإرادة وصدقية، أغلبها للأسف معطوب لدى قسم كبير من شبابنا المتحمس للعمل. ويتجلى ذلك بالبون الشاسع بين رغبتهم العالية في التحسين والتطوير، وبين ضعفهم المعرفي في تقدير إمكاناتهم، كما يتجلى ذلك في نقص عزيمتهم، حيث نراهم يعيشون حالات متنوعة من التردد والتخوف والتحفظ بسبب قلة الدعم المادي والمعنوي، وأيضاً لوجود نقص فادح ببعض حاجات العمل الطوعي مثل الحنكة والأخلاق والجرأة والمرونة، فتراهم ما إن يشرعوا بإقامة مشروعهم، حتى ينكفئوا عنه، قبل أو بعد إقلاعه، وفي أحسن الأحوال ينجزونه باهتاً وبشق الأنفس، ومع ذلك لا يسلمون من ألسنة الآخرين ومضايقاتهم. وبغض النظر عن الأسباب التاريخية لهذا العطب الفادح، والتي تتلخص بإهمال ومضايقة الجهات الرسمية للأعمال الاجتماعية والثقافية الطوعية الخارجة عن توجهها، هناك أسباب أخرى في اعتقادي هي أهم من سابقتها، يعيشها هؤلاء الشباب، مبنية على مفاهيم شعبية متخلفة، يمارسونها ويتحذلقون في إخفائها حين يحق الجد، ومثال ذلك، ضعف إيمانهم بأنفسهم، وقلقهم من ريبة ونظرة أصدقائهم من المثقفين المتوسطي العقول، والمتقاطعة مع النظرة الشعبية السوقية تجاه العمل الطوعي، وعدم قدرتهم على تخفيف أنانيتهم، وحماية حقوقهم، لغياب القوانين الناظمة، مما يجعلهم ضعفاء أمام هجمات الآخرين وألسنتهم المشككة بعملهم الثقافي وقدرته على الاستمرار، واعتباره مضيعة للوقت والجهد والمال، فتراهم وقد انكفأوا عنه لدى مطلع حملات التشكيك بهم، لينهزموا فوراً، وينضموا إلى حظيرة الآخرين الساكنة لينوحوا معهم!! وهؤلاء الآخرون، كثيرون في عالمنا العربي، حيث يعيش الإنسان المقهور والمغلوب على أمره وتنتشر ظاهرة التواري خلف الصعوبات والعراقيل، بل والافتخار بالجبن، فتعم السلبية واللامبالاة وعدم المواجهة. وأغلبهم لا يجد في ذاته روحا ايجابية تعطيه نوعاً من الوجود المشروع، فيمتلئ بالسلبيات ويضيق ذرعاً بها، ولا يجد وسيلة للتخفيف منها سوى إسقاطها على الآخر وزرع الشبهات حوله، فيريح ذاته مما تحمله من خمول ووهن وشعور بالتفاهة وأعباء نفسية مؤلمة. وفي أغلب الأحيان ينجح نفث سموم الشك بين المتطوعين في فرط عقدهم، إذا كان عملهم ارتجالياً وانفعالياً وغير مقنن. ومن الجميل أننا لا زلنا نرى، بعد هذا كله، روح التطوع متوفرة لدى أغلبية الناس في مجتمعنا، ولكن روح المبادرة والمتابعة هي الغائبة، بسبب العقبات الكثيرة والمختلقة أمام المتطوعين، سواء كانت إجراءات إدارية، أو قلة الدعم، أو غياب القوانين الناظمة لهذا النوع من الأعمال، إضافة إلى غياب المرأة التي هي صلب ثقافة التطوع. لذلك تتحمل الدولة مسؤولية وضع اللوائح والأنظمة التي تكفل حماية العمل التطوعي وتشجعه وتساعد على القيام به، وأن تبارك المجتمع الاقتصادي المحلي في حال رفع عنها بعضاً من أعبائها والتزاماتها الثقافية من خلال شطب بعض ضرائبه المالية، أسوة بتعامل الدول المتحضرة مع مجتمعاتها الاقتصادية لذات الشأن. حين قررت الخوض في العمل الثقافي المباشر الموجه للناس وبأسلوب العمل الطوعي، كنت أدرك أني سأخوض في مستنقع آسن عاري الجسد. قوانين بالية من جهة، ومجتمع تحكمه آفات متعددة من جهة، وطيف واسع من المتكلمين والأصدقاء الكسالى من جهة، أضف إلى ذلك الصعوبات الإدارية والتقنية للعمل نفسه. ويقيني كبير أن هذه الحالة الثابتة والراكدة من التفاهة والسطحية ستزداد صلابة مع مرور الوقت، وأن الفرص الأخيرة لأي نشاط ثقافي واجتماعي ستتحول أو تصبح قاب قوسين أو أدنى من العمل التجاري المزيف بالقناع الثقافي، في عصر اللهاث وراء الاستهلاك، ويشجع ذلك نماذج فريدة هبطت علينا من عالم الجهل والفساد الثقافي. إن حاجتي الماسة لترجمة أفكاري وإضافة قيمة إنسانية وروحية لمواطنيتي، من خارج القيمة المعنوية والربحية التي أحققها من مهنتي، دفعتني لبت الأمر من دون تردد. نحن محاطون بكم كبير من الأصدقاء اليائسين ممن يندبون حال الفن والثقافة ليل نهار، يشعرونك أنهم طاقة كبيرة ومهملة وبحاجة إلى فرصة ثقافية يغذونها ويتغذون بها. وتظن أنت أن مشكلتهم تكمن في رهبة المبادرة أو في فقدان الفرصة. لكن لا تتفاجأ إن حدثت المبادرة وأتت الفرصة وغابوا عنها في اللحظات الحاسمة، وبخاصة من كانت نظرات عيونهم متلهفة، وأيديهم تضرب صدورهم حماساً! هؤلاء الأصدقاء وغير الأصدقاء، أهديتهم ملتقى النحت العالمي رداً على غيابهم وسلبيتهم إزاء نجاح ملتقى النحت الأول 2006 في مشتى الحلو، وإمعاناً في تحريضهم على العمل والمشاركة في المتعة، ذكرت لهم في إهداء ملتقى النحت العالمي:"هذا الملتقى ثمرة حراك بدأ فردياً وانتهى جماعياً... وهو مهدى لكل المكتئبين والمحبطين واليائسين من أي نشاط اجتماعي ينتج جمالاً وثقافة وبهجة". وبالرغم من أن بعضهم تحرروا قليلاً من سلبيتهم، وتقدموا خطوة، كانت كافية لإضافة قوة طيبة للملتقى الذي حقق نجاحاً فائقاً، لكنهم سرعان ما تراجعوا عنها أمام دعوة جديدة وجريئة لإقامة ملتقى الرسم الدولي الأول في سوريا، لنسد فيه ثغرة معيبة في حياتنا الفنية والثقافية حيث نفتقد كسوريين وجود ملتقى للرسم الدولي كما في المجتمعات والدول المجاورة!! ولنجعل الملتقى حدثاً مكمّلاً لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، بعيداً عن إدارة المؤسسات الثقافية الرسمية، التي يأخذون عليها المآخذ أيضاً، ولنوظف نتاجه من لوحات القصائد، لتكون نواة لتأسيس متحف قصائد الفن التشكيلي. تأكدت تماماً بعد إقامتي لثلاثة ملتقيات كبيرة للفن التشكيلي، تخللتها أنشطة ثقافية كبيرة من ورشات ومعارض للأطفال وحفلات موسيقية ومعرض كتاب استمر بنجاح 70 يوماً، أن ندّابي الفن والثقافة والحرية يعتمدون السلبية الشعبية التاريخية وقت الأزمات، كمنهج تفكير وسلوك حياتي آمن، يضمن لهم الإستكانة والأمان والبراءة الساذجة والمواطنة الصالحة كما يريدها أصحاب الشأن مع إظهار بعض الإمتعاضات غير المسؤولة لحفظ ماء وجههم كمثقفين يتقولون دائماً باهتمامهم بالشأن العام، محملين الوزر كله لأنظمتهم المستبدة، وأنه"ما في أمل"، غافلين أن هذه الأنظمة ترتع على استكانتهم وسلبيتهم وعلى تخلف المجتمع الأمي المعرفة والثقافة، فأصبحوا بسلبيتهم الآمنة هذه شركاء قصديين غير مرئيين للاستبداد!! كان عليّ اتخاذ قرارات كثيرة وحاسمة في أزمان قصيرة، بعضها خاطئ كلفني الكثير لتصحيحه، وبعضها يحدد مبادئ وقواعد العمل وسياسته وتوجهه واضعاً تحت إبطي حكمة لأحد حكماء التيبت، تقول:"إذا تمنيت أن تنجز إنجازاً عظيماً، تذكر أن كل إنجاز يتطلب قدراً من المجازفة، وأنك إذا خسرت فأنت لن تخسر كل شيء لأنك تتعلم دروساً... لن تضل الطريق لو تمسّكت باحترام الذات ثم احترام الآخرين، وتحمل مسؤولية كل فعل". هل أتكلم عن رهبة القرارات وضغوطها والمفاجآت والحوادث غير المتوقعة، أم عن الأمزجة الهوائية التي صادفتني، أم عن العيون الزجاجية لبعض الأصدقاء المستكينين، والابتسامات الصفراء المرعبة لبعض الموظفين من أصحاب الأختام؟ كل هذه المكابدات الشخصية قبل وأثناء تحقيق الملتقى، ستبقى ذكرى شخصية، لا أريد أن أندبَ خلالها على أطلال المؤسسات الرسمية التي انسحبت فجأة من دعم المشروع الأخير وفي الوقت المميت، ولأسباب لا يمكن تبريرها في سياق أي مشروع ثقافي ووطني من هذا النوع. والآن وبعد أن نجح ملتقى الرسم الدولي الأول في سورية، وبأسلوب العمل الطوعي، بهمة الشجعان من الأصدقاء المتطوعين، وبشهادة الفنانين الدوليين الكبار المشاركين، والزوار من العرب والأجانب والشخصيات الثقافية المعروفة، وسددنا فيه الثغرة الآنفة الذكر، وكسرنا رهبة المبادرة لنفتح الباب للآخرين أمام إقامة ملتقيات أخرى، فإني أعتقد أنه يحق لنا من منظمين وفنانين مشاركين وضيوف ورعاة أن نفخر بهذا الإنجاز الأهلي الثقافي التاريخي الذي لن يرثه أحد سوى أحفادنا. وفي الختام وعلى ضوء رؤيتنا النظرية وتجربتنا العملية في صناعة العمل الثقافي الأهلي فقد وصلنا إلى نتائج أكيدة، لعل هناك من يستفيد منها ويوفر وقته وجهده فيها. ومنها: إن نجاح المشاريع الثقافية في مجتمعاتنا المتخلفة يبقى نجاحاً محدوداً، إذا غابت عنها بعض المقومات، أولها: أن تستطيع هذه المشاريع لفت نظر المجتمع المحلي وأن تشركه فيها، وثانيها أن تحمل فكرتها إشكالية ما، القصد من الإشكالية هنا اختيار فكرة أو موضوع يقبل تعدد الأوجه والقراءات ويثير الجدل وثالثها أن يكون هدفها قريب المدى وبعيده في آن واحد، وآخرها أن يتوفر مصدر التمويل الكافي لتغطية تكلفتها والتي غالباًَ لا تكون كبيرة. وقد استطعنا أن نحقق هذه المقومات في المشاريع السابقة لورشة البستان في ملتقى النحت الأول 2006 وفي ملتقى النحت العالمي 2007 وفي ملتقى الرسم الدولي الأول في سورية 2008. إن كل جهد بذل في هذه الملتقيات، مهما كان صغيراً جدير بالشكر، وبخاصة أنه يأتي في أيام من الصعب تقبل فكرة القيام بعمل لا مردود مباشر منه. * ممثل سوري.