صعدت سلّم العمارة إلى الدور الأول. بحثت عن عيادة طبيب القلب التي كنت أقصدها. وجدتها خلف جدار قصير ممتد بالعرض. كان بابها مفتوحاً على مصراعيه فدخلت من دون أن أقرع الجرس. خلف حاجز الاستقبال استقرت امرأة تلف رأسها في حجاب شفاف من القطن. إلى جوارها جلس شاب انشغل بالتسجيل في دفتر. كانت العيادة مزدحمة بالمرضى. قلت: "مساء الخير. موعدي في الساعة التاسعة ولا أستطيع الانتظار حتى ينتهي الطبيب من كل هؤلاء المرضى". ظلت المرأة صامتة تنظر إليّ. لمحت رؤوس المرضى وهي تلتفت كأنهم أفاقوا فجأة من سبات كانوا غارقين فيه. رفع الشاب وجهه إليّ وقال: "الدكتور تأخر في المجيء ويُوجد قبلك عدد من المرضى". سألت: "كم من الوقت سأنتظر؟". قالت المرأة: "ساعة تقريباً. أغلب الموجودين استشارات". تأملت الجالسين في الصالة. عادوا يُحملقون أمامهم. معظمهم من كبار السن. ربما يشعرون أنهم يعيشون آخر سنيّ العمر. لم أعد مختلفاً عنهم. أصبحت أرتاد عيادات الأطباء بحثاً عن وسيلة لترميم أجهزة الجسم. على مقربة مني امرأة انهارت بجسمها البدين الضخم على المقعد الذي احتلته. تشهق باحثة عن الأوكسجين الذي ينقصها. في الصف المواجه لها شاب زحف شاربه على الجزء الأكبر من الوجه. قدمه الملفوفة في أربطة من الشاش ممدودة أمامه، وعكازه مسنود على الجدار إلى جواره. عند الطرف البعيد لصالة الانتظار شيخ يرتدي الجبة والقفطان ويضع فوق رأسه عمامة بيضاء أسطوانية الشكل، يُغلق عينيه ويفتحهما كأنه نائم في قطار ويخشى أن تفوته محطته. على مقربة منه رجل بشرته انتشرت فيها بثور رمادية اللون. يُتمتم بكلمات المصحف المفتوح بين يديه. قلت فجأة:"سأهبط وأعود بعد ساعة". أخرجت محفظتي من جيب البنطال الخلفي وأعطيت المرأة ثمن الكشف، ثم اندفعت خارجاً من الباب. كانت عيادة الطبيب في حي لم يسبق لي أن ترددت عليه. قررت أن أقضي الوقت في التجول، لكن وأنا سائر على قدمي دهمني الجوع. توغلت في شارع عريض لعلي أجد فيه شيئاً أستطيع تناوله إلى أن أعود إلى البيت. لم أجد ما كنت أبحث عنه فعدت إلى الميدان الذي جئت منه. صادفني شاب وشابة انهمكا في الحديث وفي قضم قطع من"ساندويتش"مصنوع بالخبز البلدي. خاطبتهما قائلاً:"مساء الخير. أبحث عن محل أبتاع منه شيئاً يُمكنني تناوله. ما هذا الذي تأكلانه؟". التفتت إليّ الفتاة بوجه مشرق وضحكت:"دا حوواشي". وأشارت بيدها وهي تُضيف:"المحل هناك في الميدان". شكرتها وواصلت السير، لكن بعد تفكير قررت أن أتفادى مخاطر"الحوواشي"، وأن أبحث عن شيء آخر آكله. انحرفت يساراً في شارع مزدحم بالحوانيت. بعد قليل وجدت نفسي أُحملق خلال حاجز من الزجاج إلى رجل مربع الجسم، عريض الوجه يرتدي ملابس بيضاً. كان يقوم بفرد قطعة من العجين بمرقاق على سطح من الرخام سكب عليه قليلاً من الزيت فلمع في ضوء"الفلورسنت". خلف حاجز الزجاج مباشرة كانت تُوجد أوان مرصوصة وضعت فيها المأكولات لحشو الفطائر مكومة في شكل أهرامات صغيرة. كانت جدران المحل مبطنة بالقيشاني الأبيض تتخلله رسوم خضر زاهية اللون، وكان كل شيء فيه يُوحي بالعناية، فقررت أن أدخل إليه. كانت تُوجد أربع موائد في صالته الصغيرة. جلست إلى مائدة خالية موضوعة في الركن. بعد قليل جاءني صبي يرتدي"مريلة"خضراء وضع على المائدة طبقاً من الكروم، وإبريقاً للماء، وشوكة وسكيناً في منديل من الورق، ثم تبعه رجل يحمل النوتة التي يُسجل فيها ما يُطلب منه. أبيض البشرة، مستدير الوجه، خطر في بالي أنه يُشبه الفطائر التي تُصنع في المحل. في الصالة جهاز للتسجيل يُذيع أغاني قديمة لمحمد عبدالوهاب وصالح عبدالحي وغيرهما. تسللت إليّ الأصوات وحملتني على أمواجها الهادئة بعيداً. مر بعض الوقت ثم أحضر الصبي فطيرة للتونة ساخنة، يصعد منها البخار، ومعها مخللات ملحها قليل. أكلت بشهية مستمتعاً بالطعم اللذيذ للفطيرة وبالأغاني تتردد في أذني، ثم دفعت الحساب وقمت. وأنا سائر في الشارع كنت سعيداً. عشت لحظات أعادتني إلى أشياء كدت أن أنساها، إلى ثقافة وتاريخ وجو بسيط ابتعدت منه. أحسست بالراحة، بأن الحياة جميلة، بأنني قادر على تحمل المصاعب التي أخذت تتراكم في السنين الأخيرة. كانت الساعة تقارب العاشرة عندما عدت إلى العيادة. جلست في الصالة أنتظر. بعد قليل خرجت المرأة البدينة من غرفة الطبيب يُساعدها ثلاثة من الشبان على السير. عندما دخلت وجدت الطبيب جالساً في غرفة صغيرة قُسمت بستارة وُضع خلفها سرير للكشف. تأملت وجهه الأسمر، وشعره الفضي، وأنفه البارز أعلى الشفتين. أحسست من ملامحه أنه أقرب إلى الفنان من الطبيب. قام بمراجعة الصور والتقارير التي أحضرتها معي. وفحصني على سرير الكشف. ثم دار بيننا حوار نصحني أثناءه بإجراء الكشف على شرايين القلب من طريق توصيل قسطرة إليها. أوضح أنه وفقاً لنتائج الفحص قد يتقرر أمر من ثلاثة: إما الاستمرار في العلاج بالأدوية التي أتناولها، أو وضع ما سماها بدعامات في شريان أو أكثر من شريان لتوسيعها بحيث يتحسن تدفق الدم إلى القلب. أما الاحتمال الثالث فقال إنه نقل شريان من مكان آخر في الجسم وزراعته لتعويض العجز في تغذية القلب بالدم. أبلغني أن خبيراً أجنبياً سيحضر إلى مصر، وأنه يُمكنه إن أردت أن يتفق معه للقيام بالعملية بدلاً منه، لكنه أوضح أن الأتعاب في هذه الحالة ستكون ضعف ما سيحصل هو عليه إن تولاها بمفرده. عدت إلى البيت. صوت يهمس إليّ بأنني أصبحت قريباً من نهاية العمر. كانت هذه الفكرة تخطر على بالي من قبل، عندما ألمح وجهي في المرآة، أو الجلد المتدلي من عنقي أسفل الذقن، أو عندما ألاحظ أن خطواتي أصبحت أبطأ، وصارت في بعض اللحظات تهتز، أو عندما يُصيبني الخوف من اجتياز كورنيش النيل بين السيارات المندفعة عليه. في مخيلتي كنت أرى أبي سائراً في الشارع، فأدرك أنني أصبحت أُشبهه في آخر أيامه. الزمن بالنسبة إليّ لم يعد صديقاً كما كان فيالأمس. كنت أتعجب من الذين يقولون أنهم تقبلوا فكرة الموت. عقلي يقول لي ان الموت هو الوجه الآخر للحياة، انه قرينها، ولولاه لما وُجدنا في الأصل. لكن ظللت عاجزاً عن استيعاب هذه الحقيقة. كنت أشعر بالتمرد عليها. لم يكن يتملكني الخوف، ربما شيء من التوتر يُؤثر في تحملي المضايقات التي تعترضني. لكن في ذلك المساء نسيت كل هذا. دار في عقلي حوار حول التفضيل بين الخبير الأجنبي وصديقي الطبيب المصري حسمته أسرتي عندما عدت إلى البيت. أصرت على اختيار الخبير لإجراء العملية على رغم ارتفاع تكاليفها. سمعت نقراً على باب الغرفة. كنت أقرأ في رواية"الأخوة كرامازوف". نحيت الكتاب جانباً والتفتّ. دخل شاب يرتدي زي المستشفى، ويدفع أمامه مقعداً متحركاً. طلب مني أن أخلع ملابسي وعاونني في ارتداء"مريلة"زرقاء اللون. أجلسني في المقعد، ثم فتح الباب ودفعني إلى خارج الغرفة. جاءتني صورة المرضى الذين رأيتهم في المطارات يُنقلون من مكان إلى مكان على المقاعد المتحركة. كانوا عادة من كبار السن. كنت أرى وجوههم الشاحبة وقد حفر فيها الزمن تجاعيده فأتعاطف معهم للحظة خاطفة، لكن بعدها سرعان ما كان يستولي عليّ الشعور بالقبح. أتساءل: تُرى، هل سيأتي يوم أُصبح فيه شبههم؟ كانت الغرفة التي قضيت فيها النهار كالمُبرد، واسعة وجدرانها بيضاء. تنفست الصعداء بعد أن خرجت منها. أرتاح عندما أبدأ في خوض ما لا بد منه. الانتظار بالنسبة إليّ قاتل. انتظرت 13 سنة في السجن. هربت منه مرة وظللت هارباً إلى أن أعادوني إليه فقضيت المدة المتبقية أرسم خططاً للهروب عجزت عن تنفيذها. أثناء الحركة تنزلق الهموم من على ظهري. أتخفف منها، أنطلق مدفوعاً بشغف المعرفة، بالتطلع إلى التجربة التي سأعيشها. اندفع الشاب مسرعاً بالمقعد في الممرات حتى غرفة الانتظار. أحسست بنفسي كالطائر أترك الناس على الأرض واقفين مكانهم. أنشغل بالأحاسيس، فأنسى ما ينتظرني. أحيا في رواية، الرواية التي قد أكتبها. نقلوني من المقعد إلى سرير ودثروني بغطاء من الصوف. استمتعت بالدفء، لكن بعد قليل شعرت بالدقائق تمر فسألت:"كم من الوقت سأبقى هنا؟". لم يرد علي أحد. كانوا منشغلين بالحديث في ما بينهم. رفعت صوتي وسألت من جديد، فهرولت إليّ ممرضة. قالت:"تُوجد حالة واحدة قبلك أوشكت أن تنتهي". حقنتني في الوريد بمادة مشعة حتى تظهر الشرايين المغذية للقلب. لفت ذراعي بكيس انتفخ بالهواء، وأخذت تُحملق في شاشة مُعلقة أعلى السرير. قلت بشيء من الزهو:"ضغطي 130 على 80، ونبضي يزيد عن 50 قليلاً، فقد مارست رياضة العدو سنين". ضحكت:"إنهما هكذا بالفعل". أرقد على منضدة العمليات. الغرفة باردة. وضعوا أغطية على الجزء الأسفل من جسمي. قلت مشيراً إلى الجزء الأعلى:"ضعوا غطاءً هنا أنا بردان". لم يستجب أحد، فكررت الطلب. ظلت الوجوه من حولي كالأقنعة. اقترب رجلان من المنضدة. أحدهما الطبيب الذي يُعالجني. وضع يده على كتفي وسأل:"كيف الحال؟". قلت:"لا بأس". أضاف:"سنحقنك بمخدر. مجرد شكة إبرة". الرجل الثاني قصير القامة، أبيض الوجه، وملامحه عادية لا تلفت النظر. أدركت أنه الخبير الفرنسي. سألني بالإنكليزية:"هل أنت مدخن ؟ هل عندك سكر؟". قلت بالفرنسية:"لا. توقفت عن التدخين منذ ثلاثين سنة، وليس عندي سكر". أرد عليه بلغته. عشت في بلاد الفرنسيين وعركتهم. أغلبهم يتعاملون بتعالٍ مع العرب، وفي اللحظة هذه أُريد أن أُشعره أنني لست أقل مرتبة منه. أحسست بإبرة المخدر تنغرس في اللحم. أعلى المنضدة كانت تُوجد ثلاث شاشات تُظهر القلب والشرايين التي تصل إليه. بدت مثل شجرة سقطت أوراقها. استغرقت في متابعتها لكن جاءني صوت الطبيب الفرنسي آمراً:"ضع يديك تحت رأسك وألتفت أمامك"، فاعتدلت. شرع الطبيبان يتداولان الملاحظات بالإنكليزية. سمعت الفرنسي يقول"أووه، هذا الشريان حالته سيئة، جدرانه متخثرة، وفيها كلس. هذا إلى حد ما لا بأس به. الموجود إلى جواره لا يصلح. الأفضل هو أن ندخل من هنا". بعد كل تعليق يُثني الطبيب المصري عليه قائلاً:"يا... يا... يا...". أي"نعم". قبل العملية كنت أتساءل: تُرى، كم من الزمن تبقى لي مع هذه الشرايين التالفة؟ لكن أثناء العملية تبخرت هواجسي، وظللت مستغرقاً في تتبع الخطوات التي يقومان بها. أعرف أنها تبدأ بإدخال سلك طويل ورفيع للغاية في شريان الفخذ، وتصعيده بالتدريج إلى أعلى حتى يصل إلى شرايين القلب، ثم تمريره بالشريان الذي يُراد توسيعه، وأن التوسيع يتم بواسطة بالون صغير مُثبت في طرف السلك ينفجر تاركاً قطعة مصنوعة من معدن خاص أو من الذهب اسمها"دعامة"لتستقر في الشريان، وتُبعد جدرانه عن بعضها، فيتدفق الدم إلى القلب من دون عائق. تخيلت نفسي ممتطياً البالونة، مبحراً في نهر أحمر كالنيل في موسم الفيضان قبل بناء السد العالي ومنع سريان الطمي في مجراه. تملكني شعور بالانبهار إزاء ما يُعمل لي، إزاء التقدم الذي تحقق في جراحة القلب والذي يُمكن أن يمنحني سنوات إضافية من العمر. شغلتني هذه الأفكار عن وطأة الرقاد والآلام التي زحفت عليّ. مر ما يقرب من ساعة، فسألت:"كم من الوقت تبقى حتى ننتهي؟". اقترب مني الطبيب المصري وقال:"خمس دقائق لا أكثر. وجدنا انه يكفي حالياً تركيب دعامة واحدة، فهي ستؤدي إلى زيادة تدفق الدماء إلى القلب بنسبة خمسين في المئة. بعد ذلك سنرى إن كنت تحتاج إلى خطوة أخرى. الخبير سيعود إلى مصر في زيارة ثانية بعد ثلاثة أسابيع". صباح اليوم التالي خرجت من المستشفى. قادني سائق السيارة خلال شوارع القاهرة. كانت مشمسة. أحسست كأنني عائد إلى الحياة بعد غياب، برغبة في الاستمتاع، في الطعام اللذيذ والشراب، في الرقص على أنغام موسيقى أميركا اللاتينية، في أن أكتب رواية لم أكتبها بعد، في قول ما لم يقله أحد من قبل. تساءلت: تُرى، كم عدد الدقات التي قام بها قلبي منذ أن وُلدت. أخرجت الحاسوب من درج السيارة. وجدت أنها قريبة من بليونين وستمئة وثمانين مليوناً وخمسمئة وستين ألف دقة. تُرى، كم من الدقات يستطيع أن ينبض قلبي إلى أن يتخذ قراراً بالتوقف عن الدق؟