في الوقت الذي يشغل الخبرالإيراني السياسي عناوين الصفحات الاولى ومقدمات نشرات الأخبار بدءاً بالملف النووي والعقوبات المفروضة على البلاد وصولاً إلى احتمالات وقوع ضربة عسكرية, يبقى نبض الشارع والحياة اليومية لسكان العاصمة طهران في ظل تلك الأحداث بعيدين من التناول الإعلامي. وغالباً ما تختزل التصريحات الرسمية الآراء كلها ووجهات النظر المختلفة فتدمجها في صوت واحد يخفي وراءه أصواتاً أخرى. لكن كيف يعيش أبناء طهران؟ ما هي هواجسهم وطموحاتهم؟ كيف هي نظرتهم الى العالم ونظرة العالم اليهم؟ والاهم، ما انعكاس القرارات الدولية عليهم وكيف يستعدون للحرب إن جاءت؟ بعيداً من ادعاء تقديم إجابات قاطعة لكل تلك الأسئلة, زارت"الحياة"طهران وعادت بتحقيقات ميدانية تبدأ اليوم بنشرها: توقف العمل فجأة في إحدى الدوائر الرسمية في العاصمة الإيرانيةطهران وبات على المراجعين الانتظار مدة ساعتين تقريباً الى حين عودة التيار الكهربائي أو العودة في اليوم الثاني. كثيرون فضلوا الانتظار علهم ينجزون معاملات تستغرق وقتاً وجهداً كبيرين، إضافة إلى أنهم لا يعلمون أي عقبة بيروقراطية غير متوقعة قد تواجههم في اليوم التالي. بدأ التململ والتأفف وراحت وتيرتهما ترتفع كلما زال مفعول المكيفات الهوائية في يوم قائظ بلغت درجة الحرارة فيه نحو 40 درجة. أحضر موظف إبريق ماء فيه ثلج ليخفف عن المواطنين، وبدا كأنه يعرفهم واحداً واحداً لشدة ما ترددوا عليه أخيراً."بارييه"إحدى المراجعات تأتي يومياً ومنذ أكثر من أسبوع إلى هذه الدائرة لتأخذ ورقة هي بحاجة ماسة إليها لكنها في كل مرة تعود خائبة، وكانت شبه واثقة من أنها اليوم ستنجز المهمة المستحيلة. سوى أن انقطاع التيار الكهربائي فاجأها، فما عاد في إمكان الموظف طباعة الورقة عبر الكومبيوتر. عقبة بسيطة كهذه قد تؤجل العمل أياماً أخرى، قالت"بارييه"التي تعمل في شركة تصميم غرافيكي:"حتى لو انتظرت وحصلت على الورقة اليوم سيترتب علي العودة غداً لتوقيعها لأن مدير الدائرة غادر وهذا يعني إجازة أخرى من عملي وتنقلات إضافية عبر طهران كلها". ويختلف تقنين التيار الكهربائي المفروض حديثاً على الإيرانيين بين منطقة وأخرى وتتراوح ساعاته بين اثنتين وأربع ساعات وقد تبلغ أحياناً 6 في ضواحي العاصمة. ويعود السبب في ذلك بحسب التفسير الذي تعطيه الجهات الرسمية الى أن إنتاج الطاقة يعتمد على المياه والسدود في شكل أساسي، لكن شح الأمطار هذه السنة أضعف الإنتاج وكان لا بد من فرض التقنين. إلا أن هذه الحجة لا تقنع سكان طهران. فهم يحتسبون كل سنتيمتر من الثلوج التي تساقطت هذا العام والتي لم تشهد إيران كلها كميات مشابهة لها منذ نحو خمسين سنة، وهم يعرفون أيضاً أن إنتاج الطاقة بواسطة المياه لا يتجاوز نسبة العشرة في المئة من مجموع إنتاج الطاقة، فيما الاعتماد الفعلي هو على الفيول. لكن ثمة مشكلة أخرى في هذه المسألة واجهت الحكومة والمواطنين على حد سواء وشكلت مصدر قلق وإزعاج إضافي لأبناء طهران، ففي الشتاء الفائت اضطرت الحكومة إلى فتح بوابات السدود للتخلص من فائض المياه نظراً إلى أن السدود قديمة جداً ولم تخضع للصيانة منذ سنوات وهي قابلة للتصدع في أي لحظة وإحداث كوارث. تقول مهناز 39 سنة وهي موظفة بنك:"حكومتنا ترسل المال لبناء السدود في فنزويلا وبعض دول أميركا اللاتينية التي لم أسمع عنها وتبيع الكهرباء لتركيا ونحن نعيش في تقشف كأننا فقراء". منذ عام تقريباً اتسعت دائرة التقشف تلك فما عادت المواد المقننة تقتصر على الكهرباء وحدها وإنما طاولت المياه والغاز وحصص الوقود التي تعطى لأصحاب السيارات. فصار يحق لكل صاحب سيارة ب 120 ليتراً في الشهر فقط لا تكفيه أحياناً لقضاء أعماله في عاصمة تمتد على مساحة 1500 كيلومتر مربع ويقطنها نحو 14 مليون نسمة يرتفع عددهم إلى 18 مليوناً نهاراً. أما السائقون العموميون فيتقاضون كمية أكبر من الوقود تبلغ 400 ليتر. ولكن عوضاً عن استعمال تلك الكمية في نقل الركاب وتشغيل مكيفات السيارات في الصيف الحار، يبيع السائقون بعض الكمية في السوق السوداء ويمتنعون عن تشغيل المكيف ليوفروا بعضها الآخر ويعملون بما تبقى. وفي حال طلب راكب سيارة أجرة تشغيل المكيف في مقابل مبلغ إضافي من المال يرفض السائق ذلك بشدة بذريعة أنه يخاف من التبليغ عنه بتهمة"التبذير". وتعمل بعض السيارات العمومية على الغاز من نوع"ال بي جي"ولكن مع العقوبات الجديدة المفروضة على البلاد وصعوبة استيراد هذا النوع من الغاز، بات على أصحاب تلك السيارات تبديل محركاتها لتعمل على نظام"سي إن جي". ويقول مهدي الذي يعمل سائق تاكسي منذ 15 سنة انه لم تمر عليه أيام أصعب من هذه. فهو لا يملك ثمن تغيير سيارته أو حتى محركها، وقرار من هذا النوع قد يفقده عمله في شكل نهائي ويفقد عائلته دخلها الأساسي. وقال:"نحن نعيش أياماً تعيسة جداً ومرشحة لأن تزداد سوءاً. أموالنا تذهب لتمويل الحروب في لبنان وفلسطين والعراق ونحن نجوع". ولا يبدو على مهدي أو غيره من سكان طهران أي اهتمام فعلي بتلك النزاعات إلا من باب الحسرة على المساهمات المالية الإيرانية التي يعتقد كثيرون أنها تذهب من حسابهم وهم أولى بها. وقال مهدي:"أنا لا أريد حرباً مع أحد! فالفلسطيني واللبناني والعراقي لا يهتمون بي ولا يعرفون كيف أتدبر أموري وما هي قضيتي في الحياة، لماذا أهتم أنا لأمرهم؟ إذا كانوا يريدون حرباً مع إسرائيل فليخوضوها من جيبهم الخاص وليس من جيبي!". وفي حين تمتد زحمة السيارات أمام محطات الوقود لأكثر من ساعتين أحياناً، ترك انقطاع الغاز خلال فصل الشتاء الماضي الذي انخفضت فيه الحرارة إلى نحو 10 درجات تحت الصفر أثراً بالغاً في نفوس سكان طهران وحياتهم أيضاً. ذلك أن وقف التدفئة في البيوت وأماكن العمل وغيرها تسبب في موت نحو 90 شخصاً في العاصمة وحدها، فيما ارتفع العدد خارج العاصمة إلى اكثر من ذلك بكثير. وعدا عن الذين قضوا من شدة البرد، تسبب الضخ المفاجئ للغاز إلى المنازل بحالات اختناق كثيرة. ويهمس السكان بأن السبب في ذلك يعود إلى أن نوع الغاز الذي ضخ غير مكرر في شكل جيد ولا يصلح للاستخدام المنزلي، سوى ان تلك معلومات لم يؤكدها أي مصدر رسمي... ولم ينفها أيضاً! وأدت الضائقة الاقتصادية التي يعيشها الإيرانيون اليوم إلى جعل كثيرين منهم ناقمين على حكومتهم كارهين دول الجوار وغاضبين من أنفسهم أيضاً، ذلك أن شعوراً عميقاً بالعجز عن تغيير ما هم عليه يتملكهم في شكل شديد. فعهد الإصلاحيين شهد فورة اقتصادية لفئة على حساب أخرى فيما لم يحرز المحافظون الذي جاؤوا بطموحات كبيرة أي تقدم على هذا الصعيد. والواقع أن الإيرانيين لم يعتادوا على أوضاع عصيبة كهذه ولم يشهدوها إلا في سنوات الحرب الإيرانية - العراقية التي لا يمر يوم من دون أن يتذكروها. لذا وبمجرد انقطاع التيار الكهربائي تعود بهم الذاكرة إلى تلك المرحلة وما تحمله من خوف ورعب وعوز. وهم علاوة على ذلك لا يملكون شبكة أمان خاصة تعطيهم حلولاً بديلة أو موقتة كالتي يسمعون عنها في بلد كلبنان. فيتندرون على اللبنانيين بأن تقنين الكهرباء هو كل ما يملكونه لتصديره إليهم! وفي الأحياء السكنية لا إمكانية لشراء مولدات خاصة نظراً لارتفاع سعرها أولاً ولفرض البلدية حظراً على استخدامها لأنها تصدر ضجيجاً إضافياً في مدينة كل شيء فيها يهدر، ولأن السكان مرة أخرى لا يملكون ثمن الوقود الذي تحتاجه تلك المولدات. وحدهم بعض التجار قادرون على هذا الترف الذي بات ضرورة ملحّة لتصريف الأعمال المتأزمة. ويقول شهرام الذي يملك متجراً لبيع الألبسة المستوردة من تركيا في مجمع"فاناك"التجاري أن لانقطاع الكهرباء المستمر تأثيراً"كارثياً"في العمل. ويوضح"عندما ينقطع التيار تحل الظلمة فلا يمكننا استقبال الزبائن وهم يمتنعون عن الدخول أصلاً". ويعمل شهرام في هذه المهنة منذ 17 سنة وانتقل من سوق عادي إلى مجمع تجاري في الأحياء الراقية في شمال العاصمة طهران ليوسع أعماله، لكنه نادم على الاستثمار الذي وضعه في بلد يقول إنه"لا يرى فيه أي أفق". وأضاف بسخرية متوجهاً إلى زملاء تجمعوا أمام أبواب محالهم المقفلة:"هذه حجة لإيهام العالم بأننا بحاجة الى الطاقة النووية... لكنه مجرد تبرير". ويقول محمد طاهري المحرر الاقتصادي في مجلة"شهرفند أمروز"وتعني المواطن اليوم إن تكاليف الحياة ارتفعت جداً في الأشهر القليلة الماضية وبات من الصعب جداً على الأسرة الإيرانية العادية تدبير أمورها في شكل جيد حتى نهاية الشهر. ويضيف:"جاءت الحكومة بوعود اقتصادية كبيرة عن توزيع ثروات النفط وتحسين وضع الطبقة الوسطى والدنيا لكنها لم تنجح في ذلك وكانت النتيجة كارثية". وأوضح طاهري أن السيولة ارتفعت بشدة واندفع الناس إلى الاستهلاك المفرط، ما جعل البعض يعتقد بأن ثمة طبقة وسطى ناشئة وأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية إلى تحسن. لكن الواقع غير ذلك. فنسبة التضخم التي اعترف بها البنك المركزي أخيراً بلغت 21 في المئة فيما يؤكد خبراء مستقلون إن الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير ويناهز ال 27 في المئة. وقال طاهري:"حتى لو سلمنا جدلاً بأن نيات الرئيس احمدي نجاد تجاه الطبقة الوسطى جيدة، إلا أن سياساته المالية الخاطئة أعطت نتائج معاكسة وما عاد أحد قادراً على الاكتفاء بمصدر واحد للدخل، إذ لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 250 دولاراً". وإذ بلغت السيولة في السنوات الثلاث الأخيرة وهي عمر ولاية الرئيس الحالي ضعف السيولة التي استخدمت في إيران على مدى الأعوام المئة الفائتة، اقترح اقتصاديون محو الأصفار من الأوراق النقدية كما فعلت تركيا مثلاً أو تغيير السياسة المالية بسرعة، سوى أن أحداً لم يعر الاقتصاديين أو غيرهم أذناً صاغية. وإذا كان رجل الشارع العادي من سكان طهران غافلاً عن تلك الحقائق والأرقام لانشغاله بتأمين قوته اليومي في ظل ارتفاع الأسعار عالمياً، لا سيما سعر الرز الذي يشكل الطبق الرئيس على موائد الإيرانيين، يبقى ان مصدر الرعب الفعلي هو رفع الدعم في شكل كلي عن الكهرباء في الشهرين المقبلين. فيدفع الإيرانيون اليوم خمس القيمة المتوجبة عليهم من مصاريف الكهرباء وفي حال رفع الدعم كلياً كما يقال سترتفع فواتيرهم خمس مرات عما هي عليه اليوم من دون أن يترافق ذلك مع ارتفاع في أجورهم. وإذا بدا أن المجتمع الإيراني يعول كثيراً على التقديمات الحكومية فلأن الاعتقاد الراسخ هو أن أبناء البلد أولى بثرواتهم، ولأن الثورة قامت في نظرهم على هذا الادعاء بالدرجة الأولى، ولأن الباب أمام تدخل القطاع الخاص في المرافق الحيوية موصد كلياً. وثمة رأي سائد يأخذ به كثيرون من سكان طهران مفاده أن فرض سياسة التقشف المبالغ فيها هو وسيلة رسمية لممارسة ضغط إضافي على الإيرانيين لجعلهم يلقون اللوم على"الغرب"، لا سيما مع العقوبات الجديدة المفروضة من الاتحاد الأوروبي، بدلاً من البحث في الأخطاء السياسية والاقتصادية التي تمارسها الحكومة. وهي وسيلة تثير ضحك الطبقات المثقفة والتجار من أمثال شهرام، لكنها تعطي ثمارها مع الطبقات العاملة والفقيرة وصارت غالبية التي تشكل القاعدة الانتخابية الرئيسة للرئيس أحمدي نجاد وهي التي أوصلته إلى سدة الحكم. فمن بين المؤيدين الفعليين لخط الرئيس هؤلاء"المستضعفون"الذين رأوا فيه واحداً منهم. إنه ابن الشعب"المستضعف"كما يقول عن نفسه في الخطب التي يتوجه فيها إلى الداخل وخصوصاً في المحافظات ويلفظها الإيرانيون مستظآف يسكن شقة بسيطة في جنوبطهران ولم يكوّن أي ثروات مثلما فعل غيره من رموز الإصلاحيين المتهمين بتجميع ثروات على حساب الطبقات العاملة. وهذا واقع لا ينكره الإصلاحيون أنفسهم، لا بل يخبرون قبل غيرهم دعابة تتناول الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني وتقول ان الرئيس سئل ذات مرة من أين له كل تلك الثروات فأجاب:"ابتاعت العائلة قطعة أرض لنستثمرها ونعيش منها... فإذا بإيران في وسطها!". ولعل المضحك المبكي في وضع من هذا النوع هو ان تلك القاعدة الشعبية نفسها الباحثة عن سبل حياة أفضل ودخل أعلى ومستقبل واعد لأبنائها لن تتمكن من تحقيق أحلامها التي وعدها بها الرئيس أحمدي نجاد ما لم يغير هو نفسه سياساته وبعض وعوده. لكن، وبانتظار حل تلك الأزمات، يقضي سكان طهران أيامهم لاهثين وراء لقمة العيش، فيما الأمسيات تمضي على ضوء الشموع كما في أيام الحرب أو في المتنزهات العامة بانتظار عودة التيار الكهربائي ومعه بعض مقومات الحياة.